د. محمد حسن البنا
د. محمد حسن البنا


يوميات الأخبار

من فات قديمه.. تاه !

محمد حسن البنا

الأربعاء، 15 يناير 2020 - 06:43 م

 

«فى أحد مصاعدها ولدت فكرة فيلم (غَزَل البنات) آخر أفلام نجيب الريحانى الذى وافته المنية قبل عرضه فى صالات السينما».

أنا من عشاق الفن الشرقى الاصيل، الفن عندى يشمل الابداع الموسيقى والتمثيلى والتشكيلى وغيرها من الاداب والفنون والثقافة، كنت أواظب على مشاهدة قناة روتانا الفضائية «كلاسيك»، لأنها تذيع أغانى العظيمة أم كلثوم، كما تذيع الافلام القديمة لكبار نجومنا فى السينما والمسرح والمسلسلات، سيطرت روتانا على التراث المصرى الدرامى والغنائى فى غفلة من الزمن، بمساعدة فاسدين فى قطاع الاعلام والثقافة، تحت سمع وبصر الحكومة وقت حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، وللاسف لم يتم محاسبة هؤلاء المجرمين، ولم تجر لهم محاكمة بيع تراث مصر الثقافى والفكرى والفنى إلى قناة أجنبية، ومن رأيى أن هذه الجريمة لا تسقط بالتقادم، وهذا يعنى ضرورة فتح ملفات هؤلاء الخونة، حتى لو ماتوا، يتم القصاص منهم من ورثتهم.
لكن مؤخرا عزفت عن متابعتها، بعد أن غيرت فى دوريات الاذاعة خاصة لأم كلثوم، ووجدت ضالتى على الانترنت، حيث خصص الزميل والاعلامى الهاوى المحترم محمد عصفور برامج مميزة على الفيس بوك واليوتيوب لاذاعة تراث مصر الفنى، بعثت له برسالة تؤكد امتنانى لما يقدمه، متمنيا أن يحافظ على هذا التراث حتى تهتم وزارة الاعلام أو وزارة الثقافة بهذا التراث، الذى لا يقاس بما يحويه من قيمة مادية خرافية، بل قيمة فكرية وتاريخية لمصر، قلت له: ما تقوم به عمل عظيم يعوضنا عن سرقة وبيع تاريخنا الفنى والثقافى للفضائيات، شكرا جزيلا، وكنت أتصور انه من موقعه بوزارة الثقافة أو الاعلام أو اتحاد الاذاعة والتليفزيون قد تمكن من توثيق هذا التراث، لكننى اكتشقت أنه خريج كلية التربية بجامعة الاسكندرية، وأنه مدرس سابق بوزارة التربية والتعليم، وأن ما فعله جهد عاشق للتراث الفنى والفكرى. وقد رد علىَّ عصفور بأنه تم عمل مجموعات (كنوز الفن والأدب) للتراث، كمشروع لتوثيق وجمع التراث، قام به بمجهود شخصى على الفيس بوك:
1 ـ جروب (كنوز الفن والأدب) للتراث (الإذاعى). https://www.facebook.com/groups/KonozElFanWalAdab/، 2 ـ جروب (إذاعة الأغانى.. كنوز الفن والأدب) للتراث (الغنائى). https://www.facebook.com/groups/774811239393148/، 3ـ جروب (سينما كنوز الفن والأدب) للتراث (السينمائى). https://www.facebook.com/groups/1768802120090116/ ، 4 ـ جروب (تليفزيون كنوز الفن والأدب) للتراث (التليفزيونى). https://www.facebook.com/groups/783411248511887/، 5 ـ جروب (وثائقيات كنوز الفن والأدب) للتراث (الوثائقى).. https://www.facebook.com/groups/155978391768627/، 6 ـ جروب (مكتبة كنوز الفن والأدب).. للتراث (الصحفى والأدبى). https://www.facebook.com/groups/550547815321745/، 7 ـ جروب (مسرح كنوز الفن والأدب) للتراث (المسرحى). https://www.facebook.com/groups/187082482056843/، 8 ـ جروب (إسلاميات كنوز الفن والأدب) للتراث (الدينى). https://www.facebook.com/groups/1873322716290938/
أدعو القراء الأعزاء لمتابعة هذه المجموعات التراثية الضخمة، التى ترضى كل الاذواق، عسى أن تهتم حكومتنا بتوثيق يشبه ذلك حفاظا على تاريخ مصر، ومن فات قديمه تاه!
عمارة الإيموبيليا
ونحن نتحدث عن تراث مصر وأهمية الحفاظ عليه يأتى مشروع تخرج الطالبة ضحى الشعار من كلية الفنون الجميلة بالزمالك، حول تاريخ عظيم لعمارة الايموبيليا والتى تختزل ذاكرة الزمن الجميل فى 26 شارع شريف باشا بالتقاطع مع قصر النيل وسط القاهرة، كانت نجم المعمار عام 1940، كونها أطول برج سكنى منفذ على طراز الآرت ديكو متخذة تصميماً انسيابيا بسيطاً متجرداً من التفاصيل الزخرفية الكلاسيكية، التى وفدت على العمارة المصرية من أوروبا، وشكلت هوية عمائر منطقة وسط البلد الخديوية، لذا وقفت فريدة شامخة تنادى للانضمام إلى ثقافة الحداثة. اقترجت ضحى عمل لوحات جدارية بخامات مستديمة كالزجاج الملون والفسيسفاء، لتجميل مدخلى الإيموبيليا واستعادة الذى مضى من تاريخها وتذكير زوار ورواد المكان والأجيال اللاحقة بعظمة الإيموبيليا وناسها، حاز المشروع المركز الثالث ضمن مشاريع تخرج شعبة التصوير الجداري. تقول ضحى: بالعودة إلى تاريخ ظهور هذا المبنى، شُغِلَت المساحة التى تحتلها الإيموبيليا بفيلا من ثلاثة طوابق على الطراز المملوكى لفرنسى يدعى: Gaston de Saint-Maurice كان مدرب الخيل الخاص بالخديوى إسماعيل، إذ إن وسط البلد - كما نعرفها اليوم كمركز حيوى فى قلب القاهرة الكبرى- لم تكن سوى منطقة هادئة تعج بالأشجار المورقة بكثافة سكانية منخفضة فى ستينيات القرن التاسع عشر، فلقد خصصها الخديوى إسماعيل لسكنى كبار مساعديه والمقربين منه. إسماعيل الذى تلقى تعليمه فى باريس عائداً منها محملاً بطموح جامح لنقل ما رآه من العمارة الباريسية إلى مصر، والتخلص من نمط (الحواري) والأزقة الضيقة، عازماً على تغيير وجه مصر وإقحامها فى مصاف النهضة الأوربية. فى عام 1884، اشترت السفارة الفرنسية فيلا جاستون وظلت ضمن ملكيتها حتى منتصف 1930، عندما بيعت إلى أحد أقطاب الاقتصاد المصرى فى زمانه: أحمد عبود باشا الذى هدم الفيلا وبنى الـ Immobilia عوضاً عنها. طُرِح مشروع تشييد الإيموبيليا فى مسابقة معمارية وتقدم له أكثر من ١٣ متسابقاً، ليقع الاختيار على تصميم مشترك بين: ماكس أدرعى والمعمارى الإيطالى جاستون روسيو لينالا جائزة المركز الأول التى بلغت قيمتها ٦٠٠ جنيه، وتضافرت فى بنائها عدة شركات إيطالية وفرنسية. كان لها من اسمها نصيب الأسد، فبالعودة إلى الجذر اللاتينى «immobile» نجد أن من سماها أراد أن يبتنى صرحاً ثابتاً راسخاً عصياً على عوامل الزمن، وبالفعل كانت هذه إحدى الميزات التى استخدمت فى حملات التسويق لحث المجتمع على الشراء والاستئجار فيها أن قوة أساسات الإيموبيليا مقاومة للهزات الأرضية، فقد بلغت مساحتها ٥٤٤٤ متراً مربعاً موزعة على برجين: بحرى ويتكون من 11 طابقا والآخر قبلى ويرتفع لنحو 13 طابقاً، ويضم كلا البرجين ما مجموعه 370 شقة، وكانت أول عمارة بها موقف سيارات خاص تحت الأرض يتسع لحوالى 100 سيارة، بالإضافة إلى ابتداع نظام تدفئة خاص يقوم على ثقافة إعادة التدوير، حيث كان يتم التخلص من نفايات الشقق عبر مواسير ضخمة تصل إلى بدروم العمارة، وتجمع حيث تحرق وتوزع الحرارة الناتجة عبر مجموعة مواسير ضخمة موجودة تصل جميع الشقق، لكن العمل بهذا النظام لم يعد قائماً، حتى وصلت المبالغة ببعضهم إلى إكسابها لقب: (هرم مصر الرابع).
وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الإيجار لشقق الإيموبيليا حيث تراوح بين: ٦ إلى ٩ إلى ١٢ جنيهاً، وهى مبالغ عالية جدا بمقياس القوة الشرائية لتلك الفترة التى لم يكن يتجاوز فيها سعر إيجار شقة بمساحة 140 مترا ثلاثة جنيهات كأقصى سعر، لذا اتجهت الحملة التسويقية لتحث الناس على السكن بها من خلال التركيز على عدد الـ 27 مصعدا الموجودة بها حسب فئات ثلاث: بريمو للسكان وسوكندو للخدم أما الفئة الثالثة فكانت للأثاث، وهو ما يرضى غرور علية القوم بالتأكيد.
لكن برغم كل ما سبق فإن أهمية هذا المبنى لا ترجع إلى كونه تحفة معمار زمانه بقدر ما هو مستقى من القيمة التاريخية لكل فرد من مشاهير سكانها، وهم عدد لا يحصى من مشاهير رجالات السياسة والاقتصاد والفن والرياضة، بالإضافة إلى عدد من السياسيين مثل: فؤاد باشا سراج الدين أشهر وزير داخلية قبل ثورة 1952 وإبراهيم باشا عبدالهادى رئيس وزراء مصر، والأمير إسماعيل باشا حسن رئيس الديوان الملكى وابن عم الملك فاروق، وأحمد باشا كامل وإسماعيل باشا صدقى والدكتور عزيز صدقى رئيس وزراء مصر الأسبق، كان فيها مكتب نقيب المحامين أحمد الخواجة، أما من فئة الأطباء فنذكر: الدكتور محمد عطية طبيب الأطفال الشهير، ومن أثرياء اليهود الخواجة سلفادور شيكوريل صاحب المحلات الشهيرة والجواهرجى ريمون صبري.
أحمد عبود باشا نفسه أقام فى إحدى شققها فى الطابق الثاني، واتخذ لنفسه مكتباً لإدارة شركاته فى نفس الدور، وكونه كان رئيساً للنادى الأهلى فقد اعتاد الاجتماع باللاعبين فى مدخل العمارة الذى تتوسطه حديقة صغيرة فيها (فسقية) نافورة. وفى أحد مصاعدها ولدت فكرة فيلم: (غَزَل البنات) آخر أفلام نجيب الريحانى والذى وافته المنية قبل عرضه فى صالات السينما، ومن طرائف القدر أن جميع أبطال الفيلم غزل البنات جيران، كما يذكر أن المخرج صلاح أبو سيف كان فى زيارة أحد الفنانين فى العمارة فتعطل المصعد به وبقى فيه لساعات حتى تم إصلاحه، هذه الحادثة كانت المتسببة بولادة فكرة فيلم: (بين السما والأرض). اجتماع كل هذه القامات فى مكان واحد وفى وقت واحد تقريبا شكّل حالة من الزخم فصار اسمها مرتبطاً بالعصر الذهبى للسينما والموسيقى والمسرح المصري. فى الطابق الثالث شقة رقم 321 سكن نجيب الريحانى أهم أعلام الكوميديا المصرية، وفى الشقة المجاورة له سكن موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذى استطاع الريحانى إقناعه بترك العباسية والسكن بجواره فى العمارة، فاستقر حتى آخر الثمانينيات ثم انتقل لشقته المعروفة فى حى الزمالك، وفى نفس الطابق شقة 311 كان يسكن المطرب الشهير عبد العزيز محمود صاحب أغاني: (يا تاكسى الغرام) و(منديل الحلو يا منديله) وما تزال الشقة تحمل يافطة أفلام عبد العزيز محمود، فى الدور الرابع أقام الفنان محمود المليجى مع زوجته الفنانة علوية جميل، كما سكن الفنان محمد فوزى فى الطابق السابع مع زوجته هداية الملقبة بملكة جمال المعادي، أما الطابق الثامن فشهد زواج أنور وجدى بليلى مراد فى الشقة التى أشهرت بها ليلى إسلامها لاحقاً، كما كانت شركة أفلام أنور وجدى فى نفس العمارة، إلى جوارها شقة الفنانة اليهودية كاميليا الشهيرة بـ (عشيقة الملك فاروق)، كما كان يقطن العمارة الملحن كمال الطويل مع صديقه عبد الحليم شبانة مدرس الموسيقى قبل أن يشتهر ويصبح عبد الحليم حافظ وينتقل للزمالك، وفى العمارة أيضاً شركة أفلام الفنانة ماجدة الصباحى الشقة التى تم فيها التعارف ثم الحب الذى كلل بالزواج بين ماجدة والفنان إيهاب نافع، كما أقامت الفنانة ماجدة الخطيب فى العمارة حتى فترة قريبة قبل وفاتها، وممن سكنوا العمارة أيضاً الفنان والمخرج محمود ذو الفقار والمخرج الكبير هنرى بركات والمخرج كمال الشيخ والفنانة أسمهان والفنان أحمد سالم والمنتجة آسيا داغر حيث مقر شركة إنتاجها.
 ظلت الإيموبيليا ضمن ممتلكات أحمد عبود باشا حتى عام 1961، حيث شمل قرار التأميم كثيراً من أملاكه فأصيب بذبحة صدرية فغادر مصر على إثره ومعه 5 ملايين جنيه وكمية من المجوهرات التى لم يطلها التأميم وبقى فى منفاه حتى وافته المنية، لتؤول ملكية الإيموبيليا لشركة الشمس للإسكان والتعمير حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من أن العمارة لا تزال تحافظ على جمالها وثباتها فإنها تعانى من الإهمال، فازدحم مدخلاها بيافطات إعلانية لشركات ومصالح تجارية، وهو ما سيؤدى مع الوقت لنسيان تاريخها المرتبط بتاريخ العمالقة الذين سكنوها.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة