جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

نقطة نور فى العتمة

جمال فهمي

الخميس، 16 يناير 2020 - 06:41 م

الأديب الفرنسى الكبير أنانتول فرانس (1844ـ 1825) الحاصل على جائزة نوبل للأدب، يعرفه الجمهور فى بلادنا لسببين، اولهما أنه صاحب رواية «تاييس» التى ترجمت مبكرا للعربية وحازت شهرة كبيرة إذ تدور أحداثها فى مصر القرن الرابع الميلادى بين راهب وغانية (تحمل الرواية اسمها) وتتناول مأساة التزمت والتطرف وضيق الأفق.
أما السبب الثانى لمعرفة بعض جمهورنا بأناتول فرانس فهو موقف هذا الأديب الكبير من قضيتنا الوطنية فى مطلع القرن الماضى، إذ ناصر علنا كفاحنا من أجل الاستقلال واستقبل الوفد المصرى الذى سافر إلى فرنسا عام 1919 ضمن جولة أوروبية لشرح القضية المصرية، وكان قد كتب بنفسه مقدمة رائعة لكتاب أصدره كاتب فرنسى بارز آنذاك يدعى فيكتور مرجريت بعنوان «صوت مصر» يدافع فيه عن حق الشعب المصرى فى التحرر، وفى هذه المقدمة أعلن «فرانس»ببلاغة تأييده القوى لنضال المصريين من أجل نيل الاستقلال.
هذا السبب الأخير رغم أنه الأقل شيوعا إلا أنه يشير إلى طبيعة موقف أناتول فرانس الفكرى وانحيازاته الصارمة لمبادئ إنسانية راقية مثل الحرية والعدالة والمساواة بين خلق الله جميعًا، وفى هذا السياق لابد من ذكر حقيقة أن فرانس لم يكن متفردا وحده بهذه الأفكار التقدمية والانحياز للمبادئ السامية، إذ كان يشاركه فى ذلك جمهرة كبيرة من أهم المبدعين فى عصره، إذ ساد بين هؤلاء جميعا إيمان عميق بأن للمثقف والمفكر والمبدع دور مهم فى نضال المجتمعات المحلية وترقية المجتمع الإنسانى كله بحيث تظلل الحياة على ظهر الكوكب قيم التقدم والتحرر والعدالة على أنقاض التخلف والقهر والاستغلال والاستعمار والتمييز بين البشر.
السطور السابقة مجرد مقدمة (طالت قليلا) أقدم بها واحدة من أهم أعمال أناتول فرانس التى ساهم بها بقوة فى قضية «درايفوس»وهو ضابط فى الجيش الفرنسى اتهم آنذاك بالخيانة بينما كل أدلة هذه التهمة الثقيلة هى ديانته اليهودية.
إذن هذه الرواية كانت دفاعا بسلاح الإبداع عن «درايفوس» وأمثاله من البشر الذين يعانون التمييز والاضطهاد والعنصرية المقيتة.
فمن يكون «السيد بيرجيه» هذا الذى تحمل الرواية اسمه؟.. إنه مدرس من أرياف فرنسا يعين بمدرسة فى مدينة باريس التى وصلها وكله إيمان بعدالة قضية «درايفوس»وبراءته من الاتهام الشنيع الموجه له، لقد كانت أجواء المدينة الصاخبة التى هبط إليها هذا السيد تشغى بأفكار وجماعات شتى، الكثير منها تقدمى يناصر قيم الحرية والعدالة والمساواة، لكن باريس فى هذا الوقت كانت تعج ايضا بالرجعيين والانتهازيين، وما نطلق عليهم اليوم «الشعبويين» الذين ينشرون بين جمهور بسطاء الناس أفكارا عدوانية متزمتة تحرض على الكراهية والبغضاء، هكذا يصور لنا أناتول فرانس الصراع المحتدم فى فرنسا مطلع القرن العشرين.
يخوض السيد بيرجيه فى هذا المعترك الصاخب بأفكار تحررية وتقدمية تغلفها مثالية شديدة إذ يسبغ عليها من عنده مسحة رومانسية، فنجده خلال صفحات الرواية يخوض غمار المعارك الفكرية الباريسية ضد الرجعيين بضراوة وهو مقتنع تمام الاقتناع بأن القيم الإنسانية الراقية التى تبشر بها الأفكار الاشتراكية سوف تتحقق وتعم المجتمع فى نهاية المطاف.
الرواية لا تخل من شخصيات تدعو للأمل، فإضافة لبطلها بيرجيه، هناك ـ مثلا ـ العامل «روبار» الذى يبدو نموذجا يجسد قوة الإيمان ببزوغ شمس التقدم، إذ يقول أناتول فرانس على لسانه: «قد نموت يائسين غاضبين لأننا ربما لن نشهد نور أفكارنا وهو يسطع، ولكن لاحقا عندما يحدث الانتصار المحتوم للاشتراكية وترفرف قيمها على المجتمع الإنسانى، عندها سوف تتحرك قدمى فى القبر إلى الأمام».

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة