محمد رجب
محمد رجب


يوميات الأخبار

العمر كله لا يكفى!

محمد رجب

الإثنين، 20 يناير 2020 - 08:09 م

فشلت كل محاولات الصلح.. وظل الأستاذ فهمى بعد أن استقال من عمله قابعا أمام نافذة بيته لعل وعسى يرى زوجته وهى عائدة مع أصغر بناته تعتذر له عما بدر منها فى حقه.

منذ أسابيع قليلة كانت النهاية التى وضعها القدر لخلافات دامت بين زوجين من جيرانى لم تشفع العشرة بينهما ولا العيش والملح فى نسيان الماضى والخلافات..
الزوجة العنيدة رفضت الصلح والتصالح ولو من أجل أبنائهما.. تركت البيت.. والزوج المسكين استسلم للواقع وعاش وحيدا.. لم يعد مهما من يعد له طعامه أو يغسل ملابسه أو ينظف شقته أو يبدد وحدته أو يقدم له الدواء.. أصبحت الذكريات هى كل حياته.. هنا كانت ترقد زوجته إلى جواره.. وهنا كانت تلعب ابنته وهناك كان يذاكر ابنه.. كانت ضوضاء البيت أجمل من كل سيمفونيات بيتهوفن.. كان وقتها مازال موظفا يعود إلى بيته عصر كل يوم حاملا لأبنائه وزوجته كل ما طلبوه منه فى الصباح.. وكان حديث المساء بين أفراد الأسرة أعظم لحظات المتعة فى حياته.. لكن بعد كل هذا العمر ضاع كل شيء.. انقلبت عليه زوجته وركبت رأسها.. وأقسمت أن تربيه فى المحاكم.. اخترعت مبررات لم تقنع أحداً! رضخ الزوج لجبروتها خوفا من الفضائح وتركها تغادر البيت بأولادهما.. ربما تذكر الحكمة التى تقول: أربعة لا أمان لهم.. الحاكم وإن قرب.. والزمن وإن صفا.. والعمر ولو طال.. والزوجة وإن طالت عشرتها».. لكنه وإن كان قولا لا ينطبق على كل النساء إلا أن نصيبه أوقعه فى واحدة ممن شملتهن الحكمة.. قالوا له إن زوجته ذهبت إلى المحكمة تطالب بالشقة التى يقيم فيها بعد أن رفعت دعوى طلاق باعتبار أنها أم حاضنة.. وكاد الرجل يبكى وهو يهمس لمحدثه:
> هو أنا طردتها.. الشقة تحت أمرها تيجى فى أى وقت.. لكن أنا أخرج منها ليه.. وأروح فين؟
وجاءه رسول من زوجته يحذره من البقاء فى الشقة ويطلب منه أن يحل الموضوع وديا بالرحيل من نفسه بدلا من حكم المحكمة الذى سينفذ بالقوة الجبرية.. وبكى الرجل أمام إصرار زوجته التى ترفض الإقامة معه فى شقة واحدة!.. ولم يجد فى النهاية سوى أن يستجمع قوته ويعلن لرسول زوجته رفضه مغادرة شقته.. وصاح قائلا:
> يبقى البوليس يطلعنى بالقوة.. منها لله.
فشلت كل محاولات الصلح.. وظل الأستاذ فهمى بعد أن استقال من عمله قابعا أمام نافذة بيته لعل وعسى يرى زوجته وهى عائدة مع أصغر بناته تعتذر له عما بدر منها فى حقه.. لكن مضت الأيام دون أن ترجع فاتن إلى زوجها ذات صباح أو مساء.. لم يدر أنها ذهبت للمحكمة واتفق محاميها مع المحضرين وتوالت الجلسات من خلف ظهره.. أرسل محاميها الإعلانات المفبركة إلى الزوج مرة تلو الأخرى والأستاذ فهمى لا يحضر أية جلسة حتى صدر حكم لصالح الزوجة بتسليمها الشقة.
كانت فرحة عارمة ملأت قلب فاتن.. كأنها انتصرت على عدو غاشم لم يكن بينها وبينه هذا الحب والحنان وهؤلاء الأولاد وتلك الأسرار التى شهدت عليها جدران البيت.. اصطحبت الشرطة.. وذهبوا إلى الشقة.. طرقوا الباب طويلا دون أن ينفتح.. قالت الزوجة للضباط إنها حيلة من زوجها حتى لا يسلمها الشقة.. كسر الضباط الشقة.. كانت المفاجأة.. الأستاذ فهمى فارق الحياة ربما قبل شهر أو شهرين دون أن يشعر به أحد.
المفاجأة أخرست الجميع.. وفجأة.. انهمرت دموع فاتن.. ربما لأنها لم تشعر بلذة الانتصار.. وربما كانت دموعا للاعتذار بعد فوات الأوان.. لكنه اعتذار لا يكفى حتى لو ظلت تبكى العمر كله فالعمر كله لا يكفى للتكفير عن هذا الذنب.
 فين طريقك فين؟
لا أعرف إن كنت أحبه أم أكرهه.
لست واثقا من أننى أريده أو أرفضه.. لا أعرف إن كان يسعدنى.. أم يشقينى.. يقولون إنه صديق من الأوفياء ومخلص لأصحابه.. ينمو بين أيديهم دون أى جهد وينمو معه أصحابه عملا بمبدأ «من جاور السعيد.. يسعد».. ولأننى من طائفة عباد الله الذين جاوروا الحداد وانكووا بناره فقد كانت أمنيتى أن أجاور سيادته ولو من بعيد.. وقالو إنه ساحر خطير يجلب وجوده معك الحظ ويخرس ألسنتة الخصوم، بل ولديه قدرة على إفساد الذمم.. المهم أنه طوع صاحبه يحقق له ما يريد بإشارة من يده أو توقيع على شيك.. ولأنى أكره السحر والسحرة وجدتها فرصة وظللت أهاجمه دون أن يعبأ بهجومى أو يهتم بغضبى.. ووصفوا إخلاص سيادته لصاحبه بأن سعادة صاحبه يمكنه أن ينام فى بيته ولا يغادره أبدا وسواء قضى الوقت فى التسلية والملاعبة والمداعبة أو فى الشخير والنعاس، ففى كل الأحوال سوف يرسل سيادته إلى صاحبه أول كل شهر عشرة آلاف جنيه، آه والله عشرة آلاف جنيه أول كل شهر مع وافر الاحترام والتقدير من مدير البنك، مكافأة لهذا الخامل النائم.
إنه المليون جنيه.. أو أرنب باشا...
ذات يوم سألت نفسى: طالما أننى أعمل ليل نهار، أمسك بالقلم وهات يا كتابة أكثر من أربعين سنة فلماذا لم أصل إليه؟ ولماذا لم يتعطف هو ويسأل عنى ولو مرة واحدة ليريح ضميره أمام إنسان من عباد الله أمثالى انحنى ظهره وشاب شعره ووهن عظمه فى بلاط صاحبة الجلالة والتأليف السينمائى وتأليف أكثر من ثلاثين كتابا.. وإذا كان «أرنب» باشا لا يشرفه أمثالى فمن هم أصدقاؤه الذين يتكالب عليهم ويتكالبون عليه؟.. زمان كنت أعتقد أن هناك «كلمة سر» لا يعرفها غير المحظوظين الذين يتحولون بقدرة قادر إلى مليونيرات.. نعم يأخذون اسم سيادته كمن يتبنى طفلا ويمنحه اسمه.. إنه سيدنا «المليون» الذى كنت أتذكر سيادته كلما سمعت صوت الموسيقار الراحل الكبير محمد عبد الوهاب وهو يشدو قائلا:
> فين طريقك فين.. وبيروحوا له منين.. يا قريب وبعيد.. شوقى لك بيزيد.. عندى لك مواعيد وانت معايا مش دارى.. فين.. فين.
الواضح أن «أرنب باشا» لم يستخف دمى ولم يتقبلنى ولم يعترف بالجهد الذى أبذله مثل الملايين من خلق الله الكادحين فوق الأرض، وهو الجهد الذى يفوق الجهد الذى يبذله بعض الملايين من خلق الله الآخر أعضاء نادى «المليون».. وكان يحيرنى دائما سؤال لا يبرح خاطرى: لقد قامت الثورة فى يوليو 1952 وحددت الملكية للفرد والأسرة بعدة فدادين وأممت الشركات والمصانع، فمن أين أتى المحظوظون بكل هذه الملايين فى ثلاثين سنة وبالتحديد فى السبعينيات؟.. دلونى على تجارة واحدة أو عمل شريف فى مصر يحقق لصاحبه أرباحا بملايين الجنيهات فى زمن قياسى.. نعم هناك أجهزة رقابية وقضائية تمسك باللصوص وتجار المخدرات والعملة ونجوم الفساد الذى ظهر فى البر والبحر.. لكن لا نكاد نرتاح من قضية حتى تظهر قضية أخرى.. ولاي كاد يدهشنا صاحب منصب مرموق سقط فى يد العدالة حتى يظهر فنان أو مذيعة أو رئيس هيئة أو محافظ سابق فى قفص المليونيرات أمام المحكمة.. ومعنى هذا أن بيننا مليونيرات آخرين لم يتم القبض عليهم الآن وموعدهم غدا، فكل الذين تم القبض عليهم وأضاعوا مستقبلهم وشردوا عائلاتهم لم تردعهم القضايا السابقة عليهم والسقوط المروع لزملاء المليون قبلهم.. ومنذ سنوات قليلة توقفت عن التفكير فى حكاية أرنب باشا وأصحابه.. فلم أكن يوما ممن يحلمون بالقصور والسيارات الفارهة وأرصدة البنوك والسفر إلى أوربا.. أبدا لم تكن هذه أحلامى لإيمانى بأن كل ما فوق الأرض زائل.. لكن تفكيرى كان ينحصر فقط فى أن أقدم أبناء صالحين للمجتمع الذى أعيشه.. وأن أظل شريفا حتى الموت فلا أعطى الفرصة لإنسان مهما بلغ نفوذه أو سطوته أو منصبه أن يوجه لى اتهاما يسيء إلى أولادى قبل أن يسيء لى.. فالشرف ليس ترفا وإنما نعمة وتاج فوق رأس الكادحين لا يراه سوى اللصوص.. وهكذا تصالحت مع نفسى وطردت الفكرة والسؤال وحمدت الله أنى لم أتورط يوما فى غرام المليون وهوى أرنب باشا.. خاصة والمليون نفسه لم يعد يملك بريقه القديم ولمعانه الساحر بعد أن صار كل من هب ودب يقتنيه ويملكه وأحيانا يحتفظ به فى بيته ويرسل بإخوته إلى البنك.. لم أعد اتلفت حولى فأجد مليونيرات فى كل مكان حتى فى الشرابية مسقط رأسى وكان هذا الحى الشعبى كله من العائلات التى تعرف بعضها البعض من الحفيد لجد الجد، وفجأة ظهر المليونيرات وانزوى المثقفون وأصحاب المناصب الذين لا يملكون سياراتهم وفيلاتهم وأرصدتهم.. انزوى أصدقائى أصحاب المؤهلات العليا والمناصب المحترمة وأصبحنا نجلس كل أسبوع تحت إحدى الأشجار نتحدث فى كل شيء إلا المال لأنه ليس بيننا خبير واحد فيه، بينما بعض أبناء هذا الحى الفقير أصبحت سهراتهم فى العوامات وفنادق الخمس نجوم بصحبة الراقصات والمطربات وعشاق الليل!
انتهى عصر المليون وبدأت إرهاصات عصر المليار ويبدو أن أصحاب هذا النادى المليارى الجديد فى حيرة شديدة هذه الأيام لأنهم لم يجدوا لحضرة المليار الاسم المناسب له من أسماء الحيوانات والطيور مثل الأرنب باشا.. وربما يفكرون فى اسم من الأسماء البعيدة عن الطيور والحيوانات مثل المغفور له «الباكو».. نعم الألف جنيه فقدت كل أنيابها وباتت عاجزة عن تلبية مطالب أى أسرة مصرية بل أصبحت كالرجل «المربوط» ليلة زفافه.
عموما.. نعمة الستر والصحة هى أعظم من كل كنوز الدنيا.. وملايين الجنيهات أو حتى المليارات لا تساوى ليلة واحدة فى السجن لإنسان.. عنده دم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة