داود الفرحان
داود الفرحان


يوميات الأخبار

إنتبه! أمامك مطبات إخبارية ملفقة

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 05 فبراير 2020 - 06:38 م

أرسل أديسون إلى الصحفى برقية قال فيها: «أرجو التصحيح. إن أعظم مخترع فى العالم ليس أنا.. بل أنت!».

فى بداية الخمسينيات من القرن الماضي، كلف رئيس إحدى الصحف الدمشقية واحداً من أشهر الصحفيين السوريين فى تلك الفترة، واسمه سامى الشمعة، بإجراء حوار مع أشهر رئيس وزراء عراقى وهو نورى السعيد رحمه الله، خلال توقف طائرته فى دمشق قبل مغادرته إلى لندن لإجراء مباحثات مع المسئولين البريطانيين بشأن تعديل المعاهدة البريطانية - العراقية. لكن الصحفى تأخر فى الوصول إلى المطار فطار نورى السعيد إلى لندن من دون إجراء المقابلة. ذهب الصحفى المحبَط إلى أحد مقاهى دمشق وجلس يفكر فى الورطة، فهداه تفكيره إلى استعادة معلومات سابقة أعاد كتابتها اعتماداً على ذاكرته وحوَّلها إلى سين وجيم مع نورى السعيد فى حوار خاص. ونُشر الحوار المزيف فى اليوم التالى تحت عناوين بارزة عن التفاصيل السرية لاجتماع الجانبين البريطانى والعراقي. ودهش نورى السعيد بعد أن فاجأه رئيس الوزراء البريطانى بأن الصحيفة السورية نشرت أسرار ما جرى فى الجلسة المغلقة. ونفى السعيد طبعاً أنه التقى بأى صحفى أو أجرى أى مقابلة، لكنه اعترف أن ما ورد فى الصحيفة صحيح مائة فى المائة. إلا أن بريطانيا لم تقتنع ووجهت احتجاجاً إلى العراق على تسريب وقائع الاجتماع.
 المرحوم يقرأ خبر وفاته
بعد شيوع الإنترنت والهواتف المحمولة ازدهرت صناعة «فبركة» الأخبار والتصريحات والبيانات والأرقام والصور وحتى الوفيات! وقرأت قبل سنوات «خبر» وفاتى على الشبكة الإلكترونية ومازال «الخبر» موجوداً حتى اليوم! وأكثر ضحايا هذا النوع من الوفيات الفنانون من مختلف الجنسيات، ولا أعرف فى الواقع ما هى «اللذة» التى يشعر بها «مفبرك» هذا النوع من الأكاذيب التى لا معنى لها.
وفى السنوات الأخيرة شهدت المجتمعات التى تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير تأسيس منظمات وجمعيات تستعين بتكنولوجيا جديدة تدقق الأخبار والتصريحات والأرقام لمحاربة التضليل و»الفبركة». ففى بريطانيا هناك منظمة «الحقيقة الكاملة» وفى الولايات المتحدة منظمات للتحقق من دقة تصريحات المسئولين السياسيين الأمريكيين من بينها «فاكت تشيك» و»بوليتيفاكت» وهى تتولى مطاردة الأخبار الزائفة وتكذيبها فوراً. أما صحيفة «لوموند» فقد وجدت حلاً آخر فى قاعدة بيانات تحمل تسمية «إحباط الخدع» تهدف - كما تقول الصحيفة - إلى استئصال المعلومات الكاذبة من خلال محرك بحث على الإنترنت يضع علامة حمراء على الأخبار الملفقة وصفراء إذا كان المصدر غير دقيق وخضراء إذا كان الأمر سليماً.
قبل عقود قليلة كان «المانشيت» المفضل فى العراق للصحف اليومية أو الأسبوعية ضعيفة التوزيع هو: «زيادة رواتب الموظفين» أو «إطلاق سلف الزواج» أو «بشرى سارة للموظفين» أو «منحة نصف راتب للموظفين» أو «توزيع أراض على محدودى الدخل» أو «تخفيض مدة محكومية السجناء». وكما تقرأ فإن الموظفين ومحدودى الدخل هم هدف مثل هذه العناوين الرئيسية التى لا أساس لها من الصحة لأنهم يشكلون النسبة الأكبر بين قراء الصحف. كانت السياسة هى الاهتمام الأخير بين الحواس الخمس للقراء، خاصة الموظفين.
 سكرتير نجل الرئيس صدام
ولا يتوقف سيل «الفبركات» على وسائل الاتصال الاجتماعى أو الصحف، وإنما يمتد إلى مستشارى بعض المسئولين. وكان أحد هؤلاء المستشارين أو السكرتاريا يدهشنى بسرعة بديهته وحفظه للأسماء والتواريخ والأعداد والأرقام عن ظهر قلب كلما توجه إليه المرحوم عدى النجل الأكبر للرئيس الراحل صدام حسين باستفسار عن هذا الموضوع أو ذاك. كان عدى يتحدث بصفته نقيب الصحفيين فى أحد الاجتماعات مع مجلس النقابة عن معركة حطين بين المسلمين والصليبيين فى عام 1187م بالقرب من بحيرة طبرية فى فلسطين، ثم استدار نحو مستشاره وسأله: كم كان عدد جنود القائد صلاح الدين الأيوبي؟ فَردّ بسرعة 750 فارساً! وحين عدتُ إلى المنزل راجعت إحدى الموسوعات فتبين أنهم كانوا ثلاثين ألف محارب! وسأله فى اجتماع آخر: كم يبلغ إنتاج شركة «بيبسى كولا» فى العراق يومياً؟ وبدون أن ترمش عينا المستشار أجاب: 1250 صندوقا! واتضح أن الرقم هو مائة ألف صندوق! وفى الحالتين كانت الأرقام لدى الأخ المستشار لا صحة لها لكنه خشى أن يقول لعدى إنه لا يعرف أو لا يتذكر الرقم الصحيح فيتم الاستغناء عنه! وطبعاً لم يكن فى العراق فى تلك السنوات من التسعينات إنترنت أو جوجل أو ويكيبيديا لمساعدة المسئول فى الوصول إلى الأرقام والمعلومات والتواريخ، فكان السكرتير أو المستشار هو آينشتاين وابن بطوطة والأصفهانى وابن الهيثم وابن سينا وأبو نواس وجحا وزرياب وعنترة بن شداد وكارل ماركس ودائرة المعارف البريطانية ومؤلف كتاب «ألف نكتة ونكتة»! والحال نفسه ينطبق على معظم الدول العربية، ولذلك فإن ميزانيات الخطط الخمسينية مثل اللحاف القصير؛ إذا غطيت قدميك انكشف رأسك والعكس صحيح.
حتى الدول المتقدمة كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان وكندا وألمانيا تعانى من «الفبركات» الصحفية والتليفزيونية، لكن القضاء فى تلك الدول كفيل بمعاقبة الجناة إما بالسجن أو الغرامة أو التعويضات التى تصل إلى ملايين الدولارات إذا تسبب الخبر الكاذب بأذى مادى أو معنوي.
 يوم من عمرى
يتذكر بعض مشاهدى الأفلام السينمائية أن فيلماً أمريكياً أنتج فى عام 2016 تدور قصته فى عام 1982 عن قيام مجلة «دير شبيجل» الألمانية بإيفاد اثنين من صحفييها البارزين إلى الإكوادور لتغطية انقلاب عسكرى هناك. لكنهما أضاعا فى المطار الحقيبة التى وضعا فيها جوازى السفر والنقود التى مُنحت لهما لإجراء تغطيات واسعة عن الانقلاب والانقلابيين. والحل؟ الحل الذهاب إلى أقرب مقهى، حيث جلسا يكتبان «مشاهداتهما»! لكن مجلة «دير شبيجل» كررت «المقلب» رغماً عنها عندما أوفدت صحفياً فى عام 2018 إلى سوريا لتغطية أحداث العنف هناك. وأحدثت تقارير الصحفى أصداء واسعة عن دور الشباب السورى فى الثورة، وبلغت نحو ستين تقريراً نُشرت فى النسختين الورقية والإلكترونية من المجلة الشهيرة، ثم تبين أنها تقارير ملفقة، فاضطر إلى الاستقالة بعد أن فاز بجائزة «مراسل العام» السنوية المعتبرة. واضطرت المجلة إلى الاعتراف بصدمتها بهذا التلفيق الواسع النطاق وفتحت تحقيقاً لمعرفة كيف تم نشر هذه التقارير الكاذبة رغم وجود طاقم متخصص للتدقيق فى صحة التقارير والأخبار والصور. ولدينا فى السينما العربية فيلم يشبه ذلك الفيلم الأمريكى يحمل اسم «يوم من عمري» من بطولة عبد الحليم حافظ وعبد السلام النابلسى اللذين أرسلهما رئيس التحرير محمود المليجى إلى مطار القاهرة لإعداد تحقيق مصور عن وصول ابنة أحد الأثرياء (زبيدة ثروت)، ولسوء الحظ هربت زبيدة ثروت من خطيبها صلاح نظمى فاحتار عبد الحليم والنابلسى فى الأمر ولجأ الاثنان إلى كتابة وتصوير تحقيق ملفق عن وصول العروس.. إلى آخره!
 جائزة بوليتزر لصحفى محتال
من التلفيقات الصحفية الشهيرة ما حدث للعالم الأمريكى توماس أديسون مخترع المصباح، فقد كان يتمشى يوماً فى إحدى حدائق فيينا فأقبل عليه أحد الصحفيين لإجراء مقابلة، لكن أديسون لزم الصمت ولم يرد عليه بكلمة واحدة. وما كاد أديسون يرحل حتى لفق الصحفى حديثاً مستفيضاً بينه وبين أديسون، ونسب إليه أقوالاً كثيرة. فلما اطلع أديسون على الحديث المنشور تحت عنوان «أديسون أعظم مخترع فى العالم» أرسل إلى الصحفى برقية قال فيها: «أرجو التصحيح. إن أعظم مخترع فى العالم ليس أنا.. بل أنت!». أكثر من مرة مُنحت جائزة «بوليتزر» الصحفية، وهى تعتبر أوسكار الصحافة، إلى صحفيين لفقوا قصصاً لم يشاهدوها مثل تحقيق صحيفة «لونجفيو ديلى نيوز» التى غطت انفجار أحد البراكين كما رآه من طائرة هليكوبتر فريقها الصحفى وتم منحها الجائزة فى عام 1981 ثم تبين أن التغطية خرافية ولم تكن هناك رحلة جوية!
 نيويورك تايمز فى الفخ
وفى مرة أخرى ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» عام 1982 أن كاتباً أمريكياً من خارج الصحيفة اعترف بأنه لفق تحقيقاً تم نشره عن رحلة قام بها مع رجال حرب العصابات من الخمير الحمر فى كمبوديا من دون أن يغادر إسبانيا التى كان يقيم فيها. انتشرت على تويتر مؤخراً «تنهيقة» على غرار «تغريدة» مفادها أن على المتظاهرين فى أى دولة الذين يعانون من قمع السلطات الأمنية أن يشتروا 2500 علم من أعلام الأمم المتحدة ويرفعوها فوق رءوسهم، وعندها ستتدخل الأمم المتحدة وتقرر حل مجلسى الوزراء والنواب فى تلك الدولة وإعادة الانتخابات! وبذلك لا نحتاج إلى ثورات ولا انقلابات ولا اعتصامات ولا هتافات، ويمكننا أن نحل مجلسى الوزراء والنواب كل شهر!
باختصار: الوعى الشخصى لدى مستخدمى شبكة التواصل الاجتماعي، وجمهور الناخبين، والشعب عامة هو الجهاز المناعى ضد التضليل. لكننا نقع دائماً ضحايا أخبار وتلفيقات ليست لها نهاية مثل ذلك الخبر الكاذب الذى أرسله لى أحد الأصدقاء يحذرنى فيه من وضع الهاتف الخلوى قريباً منى فى إحدى الليالى بعد أن أعلن «تليفزيون سنغافورة» أن الهواتف ستنفجر فى تلك الليلة الليلاء بسبب مشكلة فضائية! وحتى الآن لا أعرف لماذا انفرد تليفزيون سنغافورة بهذا الخبر الخطير!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة