أمنية طلعت
أمنية طلعت


حبوا بعض

أمنية طلعت

أمنية طلعت

الأربعاء، 05 فبراير 2020 - 07:06 م

فى الأسبوع الأخير من شهر يناير الماضي، لقيت الناشطة التونسية فى مجال حقوق المرأة والأستاذة الجامعية لينا بن مهنى ربها بعد أن وصلت إلى آخر محطات صراعها مع مرض الفشل الكلوي، بعد أن تبرعت لها والدتها بكلية بثت فيها الروح لسنوات، مكنتها من حفر اسمها فى التاريخ العربى كله.


عاشت لينا بشجاعة منذ نعومة أظافرها، فلقد نشأت فى بيت واحد من كبار المعارضين لنظام زين العابدين بن علي، سجلت بكاميرتها وقلمها أحداث الثورة التونسية وخاضت معركتها من أجل حرية التعبير وتحقيق المساواة والعدالة بين المرأة والرجل فى بلادها دون أن تسمح للمرض بأن يعرقل مسيرتها نحو هدفها متجاهلة جسدها الذى يتداعى لحظة بعد أخرى.


ربما لم أتأثر كثيراً عندما سمعت خبرَ وفاتها، فأخبار الحوادث القاتلة تتواتر على أسماعنا خاطفة زهورا يانعة لم تنثر عبيرها بعد على صفحات العالم، لكننى عندما شاهدت جنازتها، علمت أن طاقة كبرى توارى جسدها فقط تحت الأرض، لكنها مازالت تسرى بيننا.


أصرت صديقات لينا على حمل نعشها من منزلها وحتى المقابر رغم اعتراض كثيرين بأنه ليس مسموحاً للنساء بحمل النعوش، لكن الفتيات رفضن وأصررن على حملها طوال الطريق. تعلو زغاريد النساء اللائى ملأن الجنازة، وتلوح أخريات بالورود البيضاء والحمراء وهن يغنين: «حماة الحمى يا حماة الحمى، هلموا هلموا لمجد الزمن. لقد صرخت فى عروقنا الدما، نموت نموت ويحيا الوطن».


كانت الجنازة أشبه بزف عروس إلى عريسها، بين ورود تتناثر وغناء وزغاريد. رفرف قلبى نحو هذه الفتاة التى رحلت عن عمر ناهز 36 عاماً، لكنها عاشت حياةً كاملة، وهبتها لوطنها وخاصة النساء من بنى جلدتها، تدافع عن حقوقهن فى حياة كريمة، وسط مجتمع عربى يمنح الرجل فوقية مكتسبة بقوة التاريخ والأعراف.


آلاف يزفون لينا نحو قبرها ويرفضون تركها وحيدة فى ساعاتها الأولى على الجانب الآخر من شاطئ الحياة، فظلوا يغنون لها أغانى الوداع والحب بين ترديد وتصفيق حتى يطمئنوا أن سفينتها قد أقلعت نحو العالم الآخر.
يستنكر الناس حمل النساء لنعش لينا، ويستهجنون غناءهن وزغاريدهن بأن هذا مُنافٍ للأعراف والتقاليد، فالنساء مكانهن المنزل أو الخرس حتى وهنَّ يودعن بعضهن البعض، لأننا نحن النساء، مشاعرنا حرام وصوتنا عورة وضعاف القلوب ما يفتح عمل الشيطان!


صديقات لينا رفضن رفض المجتمع وخرجن متحديات له، مدافعات عن حقهن فى توديع من دافعت عن حقوقهن طوال عمرها القصير، فمن حقها أن تكون بين أيدى رفيقاتها وهى تسير مشوارها الأخير. وداعاً «بنية تونسية».

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة