سليمان قناوى
سليمان قناوى


يوميات الأخبار

«تعال نلضم أسامينا»

سليمان قناوي

الخميس، 06 فبراير 2020 - 07:34 م

 

«من حق كل صحفى ومهندس وإدارى وعامل أن يزهو بداره ويلضم اسمه بأخبار اليوم ليصبح اسم الدار مكونا ثالثا يضاف لاسم الزميل والعائلة».

كان حلما فخاطرا فاحتمالا. ثم أضحى حقيقة لا خيالا. تمتمت بهذه الشطرة من قصيدة "قصة السد" للشاعر عزيز أباظة، وأنا خارج لتوى من مكتب الراحل العظيم الأستاذ موسى صبرى، قابضا على أوراق اعتمادى بالعمل صحفيا بمؤسسة أخبار اليوم فى 13 يوليو 1976، هذه الأوراق فى الحقيقة لم تكن سوى ورقة واحدة، لكنها تساوى كل الشهادات التى حصلت عليها حتى هذه اللحظة. الورقة عبارة عن خطاب موجه من موسى صبرى رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير الأخبار إلى الدكتور حسن رجب المشرف على قسم التحقيقات الخارجية، كتب فيها "دكتور حسن.. حامله زميل المستقبل سليمان قناوى، امتحنته السيدة مها عبد الفتاح ورأت أن مستواه يصلح للعمل بالأخبار". كان الانضمام لجريدة الأخبار حلما عشته منذ أن وطئت قدماى البهو الرئيسى للمبنى التاريخى لأخبار اليوم وكان ذلك عام 1972. كنت قد التحقت بكلية الإعلام جامعة القاهرة فى العام الجامعى 1971/1972، وكان قد بدأ إصدار جريدة صوت الجامعة كتجربة رائدة للراحل العظيم أستاذنا جلال الدين الحمامصى رآها الوسيلة الوحيدة القادرة على توفير تدريب عملى للطلاب على إصدار جريدة من الألف إلى الياء حيث كنا نقوم بكل دورات العمل من جمع الأخبار وتحريرها إلى تحويلها لسكرتير التحرير ليقوم بإعداد الماكيت وانتهاء بقيامنا بتوزيع الجريدة. كانت صوت الجامعة تعد وتطبع بدار أخبار اليوم. وقد وفر لنا الأستاذ جلال الحمامصى أساتذة عظام تولوا تدريبنا يتقدمهم الكاتب الراحل القدير د.صلاح قبضايا وأستاذنا محمد عبد الحميد. يوم 13 يوليو 1976 وبعد تخرجى، قررت التوجه إلى دار أخبار اليوم بحثا عن تحقيق حلمى الخاص الذى عشته على مدار أربعة أعوام بكلية الإعلام وكان مثل حلم بناء السد العالى الذى عشناه بكل جوارحنا فى ستينيات القرن الماضى. تصادف أن التقيت فى ذلك اليوم بردهة الدور المسحور بمبنى أخبار اليوم بأستاذنا صلاح قبضايا، وبذكائه اللماح استشف سبب مجيئى، فبادرنى بالسؤال: مستواك إيه فى اللغة والترجمة من الإنجليزية إلى العربية. عايزين محرر فى قسم الشئون الخارجية على أن تمتحن الآن "أجبت فرحا" مستعد يا أستاذ "صلاح". أخذنى من يدى إلى الأستاذة مها عبد الفتاح المحررة الدبلوماسية للأخبار وعميدة محررات السلك الدبلوماسى. أعطتنى برقية من وكالات الأنباء لترجمتها، فاستجمعت كل ما تعلمته على يد أستاذى الراحل كمال عبد الرءوف فى مجال الترجمة الصحفية على مدى أربع سنوات، وحالفنى التوفيق بالترجمة الصحيحة للبرقية، كل ذلك وأنا جالس والدم قد نشف فى عروقى، فلاحظت ذلك أستاذة مها وحاولت أن تخفف من توترى "أنت قلقان ليه.. الترجمة سليمة" لكن لم تنته اللحظات العصيبة بعد، فبدأ الامتحان الشفوى الذى أجرته لى أستاذتنا لمعرفة مدى قدرتى على التحدث باللغة الإنجليزية وتوجيه أسئلة بهذه اللغة لمصادر أجنبية لو تطلب الأمر إجراء حوارات معهم. لم أطمئن بعد ولم أعرف إذا كنت قد أتممت الامتحان الشفوى بشكل صحيح أم لا. حضر الدكتور صلاح قبضايا وأخذنى من يدى دون أن أدرى مصيرى، إلا أن الأمر لم يستغرق سوى دقائق قليلة هى المسافة بين مكتب الأستاذة مها ومكتب رئيس مجلس الإدارة لأفاجأ أننى خبط لزق أمام الأستاذ موسى صبرى.. تخيلوا كيف تكون مشاعر خريج غض يقف فجأة أمام رئيس مجلس إدارة أكبر مؤسسة صحفية فى الشرق الأوسط. قال لى الأستاذ موسى إن الأستاذة مها "أثنت على مستواك ونحن نستعد لتأسيس قسم للتحقيقات الخارجية وإصدار ملحق العالم بين يديك ولحسن حظك ستعمل مع صحفى قدير هو الدكتور حسن رجب، اعطه هذا الخطاب وستبدأ معه من اليوم". لم أجد فى الدكتور حسن رجب المعلم والأستاذ فقط، فكان أيضا نعم الأب الذى شاركنى أفراحى وأتراحى ولم تقتصر نصائحه على الصحافة فقط، بل امتدت إلى كل النصائح التى يحتاجها شاب فى مقتبل حياته العملية. وإلى اليوم كلما مررت على 18 شارع شجرة الدر بالزمالك حيث كان يسكن الراحل العظيم د.حسن رجب أقرأ له الفاتحة جعل الله مرقده الجنة. لم أرد أن أزكى نفسى هنا ولكن أردت أن أثبت أن أخبار اليوم لم تكن إلا أن تنتقى صفوة الخريجين للانتساب إليها، خاصة وأنه قد حدث عام 1976 نقص فى عدد الصحفيين بأخبار اليوم بعد أن استقطب الكاتب الكبير أنيس منصور ما يزيد عن 50 صحفيا وكاتبا من صفوة نجوم أخبار اليوم ليعملوا معه فى إصدار مجلة أكتوبر كأول إصدار صحفى فى مصر منذ خمسينيات القرن الماضى، وكان ذلك من حسن حظ دفعتى -الدفعة الثانية لكلية الإعلام- فقد أتيحت لزملائنا بالكلية فرص عديدة للعمل فأصبحوا فيما بعد نجوما فى عالم الصحافة وتولوا رئاسة تحرير العديد من الصحف.
جمعت الحسنيين
بعد ثلاثة أشهر من بدء العمل بالأخبار، حل موعد أداء شرف الجندية بقواتنا المسلحة، وكان من حسن حظى أن جاء تجنيدى بسلاح الشئون المعنوية، وابتسم الحظ أكثر لأحقق شرف خدمة العلم بمدينة القاهرة، ومن ثم تمكنت من أن أجمع الحسنيين أداء الخدمة العسكرية نهارا والعمل بجريدة الأخبار بعد الظهر صحفيا تحت التمرين، وكان الموعد الطبيعى لانتهاء فترة تجنيدى فى الأول من ديسمبر عام 1977، إلا أن الرئيس السادات كان قد قام بمبادرته لزيارة إسرائيل، وبدأ هجوم شرس فى الصحف العربية على الرئيس السادات وبدأت شائعات حقيرة ومكذوبة بأن مصر تسرح جيشها، ولوأد هذه الشائعات تم تأجيل خروج دفعتنا مرتين الأولى إلى الأول من يناير والثانية إلى الأول من فبراير. وفى أوائل عام 1978، وأنا أدخل كالمعتاد بعد الظهر إلى دار أخبار اليوم، وجدت موظفى الاستعلامات يبلغوننى: "الأستاذ موسى عايزك". استر يارب.. كانت أول كلمة أنطق بها. فماذا يريد منى رئيس مجلس الإدارة، استرجعت على الفور آخر الأخبار والتقارير التى كتبتها لعلنى أتذكر فى أى شيء أخطأت، قطعت المسافة من مدخل أخبار اليوم وحتى مكتب الأستاذ موسى فى الدور المسحور وكأنه دهر بأكمله. بادرتنى زميلتى سهير أبو العلا مديرة مكتب الأستاذ موسى بما ضاعف من قلقى: الريس (نخاطب رئيس التحرير فى مهنتنا بهذا اللقب) سأل عنك أكثر من مرة.. انت فين؟ ادخل فورا.. دلفت من مكتب السكرتارية إلى مكتب الريس وأنا أقدم قدما وأؤخر أخرى.. إلا أن ابتسامة الأستاذ موسى لحظة لقائى هدأت بعض الشيء من روعى.. سألنى: "خلصت تجنيدك ولا لسه.. أكيد ستخرج فى موعدك عشان مبادرة الريس.. أنا باسألك عشان عايز أعينك".. أحسست وكأن الأستاذ موسى بهذه الكلمات قد أمدنى بأنبوبة أكسجين ليهدئ من أنفاسى المتسارعة ويعيد لى روحى التى سحبت منى.. وحين رأيت هذا الوجه الحنون العطوف على أبنائه من الريس.. تشجعت لأقول بصورة مضحكة: منها لله المبادرة (كنت أعلم بالطبع مدى قرب الأستاذ موسى من الرئيس السادات) ضحك الأستاذ: "ليه بس" فقلت: لولاها يا ريس لكنت تستطيع الآن أن تحقق وعدك بتعيينى.
هذا هو الصحفى البارع والكاتب القدير موسى صبرى ذو الوجه الإنسانى الذى مهما اختلفت معه فى أفكاره وآرائه لا تملك إلا أن تحترمه وتحبه فلم يضطهد أبدا أى صحفى أو كاتب اختلف معه فى الرأى ولم يحارب أحدا فى لقمة عيشه.
صفحة 2 بأخبار اليوم
فى أوائل عام 1977 طلب منى أستاذى محمد طنطاوى مدير تحرير جريدة أخبار اليوم، متعه الله بالصحة والعافية، موضوعات وتقارير خارجية لصفحة من أهم صفحات أخبار اليوم فى ذلك الوقت وهى الصفحة الثانية حيث كان يكتب بها أستاذنا الراحل الكبير إبراهيم سعده مقاله الشهير "آخر عمود" وفوجئت بعد نشر التقارير الأولى بالأستاذ طنطاوى يكلفنى بإعداد الصفحة بكاملها، ما أعظمه تكليف وتشريف لصحفى صغير السن، تحت التمرين، لم يمض على عمله سوى سبعة شهور. وهآنذا أجمع الحسنيين مرة أخرى أعمل أساسيا بالأخبار وأنشر بها موضوعاتى وأفعل نفس الشىء فى أخبار اليوم منتسبا إلى جريدتنا الأسبوعية العريقة.
ما ذكرنى بكل ما تقدم الاحتفال باليوبيل الماسى (75 عاما )الذى اقيم فى نوفمبر الماضى بمناسبة مرور على إطلاق أخبار اليوم التى سبقت عصرها بفعل الأفكار الوثابة للعملاقين مصطفى أمين وعلى أمين. ولا أمل من تكرار ما كتبته من قبل، حين سألت "أستاذنا الراحل محمد وجدى قنديل رئيس تحرير آخر ساعة الأسبق" يا ترى لو امتد العمر بمصطفى بك أمين ليشهد عصر الصحافة الإليكترونية التى يجرى تحديثها لحظيا، ماذا كان ليفعل؟ رد الأستاذ وجدى: لقد فعلها بالفعل عام 1956؟ كان من الطبيعى أن يلحظ أستاذنا كل علامات الدهشة والاستفهام والتعجب على وجهى. قال: "لا تتعجب.. أثناء العدوان الثلاثى على مصر كانت إذاعة صوت العرب هى رسول عبد الناصر إلى المصريين تحمل إلى جمهور المستمعين كل رسائله التى يريد توصيلها لشحذ عزائمهم فى مواجهة العدوان، وحتى تخرس بريطانيا هذا الصوت قامت بقصف محطة إرسال صوت العرب فى أبو زعبل" فتوقف البث. علم مصطفى أمين بضيق الرئيس، فاتصل به وأبلغه أن صوته لن يتوقف وسيصل إلى كل المصريين حيث "سأقوم بإصدار أخبار اليوم من صفحة واحدة كل ساعة" ليعلم المصريون تطورات الحرب وقراراتك أولا بأول. تخيلوا حدث ذلك فى وقت كانت الطباعة بالبالوظة ولم تكن مصر قد عرفت طباعة اللينوتيب بعد التى أصبحت ماكيناتها اليوم مودعة بالمتاحف.
لذا من حق كل صحفى ومهندس وإدارى وعامل بأخبار اليوم أن يزهو بداره ومؤسسته التى أمضت 75 عاما تخدم هذا الوطن وتقدم إعلاما وتنويرا وتثقيفا وترفيها رفيعا لم تذل ولم تتهاون فى أداء رسالتها، قد تتعرض لكبوات أثناء عهود الاستبداد وقصف الأقلام، لكنها تنهض سريعا وتعود سيرتها الأولى نصيرا لحرية الصحافة. من حقهم أن يلضموا بها أساميهم (مع كل الاحترام لرائعة فؤاد حداد "تعالى نلضم أسامينا" ليصبح اسم أخبار اليوم مكونا ثالثا يضاف إلى اسم الزميل والعائلة كتأكيد على الهوية الصحفية وشرف الانتساب إلى دار عريقة. فأقدم نفسى مثلا فى أى منتدى "سليمان قناوى أخبار اليوم" وهكذا يفعل كل الزملاء. ذبنا فى الدار وذابت فينا. حتى أصبح روتين حياتى اليومية - طالما أنا موجود داخل المليون متر مربع من أرض مصر - لا يخرج عن ارتداء ملابسى والتوجه إلى الجريدة لا يفرق إذا كان اليوم إجازة عيد أم يوم عمل عاديا، وحتى حين تخففت من أعباء المسئولية، لازلت أحرص على الحضور يوميا. الآن أحمد الله أن مؤسستى قد أعطتنى الكثير فأولتنى شرف تولى رئاسة تحرير أربعة من إصداراتها المختلفة ما بين التقنية (أخبار السيارات) التى أسستها ورأست تحريرها عام 1998، والتدريبية للطلاب (أخبار المدينة التى أصبحت فيما بعد أخبار أكتوبر فى محاولة لاستنساخ نموذج صوت الجامعة الناجح) والإقليمية (البحر الأحمر عام 2010) كأول جريدة إقليمية فى العالم تصدر بأربع لغات. وكان مسك الختام تولى رئاسة تحرير درة تاج مؤسستنا جريدة «أخبار اليوم» فلله الحمد ولله الشكر.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة