مبروك عطية
مبروك عطية


يوميات الأخبار

أفلا تعقلون

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 13 فبراير 2020 - 06:49 م

 

بقلم/ مبروك عطية

توقفنا تماما عند تفسير الكوثر، وزعمنا أنه النهر الكريم الذى منحه الله نبينا  وجعلناه وقفا عليه، وليس ذلك بصحيح.

 ميادين العقل فسيحة
السبت:
أتأمل قول الله عز وجل من سورة القصص: «وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون» من حيث ختام الآية بقوله سبحانه: "أفلا تعقلون" أى أن مرد الاختيار إلى العقل، فكل عاقل يؤثر الباقى على الفانى، ويقدم الخير على الشر، فإن كان عكس فما للعقل من بشارة بوجود، وما للنفس فى جنبى صاحبها من سوية، قضية أساسها دين، ونتيتها عقل، أى أن الذى يعتقد أنه ميت، وأن الله ناشره، ومحاسبه، والنتيجة للحساب إما جنة، وإما نار، وأن سبيل الجنة عمل صالح، فيه من الكره والمشقة ما فيه، وفى الجنة أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وخلود بلا خروج، ونعيم مقيم، ثم نظر مع هذا إلى ما أوتى من متاع الحياة الدنيا، وزينتها، وعلم بما يشاهد بعينى رأسه أن هذا المتاع زائل، وأن صاحبه إما أن يرحل عنه تاركا إياه لغيره، وإما أن يزول هذا المتاع تاركا من تمتع به للشقاء، والحرمان، فيتحول إلى ذكرى بعد أن كان حياة، وقارن الناظر إلى النعيمين، القليل الفانى، والكثير الباقى، وترك لعقله الاختيار فلابد أن يختار عقله الكثير الباقى، ثم ماذا بعد هذا الاختيار؟


لا يتصور عاقل أن هذا الاختيار معناه أن يحرم على نفسه ما أحله الله له، أو أن يقول للظل الظليل: لا، ثم يتجه إلى الحر القاتل، أو أن يطرح طعامه اللذيذ بعيدا، ويحتضن الجوع الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى: اللهم إنى أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، إنما الهدف من الآية ألا يتوغل المكلف فى متاع الحياة الدنيا ناسيا ما كلفه الله تعالى به، ناسيا يوم الدين، مهملا التفكير فيما عند الله من نعيم مقيم، لا ينقص ولا يزول، أى لا يغره متاع الحياة الدنيا بحال؛ فيزعم أنه باق معه أبدا، وأن أحدهما لن يفارق الآخر، فلم يقل بذلك أحد، ولم يشهد لذلك واقع، ومن زعم ذلك فهو فى ضياع حقيقى، وليس على شفا ضياع، لأن هذا تشهد بكذبه العين المجردة التى فى الوجوه، فأين جده، وأين أبوه، وأين القرون الأولى، كل شيء هالك لا محالة، ويبقى وجه الله وحده، ومن ثم كان العاقل مختارا ما عند الله ليس على طرح ما اكتسب من متاع الدنيا، وزينتها، عن طريق العمل الحلال، والعرق المبذول، ومن هنا تأتى عبقرية المسلم، وتتجلى آثارها، وتتضح للسارين معالمها، فلا تخفى إلا على من لا بصيرة له من الناس، أن تجد أحدا تحسبه غارقا فى نعيم الدنيا ناسيا الموت، وهو فى الحقيقة يذكر نعيم الآخرة فى نفسه، كما يذكر الله تعالى فى نفسه، حيث أمر ربنا سبحانه وتعالى بذلك فى قوله: "واذكر ربك فى نفسك" وأصدق أنواع الذكر ما كان فى النفس، لأنه لا يخطئ الأذن التى قد يصرفها عنه الصياح، والضوضاء، والصداع، فتختلط عليها الأصوات، إنه يذكرنا بتلاوة الليل التى قال الله فيها هى أشد وطئا وأقوم قيلا، لما فى الليل من هدوء، وسكن وسكينة تستجمع فيها قوى السمع الذى أحاط به الصفاء، وغشيه التركيز، وأحاط به التدبر، فلا حرف يغيب، ولا يتوارى معنى، وذكر الله فى النفس يوقظها من سباتها، وينبهها إلى مكارم الأخلاق، ويضربها أحيانا بسوط لا يسيل دما، ولا يغير جلدا، وإنما يسيل من المعانى ما ينبت العز والمجد والكرامة، ويغير طبعا فاسدا ما أدى إلى فساده إلا تلك الغفلة عنه، ومن ثم قال ربنا بعد أن أمر بذكره فى النفس: ولا تكن من الغافلين، فالغفلة الحقيقية هى الغفلة عن ذكر الله فى النفس، لأن النفس إذا غفت لم تنبهها الأجراس، إنما تنبه الأجراس الحواس وأعلاها السمع الذى قد يوقظك منزعجا، تصرخ فيمن أيقظتك أجراسه حتى ولو كان منبها اشتريته قائلا: ما هذا!


وفى ذكر النفس من الأسرار ما يمكن أن يكون أقوى من السحر فى نفوس الناظرين إلى مقتضاه، فأنت تجد إنسانا ساكتا، لا ينطق، لا يحرك شفتيه بحرف، وأنت لا تعلم أنه فى بحار الذكر يسبح، وفجأة ترى مقتضى هذا الذكر الذى خفى عليك فى هبته لصلاة ركعتين فى جوف الليل، أو فى إخراج صدقة، أو فى قضاء دين لم ينتظر حتى يطلبه صاحبه وديا، أو يدق الباب محضر بعريضة دعوى قضائية، أو تذكرة من زوجة أو ولد أو والد، وقد يقوم لإصلاح مرفق ولو فى بيته، وقد ظن أولاده أنه قد نسيه، ألست ترى إلى تعجب الناس من تصرف شخص قيل له: نريد كذا؛ فلم ينس ما قيل، ولم يذكره، ولم يصرح بأنه محضره يوم كذا، أو حين يقبض كذا، وفجأة وجدوه داخلا به عليهم، إنهم يقولون له، والفرح يفيض من قلوبهم: ظنناك قد نسيت، والسبب الذى حملهم على ما قالوا إنهم لم يسمعوه يتحدث فيه، عندئذ يشعرون بأنه لم ينس، وفجأة دخوله بالشيء الذى حسبوه قد نسيه لا يستطيع البيان أن يعبر عنه، لأنه من المعانى التى يعجز عن تصويرها البيان، لذا قلت: إنه أقوى من السحر فى التأثير، وكونك تذكر الموت فى نفسك، وما يسلم إليه من نعيم مقيم وأنت غرق فى ملذات الحياة الدنيا يجعل الناظرين إليك كالناظرين إلى ذلك الإنسان الذى فاجأهم بما سألوه منه يوما، وظنوا لسكوته عن ذكره أنه طوى صفحته، أى أن مسرتهم بمقتضى ذكرك للموت فى نفسك لا يعبر عنها بيان شعرا كان أو نثرا، بخلاف الذى ينغص على الناس لقمتهم وشربتهم بذكر الموت علنا، وهو الذى لم يعمل لما بعده عملا، ما نالوا منه غير الكدر، وما حصلوا منه إلا استحضار صورة السكون من بعد الحركة، والفناء بعد البقاء، تتوارى عندئذ عن أعينهم صور الورود، حيث صور لهم مشاهد اللحود والدود، فكان ما كان من بؤس النظر، وسوء الحال، بينما لا مسرة أدخل على قلوبهم مما أعطاه الله من خير ومال.


إنا أعطيناك الكوثر
الأحد:
توقفنا تماما عند تفسير الكوثر، وزعمنا أنه النهر الكريم الذى منحه الله نبينا  وجعلناه وقفا عليه، وليس ذلك بصحيح؛ فالكوثر: فوعل، ومعناه الكثير جدا من النعم والخيرات التى أعطاها الله تعالى رسوله ، ومن تلك النعم نهر الكوثر، ومعنى ذلك أن سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام وآله عاش دنياه فى كثير من نعم الله تعالى، وأعلاها نعمة النبوة والاصطفاء، وتبليغ رسالته تعالى للعالمين، وأن ينزل عليه وحيه، وأن يحدثه الملائكة، وأن يكون له خمس الغنائم، وأن يأكل من الشاة الكتف، وأن ينصر بالرعب، وبالريح، وأن يسأل الله تعالى فيعيه سؤله، بل يحقق له ما يرضيه، دون أن يسأله،: «قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام» وحين نزل عليه قول الله تعالى: «ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك» الآية 51 من سورة الأحزاب قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: لا أرى ربك إلا يسارع فى هواك، وفى السيرة المطهرة والسنة الصحيحة عنوان اسمه: «باب تكثير الطعام بين يديه » وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حدث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما نفسه أن يذبح شويهة: شاة صغيرة ضعيفة لم يكن لديه غيرها للنبى صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وقال ذلك لزوجته؛ فقالت له: إنها لا تكفى من يصحبه، وأنت تعلم أنه صلى الله عليه وسلم أكرم الناس؛ فبشرها بأنه سيخبره بذلك فى أذنيه، فلا يعلم أحد، وفعل، وكانت المفاجأة أن استدعى النبى صلى الله عليه وسلم رجلا جهور الصوت، وأمره أن ينادى فى الناس أن انطلقوا مع رسول الله  إلى بيت جابر؛ فقال جابر فى نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل يسترجع إلا من شعر بمصيبة ـ نظر جابر إلى مقتضى الظاهر، فما ذبحه لا يكفى ذلك الجمع الغفير، فلما ذهب الناس مع سيد الناس ، أمر عليه الصلاة والسلام الناس أن يدخلوا عشرة عشرة، حتى أكلوا جميعا وشبعوا، وأكل ، ثم قال: يا جابر: كل أنت وأهلك، واطعم جيرانك، وسئل جابر كم كان الناس؟ فقال: كانوا ألفا وأربعمائة، ومن عد كثير نعم الله تعالى على رسوله فلن ينتهى إلى عدد، ومع ذلك حين خير  بين البقاء فى الدنيا، وبين الانتقال إلى الرفيق الأعلى قال: بل الرفيق الأعلى، فهو عليه الصلاة والسلام يعلم عن يقين أن ما عند الله خير من هذا الكثير وأبقى.


ثمرة هذا اليقين
الاثنين:
ومن ثمرة اليقين، وإعمال العقل باختيار ما عند الله أن تهون الدنيا فى سبيل الوصول إلى ما عند الله تعالى مما هو خير وأبقى، فيموت المسلم جوعا، ولا يرتشى، وتموت الحرة ولا تسلم نفسها لذئب، ويتجه المسلم بما يتحصل عليه من الدنيا إلى أعالى الجبال معتزلا الفتن حتى يلقى الله، ولا يشهد أحد زورا، ولا يجارى أحد ظالما، ولا يعطى مسلم ماله للص؛ فهو يعتقد أن من قتل دون ماله شهيد، ومن قتل دون عرضه شهيد، وما يبتغى بعد الشهادة، لا يسعى امرؤ مؤمن إلى جلب شر، لكنه يقاومه وأمام عينيه مشهد أبى اليسر كعب بن عمرو الذى أسر العباس رضى الله عنه يوم بدر، وكان كعب رضى الله عنه ضئيلا قليلا قصيرا؛ فقال الناس للعباس: كيف أسرك ولو تناولته بكفك لوسعته كفك؛ فأجابهم: والله لقد كنت أراه كذلك حتى دنا منى فإذا بى أراه أكبر من الخندمة، والخندمة جبل بمكة، فمن جعل كعبا فى نظر العباس الطويل العريض القوى أعلى وأكبر من الجبل؟ إنه الله القائل: «ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز» وما أكثر المحرومين من نصر الله لهم، لأنهم لم ينصروا دينه، وهل ينصر الدين إلا بأداء التكاليف، والتحلى بمبادئ لا تزول، ومنها رفع راية الدين الذى أمرنا ربنا أن نقيمه، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، وقد تأملت ما أحل الله من الضرورة من المحرمات، ومنها أكل الميتة والدم وغيرهما، وراجعت أقوال العلماء فيه، ووقفت على ما نحفظه جميعا من أن الضرورة تقدر بقدرها، أى يتناول المسافر الذى انقطعت عنه سبل الحياة فهو مضطر إلى أن يتناول شيئا من لحوم الميتة القدر الضئيل جدا الذى يبلغه إلى أقرب طريق يجد فيه الطازج الشهى الذى لا يضره، أما أن يملأ منها بطنه فذلك ليس من الدين، وإنما هو من الطفاسة، وقصر النظر لانعدام التفكر، وتغييب التعقل، وقد ملأ كثير من الناس صدورهم وغذوا أفكارهم ووجدانهم بالضلال، فهم أبشع ممن ملأ من الميتة بطنه.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة