جمال فهمي
جمال فهمي


من دفتر الأحوال

متفرجون وضحايا

جمال فهمي

الخميس، 20 فبراير 2020 - 07:13 م

 

أحيانا، وعندما يشتد بى الضيق مما نكابده فى مجتمعنا الراهن، يشطح بى الخيال لفكرة خرافية أتمناها وأحلم بها خلاصتها: كم سيكون أمر حياتنا مسليا جدا، لو أن ما نعانيه من بؤس وشقاء ومساخر مأساوية يومية كان مجرد «عرض غرائبي» نتفرج عليه ونستمتع بـ»نمرة» وفقراته من «شرفة» العالم باعتبارنا مجرد جمهور نظارة عابر ولا شىء يربطنا بهذا العرض سوى ما يربط الزبون بما يجرى على مسرح كباريه دخله بمحض إرادته ويستطيع أن يغادره وقتما يشاء.


المشكلة، أن العالم بغير شرفات وليس فيه متسع لمشاهدين كسالى متعففون عن المشاركة فى صنع أحوالهم وتغيير مجريات واقعهم البائس.


المهم.. تذكرت فجأة وأنا احتشد لكتابة هذه السطور أن فكرة «الفرجة من بعيد» هذه كانت عماد بنيان رواية مشهورة كتبها فرانز كافكا (1883 ـ 1924) تحت عنوان «مستوطنة العقاب» وقد اعتُبرت هذه الرواية، على رغم أجوائها الغرائبية والكابوسية، العمل الأقل قنوطا وسوداوية والأكثر تفاؤلا بين تراث هذا المبدع الذى كانت أوجاعه وآلامه المبرحة عائدة أساسا لحزنه ويأسه أكثر من داء السل الذى فتك برأتيه وقتله فى النهاية.
تدور أحداث «مستوطنة العقاب» فى جزيرة لم يشأ «كافكا» أن يسمها كما لم يسم كل شخوص الحكاية وأبطالها بمن فيهم ذلك المسافر الغريب الذى هبط من مركبه على الجزيرة وتحول إلى شاهد يروى للقراء وقائع حكاية رآها بعينيه بينما كان يمر بالصدفة فى أإحدى الساحات وفوجئ بطقوس عملية إعدام علنية سوف يذهب ضحيتها رجل لا يبدو على ملامحه أنه يفهم أو يعرف شيئا عن سبب إعدامه ولا الآلة العجيبة التى سيموت عليها حالا وتتبدى على مظهره ملامح بلاهة تنأى به تماما عن أى شعور إنسانى بالخوف والفزع لدرجة أنه يشارك الغريب فضوله ورغبته فى معرفة قصة آلة القتل الغريبة التى تجهز لكى يموت عليها بعد لحظات، وقد بدا مهتما بمعرفة تقنية وفلسفة عمل تلك الآلة القاتلة، لهذا يصف كافكا كيف راح يصغى بشغف للضابط المسؤول عن عملية الإعدام وهو يرد بحماس وفخر على استفسار الرجل الغريب شارحا طريقة عمل الآلة التى هى عبارة عن شئ يشبه السرير يُربط عليه المحكوم بإعدامه عاريا قبل أن يتحرك غطاء حديدى يغيب الضحية تحته، هذا الغطاء مزود بإبر زجاجية حادة تحفر فوق بدن المحكوم عبارة «أكرم رئيسك» التى تبقى جروحها دامية «بغرض تطهير روحه» حتى يموت بعد 12 ساعة يقضيها «بدون ألم بل شاعرا بلذة التطهر والخلاص».. هكذا يقول الضابط!!


يمضى الراوى فى شهادته فنعلم أنه أقنع الضابط المتحمس بفظاعة هذه الطريقة، وبناء عليه يقوم هذا الأخير بإطلاق سراح أسيره الأبله ثم يفاجئ جميع من وقفوا يتفرجون على ما يجرى بانهماكه فى تعديل ترتيب إبر الآلة بحيث تصير العبارة التى تحفرها فى جلد الراقد عليها «كن عادلا» وليس «أكرم رئيسك»، وما أن ينتهى الضابط من فعل ذلك حتى يبدأ فى خلع ملابسه ثم يكسر سيفه ويربط نفسه بآلة الإعدام ويشغلها فيموت فى التو واللحظة (وليس بعد 12 ساعة كما قال) متأثرا بجروح وأخاديد عميقة أحدثتها الإبر فى جسده ّالذى أضحى وكأنه لافتة احتجاجية تطلب «العدل» بالدم!


وبعد.. فقد ضاق المجال ولم تعد هناك مساحة تكفى لباقى ملخص الرواية، غير أن المسافر الغريب قفل عائدا إلى مركبه تاركا المحكوم وحارسه الميت يجسدان غرائبية الأوضاع القائمة فى جزيرتهم.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة