د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

لا تحملنا ما لا طاقة لنا به

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 27 فبراير 2020 - 08:24 م

ولو دعا الله بهذا الدعاء: لما استعمل جهازه المحمول إلا للضرورة ولما فتح وسيلة من وسائل الميديا إلا لما يضطر إلى معرفته.

من دعاء القرآن
السبت:
من دعاء القرآن الكريم: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" ودعاء القرآن له الدرجة الأولى فى شتى الدعاء، أى أنه فى المقدمة، وقد شغلت بهذه المسألة من قديم، محاولا البحث عن السبب وراء ذلك، ومما اكتشفته من سره أنه اختيار الله لنا، وليس بعد اختيار الله عز وجل لنا من اختيار، فالله خلقنا، وهو أعلم بنا، وأعلم بما يصلح أحوالنا منا، ومن كل من يدعى أنه مهتم بأحوالنا، وقد اختار لنا هذا الدعاء حيث قال: "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" ومع قولنا آمين يجب أن نفهم أن هذا الذى لا طاقة لنا به يدور فى فلكين اثنين، الأول: مادى، والثانى: معنوى، فالمادى: أن تحمل فوق عاتقك حملا لا يقوى عليه بدنك، وهذا برغم ما فيه من مشقة سهل يسير بالنظر إلى الآخر المعنوى، حيث إنك قد تحمل ما لا قدرة لك على حمله فيراك أحد الرفقاء فيعينك، ويحمل عنك بعض حملك، وقد يغيب عنك من الرفقاء النبلاء من هو مظنة أن يعينك، لكنك تجد نفسك غير قادر على حمل الثقيل، فتخففه حتى تستطيع حمله، كما حدث من العباس عم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ملأ حجره مالا، وجاء ليقوم به فلم يستطع، فسأل النبى صلى الله عليه وسلم أن يأمر أحدا أن يعينه؛ فلم يستجب له صلى الله عليه وسلم، وقال له: بل احمل ما تستطيع حمله، فظل يخفف ويخفف حتى استطاع أن يقوم بحمله، وهكذا يجد الحامل حملا ماديا وسيلة يخفف بها من حمله، والله تعالى يقول مذكرا إيانا بما أنعم به علينا فى هذا السياق: "وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم " أى أن ما خلق الله من دواب يعيننا على حمل أمتعتنا، ولو حملناه نحن بدونها لشقت أنفسنا شقين، من معاناتنا، وقس على الدواب مما خلق الله ما لم يعلمه الذين كانوا فى زمان نزول الكتاب الكريم، من السيارات والطيارات، وما لا نعلمه نحن مما سوف يكون بعد رحيلنا عن هذه الحياة، حيث لابد من الاستعانة به فى حمل ما لا طاقة لنا به من الأحمال المادية الشاقة التى لا تقوى على حملها أبداننا الضعيفة، ففى كل الأحوال يكون حمل ما لا طاقة لنا به ماديا أمرا سهلا برغم أنه يبدو أمام الضعيف والعليل كالجبل العالى، لكنه سرعان ما يتفتت، وينتثر، ويصبح كحبات الرمال المتناثرة من فعل الرياح بوجود من يحمله عنك، أو يحمله معك، لكن يبقى الحمل المعنى عاتيا مدمرا مهلكا صاحبه بكل ما تشتمل عليه الكلمة من معان، وهل لها من معنى سوى الدمار، والضياع، وربما ما هو أقوى منهما من الكفر والعياذ بالله والضلال، وذلك أن الفكر قد يشت، والتفكير قد يضل، وتغيب الحكمة فيغيب لغيابها الخير الكثير، لقول الله عز وجل: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب".
الحمل المعنوى
الأحد:
وكلما قرأت قول الله تعالى "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" لم يخطر ببالى إلا الحمل المعنوى ؛لأن الحمل المادى كما ذكرت أمره يسير بالنسبة إلى الحمل المعنوى ولا طالما رأيت الناس فى الشوارع ينادى بعضهم بعضا أن يعينه على حمل شىء ثقيل بأن يرفعه معه فوق كتفه أو أن يوازيه فى رفعه على سيارته، ويجد من يعينه، لكن إذا تعكرت الفكرة فى الذهن فمن يعينك على إعادة صفائها؟ وإذا تشابكت أفكار الهدى بأفكار الضلال فمن يعينك على تخليص بعضها من بعض؟ وإذا كنت تفكر فى مسألة ما، وكان ينقصك أن تقف على دليل فهل تنادى الناس فى الشارع، وتقول لهم أنا أحتاج إلى دليل على مسألة كذا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو من الشعر أو من قول من يحتج بقوله، وتجد من يسعفك؟ هذا أمر إن لم يكن مستحيلا فهو أقرب ما يكون إلى المستحيل؛ لأنك قد تنادى هذا النداء فى قسمك الذى تخصصت فيه ولا تجد من يسعفك من كبار الأساتذة فضلا عن المعيدين، والمدرسين المساعدين، ويا ليت هؤلاء يقولون لك: لا ندرى، ويسكتون حتى يظل عقلك يئن من حمله الثقيل لكنك قد تلقى منهم من يتهم فكرك بالسقم، ومسألتك التى تبحث لها عن دليل بالتفاهة، وقد يقول لك أحدهم: هذه المسألة لا تحتاج إلى دليل؛ فيطير عقلك، ويتبدد وينتقل من حال الأنين إلى حال الدمار ولا شك أن الله إذا استجاب دعاءك وأنت تقول: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به سيرزقك بإلهامه المسألة التى تأتيك ودليلها معها وقد يرزقك الدليل قبل الفكرة، فتبنى أنت على الدليل المتوفر لديك فكرتك، وتسوغ مسألتك، وقد تكون فى حاجة إلى سؤال أحد من زملائك فى قسمك الجامعى، فتتدخل ذلك القسم فتجد أمامك زميلا لم تتوقع حضوره فى هذا اليوم لكنه حضر، فتسأله فيجيبك بالدليل فورا، حتى تقول: لقد أرسله الله إليا، فمن رحمة الله بنا ألا يحملنا ما لا طاقة لنا به من الأحمال المعنوية التى من أخطرها أن يشت فكرنا، أن تهجم علينا وساوسنا، وأن تأتينا أفكار غريبة، لا صلة لها بدين، ولا حياة، ولا بحث، وإنما تعصف بعقولنا، وترهق أنفسنا، وتذهب النوم عن أعيننا، ومثل هذه الأفكار الغربية لا تكون إضافة لنا، وإنما هى بكل المقاييس نقص يعترينا، ومرض يدخل علينا بلا أعراض يمكننا بها أن نعرف حقيقته، وأن نبحث عن علاجه.
الكليات
الاثنين:
وقد وجدت معنى طريفا وأنا مشغول بالفكر الذى هو وظيفتى وشغل حياتى، حيث رأيت إحدى زوجات النبى صلى الله عليه وسلم أخذت تسبح الله عز وجل بعيد صلاتها الفجر لمدة ساعات حتى عاد إليها النبى صلى الله عليه وسلم، وقال لها: أمازلت تسبحين منذ تركتك؟ قالت: بلى؛ فقال عليه الصلاة والسلام: والله لقد قلت كلمات تعدل ما قلته كله؛ فقالت وما تلك الكلمات يا رسول الله؟ قال: قلت: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وهذا مما لنا به طاقة، ولا طاقة لنا بالوفاء بما اشتملت عليه كلماته صلى الله عليه وسلم فنحن لا نحيط علما بعدد ما خلق الله من إنس، وجن، ودواب، وشجر، ونبات، وما لا نعلم من أشياء يستحيل على أحد أن يعلمها، بل يعلمها وحده من خلقها، فمن ذا الذى يستطيع أن يقول: سبحان الله وبحمده بعدد كل هذا الذى لا علم لنا به، إنه بلا شك فوق طاقتنا، بل أقول: إن أعمارنا كلها تنقضى دون أن نوفى العدد، وهذا فى تسبيحة، فماذا بقى فيها أى الأعمار لرسالتنا فى الحياة من عمل وحركة ونوم وغير ذلك!.
وقس على ذلك مداد كلمات الله التى قال الله فيها "ولو أنما فى الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم" ومعنى هذه الآية أنك لو حصرت ما فى الأرض من شجر، وتصورت أن كل شجرة من مليارات الأشجار تمثل قلما مداده ثمانية أبحر، وكتبت كل هذه الأقلام التى مدادها تلك الأبحر ما نفدت كلمات الله فمن ذا الذى فى طاقته سعة لكى يقول: سبحان الله وبحمده بعدد كل كلمة من كلمات الله التى لا تنتهى أبدا، لكنك إذا قلت: سبحان الله وبحمده مداد كلماته تكون قد وفيت ما لا يكفيه عمرك فى ثانية واحدة، وقس على ذلك زنة العرش، ورضا النفس التى لا يعلم اتساعها إلا هو سبحانه وتعالى، وهذا الذى يمكن أن نسميه الكليات، أى الأمور الكلية التى تشتمل على تفاصيل مرعبة، وقد جاء لفظ الكليات فى حديثه صلى الله عليه وسلم مع أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، حين قال لها: ألا أعلمك الكليات؟ فقالت: وما الكليات؟ فقال: قولى: اللهم إنى أسألك الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله، وهذا الحديث لا يقل عن الحديث السابق؛ لأنك لو عددت الخير كله لما وسع هذا العدد عمرك من أول الخير الذى ترجوه لنفسك، وولدك، وأهلك، ومجتمعك، وجميع الناس، وما يتصل بالملكوت، من اعتدال حرارة الجو، ونزول المطر، وإنبات الشجر والثمر، وطلوع الشمس وبزوغ القمر، وكذلك لو عددت الشر كله، ظاهره وباطنه وحاولت حصر عدد المرضى، والقتلى، والفقراء، والمساكين، والمدينين، والمكروبين، والمهمومين لما استطعت فحين تقول اللهم إنى أسألك الخير كله تكون قد حصرته؛ فعند الله علمه وعدده، وحين تقول: وأعوذ بك من الشر كله تكون قد وفيت وحصرت؛ فعند الله علمه وعدده.
ما يعين على الطاقة
الثلاثاء:
ويطيب لى أن أذكر العهد الذى عشته فيه أيام صبايا، وأنا بين أهل قريتى، حيث كانت بلا كهرباء ولا راديو، ولا تليفزيون، ولا نت، ولا ميديا كنا لا نعرف شيئا عن بلاد الله الواسعة إلا عن طريق الكتب أو عن طريق الذين سافروا إلى تلك البلاد، ثم عادوا ليحكوا لنا شيئا عن عادات أهلها، وما هو فيها مختلف عن الموجود فى واقعنا، وكانت قريتنا هى كل واقعنا الذى لو راجعناه كله فى أذهاننا لما اضطرب فينا عصب، ولا اختل فينا فكر، ولا تشعب بنا طريق، خمسة أحياء هى الضغايمة (الأسود) الذى ولدت فيه، والبحاروة والسوادنة، والفقهاء، والبليستة، وعدد العائلات لا يزيد عن عشرين والأغنياء معدودون على أصابع اليد الواحدة وغيرهم تتفاوت أحوالهم والجميع مستورون، والأخبار لا تحتاج إلى نشرة والسماء صافية، والترعة جارية، والحقول مثمرة، والأفراح صاخبة، والأحزان فى رحيل حبيب وكلنا راحلون وفى دار تشتعل فيها النيران بسبب ما فوق سطحها من قش، وكلنا لها مطفئون كما أن كلنا لأهل الميت معزون، وإذا فطست بهيمة، فكلنا للحمها مشترون، وأستطيع أن أقول إن الله لم يحملنا فى هذا الزمان ما لا طاقة لنا به، أما وقد صار العالم كله على حد تعبير السادة المتنورين قرية صغيرة وهم بهذا التعبير مسرقو كبر العالم فوالله لقد كبر العالم عن حجمه، واتسع أضعاف مساحته ولست أدرى كيف يطيق الإنسان المحدود ذهنه، الصغير صدره تحمل هذا الزخم من أخبار العالم ومن ألوف الفيديوهات والتعليقات والشقلبات والانحرافات فى السلوك والأساليب ولو دعا الله بهذا الدعاء: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به لما استعمل جهازه المحمول إلا للضرورة ولما فتح وسيلة من وسائل الميديا إلا لما يضطر إلى معرفته، أما أن يترك نفسه وسط الأجراس وأمواج الفوضى من الفكر والمعروض للقتل تحت اسم المشاهدة والمعاصرة فما أشبهه بحال طفل مغيب عن الإدراك يلتفت يمينا ويصرخ شمالا فيقهقه ولا تضبط له حاله من ابتسامة أو دموع، وما أشبهه بحال من أسقط نفسه بين أمواج جارفة وهو لا يعرف شيئا عن السباحة، والغرق مصيره فى كل حال، ولا أدرى كيف يطيب لنا تحت وطأة هذا العدوان أن نهدأ فى نوم، أو أن نقر عينا فى يقظة، أو نستصيغ لقمة عيش، أو جرعة ماء، إن من يدرك أن الله تعالى كى يجيب دعاءه لابد له أن يعمل ولا عمل أمامه إلا أن يتعامل مع هذه المهلكات بحكمه.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة