جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

الحماس عندما يعطل العقل

جمال فهمي

الخميس، 27 فبراير 2020 - 08:53 م

فى واحدة من فواجع شكسبير الرائعة التى ألهمت على مدى قرون طويلة قائمة طويلة من كبار المبدعين فى دنيانا (خصوصا فى الموسيقى) ينهى البطل «عطيل» الذى تحمل المسرحية اسمه، حياته ودراما مآساته كلها هاتفا بوهن وهو يحتضر واصفا نفسه بصدق بأنه كان «رجلا غبيا اسرف فى الحب والعشق بغير عقل ثم ضيع فى عمى الرعونة والانفعال لؤلؤة حياته (زوجته المحبوبة ديدمونة) التى هى اثمنواغلى عنده من عشيرته كلها».
هذه الكلمات التى تقطر حزنا وحسرة وندما لايفيد واعترافا بعد فوات الأوان، هى خاتمة ذلك النص المسرحى الشكسبيرى الخالد والمفعم بالمعانى بعدما حكى حكاية ملخصها المخل: أن القائد الأكبر والأبرز والأشجع فى جيش «جمهورية البندقية» المدعو عطيل والمتحدر من أصول عربية مغربية تطبع بشرة وجهه بسمرة داكنة.. هذا القائد المغوار يختطف بسيرة بطولاته وانتصاراته التى على كل لسان قلب الحسناء «ديدمونة»أبنة أحد الوجهاء البنادقة الكبار (عضو مجلس الشيوخ)، ومن ثم تتزوجه سرا متحدية والدها وعائلتها الثرية المرموقة، غير أن السر سرعان ما ينكشف مفجرا عاصفة غضب هوجاء تحاصر القائد الهمام الذى لم تشفع له بطولاته وأمجاده الحربية جرأته على الحب والزواج من أبنة الحسب والنسب، لكن عطيل وديدمونة يصمدان ويتمكن القائد من إقناع كبار المسؤولين فى «الجمهورية» ببراءته من تهمة استخدام السحر التى رماه بها حماه المتنفذ، وبدل العزل والنفى يترقى المحارب المغربى ويصير قائد جيوش الحملة التى ذهبت لملاقاة الأعداء الأتراك فى جزيرة قبرص.
يذهب القائد إلى الجبهة ومعه زوجته، وهناك يكون موعد الزوجين العشيقين مع قدرهما الأسود حيث يواجهان خطرا أشد فتكا من غضب أهل ديدمونة، أنه خطر الحقد والضغينة والكراهية العمياء التى يضمرها المدعو «ياهو» لعطيل مع أنه أحد مساعديه وحامل الراية فى جيوشه!!
ينسج الشرير «ياهو» لقائده خطة شيطانية تستهدف القضاء عليه وتخريب حياته والانتقام كذلك من القائد «كاسيو»الذى رقاه عطيل وجعله مساعده الأول.. فأما الخطة الشريرة فهى بدأت بالزن والوسوسة فى إذن القائد العاشق بأن زوجته الحبيبة تخونه مع ربيبه القائد «كاسيو»، ولكى يحكم «ياهو» الشرك القاتل الذى بنصبه لقائده يطلب من زوجته «إيميليا» التى هى أيضا تعمل وصيفة لديدمونة أن تسرق من هذه الأخيرة منديلا كان عطيل أهداه لها، وعندما يحصل «ياهو» على المنديل يرميه فى غرفة «كاسيو»ثم يستخدم هذه الواقعة كدليل على زعمه بوجود علاقة آثمة بين ديدمونة وكاسيو، هنا يتحول الشك إلى يقين يحرق قلب القائد البطل ويعطل عقله تماما ويدفعه إلى التسلل ذات ليلة إلى مخدع حبيبته فيقبلها قبلة الوداع الأخيرة قبل أن يخنقها بيديه انتقاما لشرفه.
تقتحم الوصيفة (زوجة ياهو) المشهد ويروعها ما جرى لسيدتها فتصرخ وتحكى القصة التى يتبين منها عطيل حقيقة براءة محبوبته ديدمونة، فينهار ويغرق فى دموعه وبينما هو يستل سيفه ويغرسه فى صدره لكى يلحق بالحبيبة الطاهرة التى قتلها غيلة وظلما، يأخذ فى الهذيان بكلامات الندم التى فات أونها ولم تعد تجديه نفعا ولن تعوضه عن عجزه فى كبح جماح حماسه الطائش واندفاعه الأحمق نحو الضياع والهلاك.
وبعد.. أظنك عزيزى القارئ فهمت من ملخص تلك الفاجعة الشكسبيرية كيف يعطل الحماس الطاغى عقل الأبطال ويفقدهم الطيش رشدهم، فيهزمون أنفسهم بأنفسهم وينصرون أعدائهم بغير حرب.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة