د.عاصم الدسوقي
د.عاصم الدسوقي


د.عاصم الدسوقي لـ «بوابة أخبار اليوم»: 25 يناير ليست ثورة.. والربيع العربي مخطط أمريكي

حازم بدر

الإثنين، 09 مارس 2020 - 02:13 ص


تجديد الخطاب الديني مسئولية الأزهر.. ومحاصـرة الناس بالفتاوى «غير صحي»
وصف الفتح الإسلامي بـ «الغزو» لا يسيء له.. والعثمانيون ليسوا أصحاب حضارة

سعد زغلول ليس زعيما.. وهيكل مؤرخ.. وعبد الحكيم عامر عاطفى

أكبر خطأ لعرفات توقيع اتفاقية آوسلو ١٩٩٣

الملكية ليست ليبرالية.. والإخوان انتهازيون والوفديون انحازوا لمصالحهم الاقتصادية

ترك الزمن علاماته على وجه د.عاصم الدسوقي، شيخ الباحثين التاريخيين العرب، وعلى مشيته التى صارت أكثر هدوءا، لكنه لم ينل من ذهنه المتقد القادر على الغوص فى أعماق التاريخ بسلاسة نادرة مستخرجا لآلِئُه النادرة التى أضاء بها كثيرا من القضايا التى تفرض نفسها على الواقع المصرى والعربى المعاصر، خالقا رابطا بين الماضى والحاضر.

وخلال ساعتين ونصف تحدثنا مع د.الدسوقى دون توقف متنقلين من قضية إلى أخرى، ولم ألحظ شعوره بالضجر أو التملل من استمرار الحوار، بل إنه خشى فى نهايته أن تكون هناك قضايا كنت أود أن أتحدث معه فيها وأغفلتها خشية أن يمتد الحوار لأكثر من ذلك، قائلا: «إذا كان لديك طاقة للاستمرار لفترة أطول فأنا على أتم استعداد».

ورغم هذه الرسالة المطمئنة التى أرسلها، إلا أن تكرار الطرق على جرس المنزل معلنا عن استضافه بعض الضيوف، جعلنى أنهى الحوار، متمنيا أن أكون قد حصلت على جزء ولو يسير من خلاصة عصير آلاف الكتب والوثائق التى تمتلئ بها أرفف مكتبته، ويظهر تأثيرها على حديثه، فلا ينطق إلا بما هو مثبت وموثق.

ولا يهتم د.الدسوقى بأن حديثه قد يغضب شخص ما هنا أو هناك، مرددا فى أكثر من موضع خلال الحوار بأن الفيصل بينه وبين الغاضبين هو التزامه فى حديثه بالأسس العلمية الصحيحة، فهو باحث تاريخي، وليس مؤرخا كما يصفه الإعلام.. وإلى نص الحوار.

 

» أحب أن أعرف فى البداية أسباب توجهك لمجال البحث التاريخي.. هل هو تأثر بظروف التنشئة مثل كثير ممن اقتحموا هذا المجال؟

تملأ وجهه ابتسامة عريضة تعكس سعادته بالسؤال، قبل أن يقول: هذا السؤال فرصة لأذكر فضل أساتذتى فى التاريخ بمراحل التعليم المختلفة، والذين كان لهم الفضل فى عشقى للتاريخ، بدء من المدرس فى المدرسة الابتدائى والذى كان يشرح الدرس بشكل روائي، جعلنى أعشق المادة، وفى المرحلة الثانوية التقط المدرس حبى للتاريخ، فكان يمنحنى اهتمام خاص، ويجلسنى معه فى مكتبة المدرسة أثناء الفسحة.

ويبتسم ابتسامة ساخرة فهمت مغزاها عندما قال مقارنا بين الماضى والحاضر: «لا أنساه وهو يقوم بتحضير الدرس من مراجع أجنبيه، بالإضافة لكتاب المدرسة، وهذا يكشف الفرق بين التعليم حاليا وفى الماضي».

كتابة المذكرات

» هل يمكن أن تذكر قصتك مع هذا المدرس وغيرها من القصص فى مذكرات تصدرها قريبا؟

يومئ بالرفض قبل أن يقول: أنا دونت الكثير من المواقف التى مررت بها فى مذكرات، ولكنها لن تنشر فى حياتي، لأن المذكرات التى تنشر فى حياة صاحبها تكون غير صادقة بنسبة 100%، ولا تكون جريئة بما يكفي.

> ولكن هناك مذكرات صدرت فى حياة أصحابها وحملت جرأة كبيرة، مثل مذكرات الكاتب الكبير جلال أمين، التى قال فيها إن والدته لم تكن تحب أبيه، ومذكرات أستاذة الصحافة د.عواطف عبد الرحمن، التى وصفت فيها والدها بالبخل؟

يبتسم ابتسامة ساخرة قبل أن يقول: هذه ليست الجرأة المطلوبة، فالجرأة تكون فى الكتابة عن النفس، وليس الآخرين، كما أن ما يذكر فيها عن الآخرين، يكون من الجرأة بحيث يمكن أن يسبب أزمات لكاتب المذكرات، وخير دليل على ذلك مذكرات السياسى الشهير محمد فريد، التى تم العثور عليها ضمن مقتنياته التى سلمتها أسرته لدار الكتب، وأشرفت على إصدارها فى السبعينات، وفوجئت بتضمنها كلمات بذيئة جدا بحق بعض الأشخاص.

» وهل يمكن أن تعطينا تسريبة من مذكرات د.عاصم الدسوقي؟

كما قلت لك هى ليست للنشر حاليا، وتفاصيلها مليئة بالمعارك التى خضتها والخلافات التى حدثت بينى وبين زملائي.

مسلسل الجماعة

» هناك مقولة لتشرشيل رئيس وزراء بريطانيا تقول إن «التاريخ يكتبه المنتصرون»، إلى أى مدى توافق على هذه العبارة؟

يومئ بالرفض قبل أن يقول: هذه جملة غير حقيقية، فتشرشيل كان يقصد بها، أن من هزم فى معركة لن يكتب أنه هزم، ولكن التاريخ لا يكتبه الفائز أو المهزوم، وإنما يكتبه الباحث المدقق الذى تلقى دروسا فى كيفية قراءة المصادر المختلفة وتفسير أحداث التاريخ وليس الحكم عليها، والتزام الموضوعية وعدم كتابة التاريخ بوجهة نظر مسبقة، لأن ذلك يجعله ينتقى من الوثائق ما يخدم وجهة نظره، ويخرج بهذا الشكل عن إطار البحث العلمى التاريخي، ليصبح أقرب إلى كاتب الدراما.

» لهذا السبب انتقدت مسلسل (الجماعة) لوحيد حامد؟

بالضبط، فهو مكتوب بوجهة نظر الكاتب.

» ولكن وجهة نظر الكاتب كانت منتقدة للإخوان، وانا قرأت لك الكثير من التصريحات المنتقدة لهم، إذن هناك مساحة مشتركة بينكما...

تخرج الكلمات من فمه سريعة قائلا: انتقدته لأنه مصرا على أن عبد الناصر كان عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين، وانا أقول أن هذا غير حقيقي، بالرغم من أن عبد الناصر نفسه قال إنه انضم للإخوان وأقسم القسم الخاص بهم، وهذا بسبب ما سبق وقلته فى البداية من أن الباحث فى التاريخ لا يتعامل مع مصدر واحد.

» لا أفهم كيف ترفض ما ذهب إليه وحيد حامد، رغم أن عبد الناصر نفسه اعترف بذلك، وقال إنه أقسم قسم الجماعة؟

يثير السؤال حماسة بدت واضحة على وجهه قبل أن يقول: إذا عدنا للفترة التى سبقت الثورة ستجد أن عبد الناصر انضم ليس للإخوان فقط، ولكن لحزب «مصر الفتاة» و»الحركة الشيوعية»، وكلها تنظيمات متناقضة فكريا، وكان هدف عبد الناصر من ذلك هو استكشاف هذه التنظيمات من الداخل، لبلورة فكرة كيف يمكنه الاستفادة منها فى الثورة التى كان يخطط لها.

» ولكن ألا ترى أن هذه «انتهازية سياسية»، مع علمى بأن هذا الوصف قد يزعجك لأن المعروف عنك أنك «ناصرى التوجه»؟

طمأنتى ابتسامته بأنه لم يغضب من الوصف، وواصل الحديث بلهجة متحمسة: المعادى لعبد الناصر والكاره له قد يصفها كذلك، ولكنى كباحث تاريخى أجمع المعلومات من أكثر من مصدر أقول مرة أخرى أنه كان فقط يستكشف التنظيمات، بدليل أنه عندما شكل تنظيم الضباط الأحرار طلب من أعضائه المنتمين لأى تنظيم سياسى الاستقالة منه، فرفض عبد المنعم عبد الرءوف الاستقالة من الإخوان، فقام بفصله من التنظيم، وعندما نجحت الثورة، لم يهتم كثيرا بالحركة الشيوعية لأنها تتبنى أفكارا نظرية ليست لها شعبية، وكذلك لم يهتم بحزب «مصر الفتاة» لأن شخصية مؤسسة أحمد حسين متحولة، ولكنه أبدى اهتماما خاصا بالإخوان لأنهم الأكثر انتشار، بسبب تبنيهم خطاب عاطفى يؤثر على الناس، كما أنه يعلم خطورتهم.

صدام عبد الناصر والإخوان

» وكيف بدأ الصدام بين عبد الناصر والإخوان؟

يطلق تنهيدة عميقة استعدادا لحديث طويل، بدأه بالقول: بعد نجاح الثورة أراد عبد الناصر أن يرسل رسالة طمأنه للخارج، وأنه ليس معاديا للنظام الملكي، ولكنه عداءه كان مع الملك، فقام بتشكيل وزارة رأسها على ماهر، وكان رئيس حكومة سابقا فى العهد الملكي، ورئيسا للديوان الملكي، وأصدرت وزارته قرارات لصالح أفكار التنظيم، لكن فى 7 سبتمبر عام 1952 حدث الصدام مع على ماهر، عندما رفض إصدار قانون الإصلاح الزراعى الذى يحدد الملكية بـ 200 فدان، وحينها تقرر إسناد المهمة لمحمد نجيب، وفى هذه المرحلة كان عبد الناصر هو الذى يقود من خلف الستارة، واتصل حينها بعضو مكتب الإرشاد على عشماوي، طالبا منه إرسال أسماء للانضمام للوزارة الجديدة، فانقسم الإخوان على أنفسهم، فأرسل مكتب الإرشاد أسماء وأرسل على عشماوى من جانبه أسماء أخرى، فتجاهل عبد الناصر كل الأسماء التى وصلته مثل أحمد حسني، صالح أبو رقيق، لعلمه بخطورتهم الفكرية، واختار الشيخ أحمد حسن الباقوري، وكان عضوا فى مكتب الإرشاد وزيرا للأوقاف، وعندها طلب منه مرشد الإخوان رفض المنصب، لكنه لم يستجب، فقام الهضيبى بفصله من الإخوان، وعندها بدأت تظهر سحب الأزمة بين عبد الناصر والإخوان، وتوالت الأحداث بعد ذلك، فمع الإعلان عن نية إصدار قانون للإصلاح الزراعى يحدد أقصى حد للملكية بـ 200 فدان، طلب مرشد الإخوان الهضيبى مقابلة عبد الناصر، وطلب منه رفع حد الملكية إلى 500 فدان، وهو نفس الطلب الذى طلبه فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد، باعتباره من كبار الملاك.

» وأين ذهبت إذن ما يرددونه دوما عن اهتمامهم بالبسطاء؟

ترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة قبل أن يقول متعجبا: بسطاء!!.. هؤلاء كانوا أصحاب مصالح وشركات ومتاجر وأراضى ويدافعون عنها مثل غيرهم.

وينتقل فى إطلالة سريعة على الحاضر مضيفا: لماذا نذهب بعيدا، سأسألك ماذا فعلت الحكومة فى عهد رئيسهم محمد مرسى من أجل العدالة الاجتماعية، التى كانت إحدى شعارات ثورة 25 يناير، الإجابة أنه لم يفعلوا شيئا، لأنهم لا يجيدون سوى الخطاب الدينى العاطفي، وهو خطاب لا يطعم خبزا.

» عذرا على هذا السؤال الذى قطع رواية الصدام بين عبد الناصر والإخوان...

يواصل الحديث بلهجة متحمسة قائلا: سؤالك كان مهما حتى يفهم الناس حقيقتهم، والتى تتضح أكثر مع الصدام الثانى عندما قابل الهضيبى عبد الناصر مرة أخرى، وقال له أن لهم طلبا واحدا عنده، وهو أنه يرسل لهم أى قرار ينوى اصداره قبل أن يصدر لدراسته، فأدرك عبد الناصر حينها أنهم يريدون أن يكونوا أوصياء على مجلس قيادة الثورة، فقال له إن ما تطلبه وصاية، ونحن قمنا بالثورة بدون وصاية من أحد، ومن الأزمات الأخرى عندما طالب الهضيبى عبد الناصر بإصدار قرار بتعميم الحجاب على المرأة المصرية، فرد عليه بأن الحجاب أو عدمه مسئولية رب الأسرة، كما أن هناك فئات فى الشعب لا يستطيع أن يلزمها بذلك.

ويضيف د.الدسوقي: «يظهر فى هذا الموقف فائدة اقترابه منهم قبل القيام بالثورة وجمعه للمعلومات عنهم، حيث أحرجه قائلا: وكيف تطلب منى هذا الطلب وابنتك التى تدرس فى كلية الطب غير محجبة، البسه لابنتك أولا، واستمر الصدام تلو الآخر حتى صدر قرار إلغاء الجماعة فى يناير من عام 1954».

» كل هذه الأحداث والصدامات فى عامين فقط؟

يرد على الفور: نعم فى عامين، فعند مطالعة وثائق تلك الفترة تتعجب كيف كان يعيش عبد الناصر فى هذا التوتر، فما ان يخرج من أزمة، حتى يدخل فى أخرى.

الزعيم

» هل تعاطفلك معه بسبب كم التوتر الذى عاش فيه هو ما دفعك لوصفه فى مداخلة تليفونية مع برنامج «مانشيت» للإعلامى جابر القرموطي، بأنه الرئيس الوحيد الذى يستحق لقب زعيم؟

يومئ بالرفض قبل أن يقول وهو يشير إلى معجم لغوى على أحد أرفف مكتبه: الزعيم فى اللغة هو الكفيل، وهو ما يظهر بشكل وضح فى الأيه القرآنية بسورة يوسف : «قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»، والزعيم هنا تعنى المسئول أو الكفيل.. وفى السياسة فإن الزعيم هو من يقدم على اجراءات لصالح الآخرين دون أن يطلبوا منه ذلك، وهذا ينطبق على عبد الناصر، ولا ينازعه فى ذلك سوى محد على باشا، مؤسس مصر الحديثة، الذى أقدم على اجراءات تجعله فى مصاف الزعماء، عندما أنشأ المدارس المدنية، بعد أن كان التعليم فى مصر دينيا، وجمع الصبية من الحارات وادخلهم للمصانع.

» ولكن مثل هذا الرأى يناقض بعض الثوابت التى تربينا عليها، ففى مراحل الدراسة المختلفة كان اسم سعد زغلول يقترن بكلمة الزعيم، ولكن رأيك هذا ينزع عنه تلك الصفة؟

أنا أناقش المسألة لغويا وعلميا، فهو من هذه الناحية ليس زعيما.

» لماذا لا يكون زعيما؟

يقول بثقة بدت واضحة على وجهة وعبرت عنها مفرداته: عندما تعشق أحد تتحول لكاتب دراما، وليس باحث تاريخي، وأنا كباحث تاريخى ابنى رأيى على حقائق ومعلومات تم جمعها من أكثر من مصدر، فالاستقلال عن بريطانيا عن طريق الذهاب إلى مؤتمر فرساى الذى سيعقده الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى، وهو مشروع سعد زغلول الوطني، كانت فكرته تعود لعمر طوسون حفيد سعيد باشا، ثم وقعت فى حجر سعد باشا.

» كيف حدث ذلك؟

يطلق تنهيدة عميقة استعدادا لإجابة طويلة بدأها بخلفية تاريخية عن عمر طوسون قائلا: هو من عائلة الحكم، ولكن أصبح خارج الصورة بعد أن أصبح إسماعيل هو الوالى ومنحه السلطان العثمانى لقب خديوي، وكان الحكم فى مصر منذ عهد محمد على لأكبر أبناء الأسرة سنا، ولكن الخديوى إسماعيل حتى يحفظ الحكم لنفسه أصدر مرسوما بأن يكون الحكم لأكبر أبناء الوالي، ليخرج من الصورة بمقتضى ذلك كل فروع الأسرة من أولاد سعيد وإبراهيم.

ويواصل الحديث قائلا: «ولأن طوسون باشا لم يعد من دائرة الحكم، فقد أقام فى الأسكندرية واهتم بالأنشطة الاجتماعية، فأسس نادى سبورتينج، ورأس جمعيات لمنع المسكرات ومنع القمار، غير أنه بدأ يهتم بالسياسة فى يناير من عام 1918، عندما أعلن الرئيس الأمريكى ويلسون المبادئ الـ14 لتكون أساس المباحثات بين الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الأولى، ومنها حق تقرير المصير للدول المحتلة.

ويقول د.الدسوقى: «هنا بدأ طوسون باشا يفكر فى كيفية اشتراك مصر فى المؤتمر الذى سيعقد فى فرساي، وتناقش فى هذا الأمر مع صديق له يدعى محمد سعيد باشا، فنصحه خشية غضب الوالي، بالابتعاد عن الصورة وإدارة المشهد من خلف الستار عن طريق سعد باشا زغلول الذى كان عضوا فى الجمعية العمومية، وكان وزيرا سابقا للمعارف، ونسق لهما لقاء فى الأسكندرية، وجاء طوسون باشا للقاهرة مرتين للقاء سعد زغلول، فنما إلى علم الوالى أحمد فؤاد فى ذلك الوقت هذه اللقاءات، وخشى أن تكون سببا فى لفت انتباه الإنجليز لشخصية طوسون باشا، ليعود إلى دائرة الحكم من جديد، فاستدعاه إلى قصر عابدين، وطلب منه عدم مغادرة الإسكندرية والمجىء إلى القاهرة مجددا، وآثر طوسون باشا السلامة، فوقعت المسألة فى حجر سعد زغلول باشا.

أفعال منزوعة الثورية

» كل ما قلته لا ينفى عنه الزعامة، فالرجل قادته الظروف إلى مهمة وسعى لتأديتها سواء كان الأمر فكرته أو فكرة غيره؟

يشير بعلامة الانتظار بيده اليمنى طالبا سرد باقى القصة، قبل أن يستأنف قائلا: انتظر لتحكم فى النهاية، فسعد زغلول وبعد أن ألقيت المسألة فى حجره، بدأ يعقد اجتماعات جماهيرية لتشكيل الوفد الذى سيتحدث باسم مصر فى فرساي، ولفتت هذه الاجتماعات انتباه المندوب السامى البريطانى الذى حذره من عقد مثل هذه الاجتماعات، فبدأ ينقل الاجتماعات إلى بيته، فحذره المندوب السامى مره أخرى، فطلب سعد زغلول وساطة الخارجية البريطانية وأرسل برقية لوزير الخارجية البريطانى يرجوه فيها أن يتدخل له لدى المندوب السامى ليسمح له بعقد الاجتماعات.

ويتساءل د.الدسوقى ساخرا: هل صيغة هذه البرقية تكشف عن عقلية ثورية ؟! ثم يواصل الحديث قائلا: فكر سعد زغلول ان يتجه للمندوب السامى بشكل مباشر ويطلب منه تشكيل وفد لتمثيل مصر فى مؤتمر فرساي، فسأله المندوب السامى عن الصفة التى تمنحه الحق فى الحديث عن المصريين، فرد عليه بأنه الوكيل المنتخب للجمعية التشريعية التى تشكلت عام 1913، فقال له المندوب السامي: ان هذا الأمر سابق لأوانه لأن الحرب لم تنتهى بعد.

ويأخذ رشفة من الماء قبل أن يواصل سرد القصة مضيفا: ما حدث بعد ذلك انه تم التصديق على الهدنة وانتهت الحرب فى 11 نوفمبر من عام 1918، فذهب سعد زغلول ومعه بعض السياسيين مثل على شعراوي، وعبد العزيز فهمى لمقابلة المندوب السامى قائلين له إنه حان الوقت للتحرك، فسأل سعد زغلول نفس السؤال السابق: بأى صفة تتحدث، فرد بنفس الإجابة السابقة: بصفتى وكيل للجمعية التشريعية، فقال له المندوب السامى أن الجمعية التشريعية التى تتحدث بصفتها معطلة.

ويصمت لوهلة يلتقط خلال الأنفاس، وقبل أن أقاطعه بسؤال حول ما تكشفه تلك التفاصيل من أن سعد زغلول كان يسعى ويبذل جهدا، أشار مره أخرى بعلامة الإنتظار ليستكمل سرده قائلا: خرج سعد زغلول والوفد المرافق له من عند المندوب السامى عاقدين العزم على الاجتماع فى منزل سعد زغلول لعمل صيغة توكيل يوقع عليه السياسيون وطوائف الشعب، لإعلام المندوب السامى أن سعد زغلول مفوض من قبل المصريين.

وترتسم على وجه د.الدسوقى ابتسامة ساخرة، قبل أن يواصل الحديث متسائلا: هل تعرف الصيغة التى كان يريد سعد زغلول كتابتها فى الخطاب؟.. وقبل أن أرد على سؤاله، قال بلهجة ساخرة: كان يريد كتابة «نحن الموقعون أدناه أنبنا حضرات (أسماء الوفد) للحصول على استقلال مصر بالطرق السلمية والمشروعة حيثما استطاعوا لذلك سبيلا تحتل راية بريطانيا العظمى.

» كيف يكون الاستقلال تحت راية بريطانيا العظمى التى هى المحتل الذى نريد التخلص منه؟

تتواصل ابتساماته الساخرة، ليقول: هذا السؤال بالضبط هو ما قاله عضو فى الحزب الوطنى كان حاضرا للاجتماع، فاعتبر سعد زغلول هذا السؤال إهانة له، وانفعل موجها حديثه لهذا الرجل: «أنت بتهيننى فى بيتى»، فرد عليه الرجل قائلا: «هذا بيت الأمة»، ومن هنا أصبح اسم بيت سعد زغلول هو بيت الأمة».

» وهل استجاب سعد زغلول لهذه الملاحظة؟

يصمت لوهلة يلتقط خلالها الأنفاس بعد هذا الحديث الطويل، ليقول: تم حذفها طبعا، ولكن بقيت عبارة «بالطرق السلمية المشروعة»، وهذا يكشف عن أنه لم تكن طبيعته ثورية، ويعود د.الدسوقى ليسأل مجددا: هل هناك شيء اسمه ثورة سلمية؟

» ألم تكن ثورة 25 يناير 2011 سلمية؟

تخرج الكمات من فمة سريعة قائلا: بالمقاييس العلمية هذه ليست ثورة، فالثورة علميا هى تغيير جذرى يبدأ بالإطاحة بالحكم، ثم يحدث تغيير جذرى فى المجتمع لصالح الأهداف التى تعلنها الثورة، لكن كل ما حدث فى 25 يناير 2011، هو أننا أطحنا برأس النظام، وبقى النظام وفلسفته قائمة.

» وما هو النموذج للثورة من الناحية العلمية؟

يرد على الفور: ثورة يوليو 1952 من الناحية العلمية تستحق هذا اللقب، والثورة الأم لكل الثورات والتى شكلت التوصيف السياسى لكلمة ثورة، هى الثورة الفرنسية، حيث بدأت شرارتها الأولى عندما ذهب وفد من الطبقة البورجوازية التى تضم فئة التجار والصناع إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر، مطالبين بالمشاركة فى الحكم مع فئة الإقطاع التى كان يتزعمها الملك، فرد عليهم (أنا الدولة)، وخرجوا من عنده وبدأ الإعداد للثورة، ومن وقتها أصبحت الثورة فى الفكر السياسى هى تغيير نظام الدولة.

التربية القومية

» ولكن مثل هذه الأفكار التى تزعم أنها مستندة إلى بحث تاريخى تناقض ما هو مكتوب فى كتب التاريخ فى مراحل التعليم المختلفة؟

تعود الابتسامة الساخرة مره أخرى إلى وجهه قبل أن يقول: المناهج عندنا تدرس التاريخ بأسلوب التربية القومية، حيث تعلى من شأن بعض القادة والأحداث لرفع الروح الوطنية، وهذا خطأ كبير وليس علما، لأن العلم يكون بالدراسة والتفسير، وإذا قمنا بذلك سيتغير رأينا فى كثير من الأحداث ومنها ما يسمى بـ «الربيع العربي»، الذى هو مخطط أمريكي، بكل تفاصيله حتى الاسم.

» كثيرون تحدثوا عن هذه الرؤية، ولكنها مبدئيا تعنى أن الحكام العرب فى تلك الفترة لم يكونوا على وفاق مع أمريكا، فأرادت استبدالهم، وهذا غير صحيح...

يشير بعلامة الإنتظار تمهيدا لحديث طويل يشرح فيه وجهة نظره، والتى بدأها بقولة: القصة تعود إلى بعد عام 1991 مع تفكيك الإتحاد السوفيتى وإعلان أمريكا ( النظام العالمى الجديد)، وهى عبارة مبهمة كعادة الأمريكان، وبدأت ملامح هذا النظام مع سعى أمريكا لتفكيك الكيانات الكبرى والقوميات على أساس طائفي.

وبدأ المشروع الأمريكى فى نيجريا، وهى دولة كبيرة لها حدود ممتدة، وتعاملوا مع كاتب نيجرى كتب مقاله تروج لفكرة انشاء دولة فى شرق نيجريا باسم القبيلة التى ينتمى لها، فاستدعته الحكومة النيجيرية وأعدمته، وهاجت أمريكا حينها بدعوى حرية الرأى والتعبير.

وانتقلوا بعد ذلك إلى أندونسيا مع تولى عبد الرحمن واحد رئاسة الدولة، واستغلوا حديثه عن الدولة الإسلامية، وساعدوا جزيرة تيمور الشرقية التى يسكنها 3 أرباع مليون مسيحى إندونيسى، ليطالبوا بالاستقلال عن أندونسيا إبان حكم الرئيسى الأمريكى بيل كلينتون، وبالفعل كان لهم ما أرادوا، وأصبحت دولة مستقلة لها عضوية فى الامم المتحدة، وفى يوم إعلان الدولة حضر كلينتون الاحتفال رغم أن الإعلان عن الدولة تم بعد تركه الحكم، وقال كلمة أشار فيها إلى أن ما حدث هو درس فى تقرير مصير الشعوب.

ويبتسم الدسوقى ساخرا، قبل أن يواصل الحديث قائلا: «درس فى تقرير المصير لثلاثة أرباع مليون موطن، بينما الفلسطينيون ليس لهم الحق».

وأضاف: وجاء بوش الأبن ليستكمل المسيرة، وتم فى عهده حادث ضرب برجى مركز التجارة العالمية فى 11 سبتمبر، وهذا العمل صناعة أمريكية لإيجاد المبرر فى استهداف الدول بدعوى إيوائها للمتشددين الذى استهدفوا البرجين، وقد تيقن شاعر أمريكى كان أميرا للشعراء فى نيوجرسى لهذا المخطط، وكتب قصيدة ساخرة قال فيها «من الذى أبلغ اليهود العاملين بالبرجين بعدم الذهاب فى هذا اليوم»، وهذا الشاعر تم رفع امارة الشعر عنه لفضحه هذا المخطط.

ويصمت برهة يلتقط خلالها الأنفاس ليواصل الحديث: المهم أن أمريكا بدأت تستخدم حادث البرجين ذريعة لاحتلال العراق، وظهرت أهدافهم واضحة من بنود الدستور الذى أصدره الحاكم العسكرى الأمريكي، والذى نص على أن العراق دولة فيدرالية والعرب أحد مكوناتها، بالإضافة لمكونات أخرى مثل الكرد والشيعة والمسيحيين، ولا تزال الاضطرابات فى العراق أساسها هذا الدستور.

ويستكمل سرد المشروع الأمريكى قائلا: وفى الفترة الرئاسية الثانية للرئيس جورج بوش الابن أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس عن ما أسمته «الفوضى الخلاقة» لإقامة النظام العالمى الجديد، فرغم أن الحكام العرب حينها لم تكن هناك مشاكل بينهم وبين أمريكا، إلا أنهم كانوا سيرفضون تقسيم دولهم، فكانت فكرتهم أن يأتوا بحاكم يحقق أهدافهم من خلال ما يعرف بـ «الربيع العربي»، الذى بدأ فى ديسمبر من عام 2010 فى تونس، وانتقل مثل الفيروس المعدى لأكثر من دولة عربية، وكانت شرارة الأحداث التى فجرته عادية جدا، وحدث ما هو أقسى منها فى فترات سابقة.

الإخوان  والحكم

» أفهم من ذلك أن وصول الإخوان للحكم فى مصر كان سيحقق لأمريكا مبتغاها؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: قطعا، فهم كانوا يريدون تكرار تجربة عبد الرحمن واحد فى أندونسيا، فعدما يأتى حاكم أصولى يتحدث عن تطبيق الشرع ويستدعى مصطلحات مثل أهل الذمة ودفع الجزية يأتى المبرر لأمريكا كى تتدخل لحماية الأقليات ويحدث تقسيم للدولة.

» إذن لولا 30 يونيو كانت أمريكا ستنجح فى هذا المخطط؟

يرد على الفور: قطعا 30 يونيو أوقف هذا المخطط، ولكنى ما زلت أخشى على مصر من سيطرة رأس المال وترك الناس لآليات العرض والطلب، وأتمنى أن يعود دور الدولة فى التدخل لحماية الفئات الفقيرة من خلال القطاع العام، وان كنت أعلم أن الجهات الدولية المانحة ترفض ذلك، ولكن يجب أن نوجد حلا.

» وهل ترى هناك فرصة لعودة الإخوان للحكم؟

يشير بإصبعيه السبابة والوسطى قبل أن يقول: فرصتهم للعودة تأتى إذا لم نحقق أمرين، الأول السيطرة على اتساع رقعة الفقر، لأن هذا مدخلهم لإثارة غضب الناس، والثانى إذا لم تتخل النقابات عن العمل السياسى والتركيز فى خدمة مصالح أبنائها.

» وما علاقة دور النقابات بالإخوان؟

يقول وقد ارتفعت نبرة صوته: فى الدول التى تعمل بالنظام الرأسمالي، لابد أن تكون النقابات قوية حتى تدافع عن حقوق ومصالح أبنائها، ولكن للأسف النقابات واتحادات الطلاب عندنا تخلت عن دورها المهني، وأصبحت تعمل بالسياسة وهذا خطأ كبير، يتيح المجال لمن يريد الصيد فى الماء العكر.

مذكرات عمرو موسى

» أحد الرؤساء الذين ارتبط اسمهم بتعظيم دور الدولة فى حماية الفئات الفقيرة تبين فيما بعد أنه كان يحضر طعامه من سويسرا....

تقصد ما ذكره عمرو موسى عن عبد الناصر فى مذكراته

» بالضبط هذا ما أقصده، وكنت اتساءل لماذا النقد اللاذع الذى وجهته لعمرو موسى، فالرجل ذكر وقائع كان مطلعا عليها بحكم عمله؟

ترتفع نبرة صوته قليلا وهو يقول: رجل اشتهر عنه البساطة، حتى أنه نهر ابنه عبد الحكيم عندما كان يهم للذهاب للمدرسة مرتديا حذاء رياضيا وحقيبة رياضية أحضرها له سكرتيره محمد أحمد من الخارج، وأجبره على ارتداء نفس الزى المدرسى الذى يرتديه أبناء المصريين، فكيف نتهمه بذلك.

» ولكن الرجل كان قريبا من الأحداث بحكم عمله، وليست له مصلحة حالية فى تشويه سيرته، لاسيما أنه أثنى عليه فى كثير من المواضع؟

يصمت لوهلة قبل أن يقول: أنا لا أنكر الواقعة، فربما بالفعل تم استقدام طعام من سويسرا، ولكن من المؤكد أنه ليس لعبد الناصر، فمن الممكن أن تكون الحاشية المقربة منه هى التى فعلت ذلك، وطلبت الطعام على أنه لعبد الناصر، ولكنه لم يفعل ذلك.

» هذا يقودنى لشخصية عبد الحكيم عامر الصديق المقرب لعبد الناصر، والذى يرى البعض أنه كان نقطة ضعفه.. فهل توافق على ذلك؟

يرد على الفور: نعم.. ولكن ليس عبد الحكيم عامر وحده، ولكن كل أبناء دفعته، فهو كان يؤمن بما يعرف بـ «شرف الدفعة»، ولذلك فإن أبناء دفعته الذين اختلفوا معه اكتفى بأن ينحيهم جانبا دون أن يؤذيهم بالسجن، مثل عبد اللطيف البغدادي.

» ولكن أسرة عبد الحكيم عامر تردد من حين لآخر بأن عبد الناصر خطط لقتله، وأنه لم يمت منتحرا؟

ترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة قبل أن يقول: بالذمة هذا كلام.. لماذا يقتله، وهو كان بإمكانه محاكمته عسكريا واصدار حكم بإعدامه بتهمة الإهمال بعد أن أخبره عبد الناصر بوصول معلومات أن العدو الاسرائيلى من المحتمل أن يشن هجوما ما بين 4 إلى 6 يونيو، ولكنه لم يتخذ أى اجراء وتم تدمير المطارات الحربية.

» إذن أنت مع رواية أنه انتحر؟

طبعا، لأن عبد الحكيم عامر شخصية عاطفية، ومثل هذه الشخصيات لا يهمها الهزيمة، بقدر ما يهمها ماذا ستقول للناس، وربما شعر بأنه لن يقدر على مواجهة الناس، فأقدم على الانتحار، ولو كان عبد الناصر دمويا لأعدمه وصفقت له الناس، وبالمناسبة فقد كان كريما أيضا مع محمد نجيب، عندما حدد إقامته، ولم يعدمه فى ميدان التحرير، والتهمة جاهزة، وهى التواصل مع جماعة الإخوان.

» بمناسبة محمد نجيب استوقفنى تصريح قلت فيه أن «عبد الناصر اتغدى بمحمد نجيب قبل ما يتعشى بيه، والسياسة مفيهاش أخلاق»، فكيف تدافع عن فعل أنت وصفته أنه غير أخلاقى؟

يشير بثلاثة من أصابعه قبل أن يقول: دعنا نفرق بين ثلاثة أمور، وهى الفعل الأخلاقى ويعنى الفعل الذى يراعى الموروث الثقافى والأعراف الدينية، وغير الأخلاقي، والذى لا يهتم بهذه الاعتبارات، والفعل خارج منطقة الأخلاق، أى الذى لا يصح ان تحكم عليه بحكم أخلاقي، والسياسة من هذا النوع، فهى خارج منطقة الأخلاق، وبنطبق عليها المثل الشعبي: «اللى تغلب به العب به».

» ولهذا السبب لا يجب إقحام الدين فى السياسة؟

بالضبط، فالدين والسياسة لا يجتمعان، وأزمة الإخوان فى الخلط بينهما، وتوظيف الدين لصالح السياسة، وبالمناسبة لا يجوز أيضا توظيف العلم لصالح السياسة.

الملكية والليبرالية

» ولكن الوفديين يتهمونك باقحام اتجاهك السياسى كرجل يسارى فى أرائك العلمية؟

يطلق ضحكة عاليه قبل أن يقول: هناك مثل فرنسى يقول «فتش عن المرأة»، وأنا فى السياسة أعمل بمثل «فتش عن الاقتصاد»، فحتى تفسر الحدث السياسى أنظر للأوضاع الاقتصادية، وأنا عندما أعمل بهذا المبدأ أجد أن أعضاء حزب الوفد كانوا أصحاب مصالح اقتصادية، فصدرت كل القوانين تخدم مصالحهم، فمثلا لو راجعت كل مشروعات القوانين التى صدرت عن البرلمان بما فيها سنة 1942 فى حكومة الوفد، ستجد أن قانون حق العمال فى تكوين النقابات قد تم تفريغه من مضمونه بالنص على أنه يستثنى من القانون عمال الخدمات والمنازل والمراكب والزراعة، وذلك لأن أعضاء حكومة الوفد خشوا من أن يؤسس العمال نقابات تهدد مصالحهم الاقتصادية.. وأنا عندما أردد هذه الآراء بالوثائق يغضب الوفديون، ولا أهتم بذلك، لأنى فى النهاية باحث تاريخى لا أتحدث إلا بالوثائق.

» ما تقوله يتناقض مع ما يردده البعض حاليا من أن الحقبة الملكية قبل ثورة يوليو كانت فترة حرية وليبرالية...

ترتفع نبرة صوته قائلا: هذه أكذوبة فمن يراجع دستور عام 1923، ويرى شروط الترشح لمجلس الشيوخ ومجلس النواب، سيدرك أنه تم تفصيلها لصالح فئة كبار الملاك فقط، فأين الليبرالية إذن، فمثلا كان من شروط الترشح لمجلس الشيوخ، أن يكون الشخص ممن يدفعون ضريبة أطيان 150 جنيها فى السنة، وإذا علمنا أن ضريبة الفدان وقتها كانت 50 قرشا، فهذا يعنى أن المرشح يجب أن يمتلك 300 فدان، ومن شروط مجلس النواب أن يدفع الشخص 150 جنيه تأمين، لا ترد له إلا اذا نجح، أو حصل على 7% من أصوات الدائرة، وهذا يعنى أن المرشح يجب أن يكون من أصحاب رأس المال.

الباحث والمؤرخ

» دائما ما تستند فى حديثك للدساتير والوثائق لإثبات وجهه نظرك، لذلك يبدو لى غريبا الآن ذلك التصريح الذى أطلقته فى احتفالية إطلاق كتاب «الدولة والفوضى» للكاتب مصطفى بكري، حيث قلت حينها إن هذا الكتاب وثيقة تاريخية لمن أراد أن يعرف ما حدث فى 25 يناير وحتى 30 يونيو، لأن نفس الكاتب كانت له آراء مناقضة لما جاء بهذا الكتاب...

ترتسم ابتسامة عريضة على وجهه لم أتوقعها بعد هذا السؤال، وقال: من الجيد أنك طرحت هذا السؤال، لكى أوضح أن من يدرس التاريخ لا يعود لمصدر واحد، فإذا كنت أدرس فترة 25 يناير، فيمكن أن أرجع لكتاب مصطفى بكرى وغيره من الكتب، فإذا وجدت اجماعا على واقعة معينة، أذكر ذلك، وإذا انفرد مصدر واحد بواقعة ما فلابد أن يظهر ذلك فى كتابتى وأقول «من المحتمل».

» أنت تريد أن تقول أنك بهذا التصريح لم تمنحه صك الحقيقة الكاملة؟

بالضبط، هو أحد المصادر التى يمكن الرجوع إليها، مع مصادر أخرى.

» هذا يقودنى لسؤال هل الصحيفة وثيقة تاريخية؟

طبعا الصحيفة وثيقة تاريخية، ولكن يجب التعامل معها بضوابط وشروط، مثل معرفة اتجاهات الصحيفة ونمط ملكيتها، لأن ذلك يؤثر على كيفية تعاملها مع الخبر، وتحضرنى هنا مفارقة توضح القصة، فعند انفجار مفاعل تشرنوبل فى الاتحاد السوفيتى أخذت صحيفة الأهرام الحكومية الخبر مانشيت فى الصفحة الأولى، وظهر كخبر صغير فى صفحة داخلية بصحيفة الأهالي، وحدث العكس عند انفجار مفاعل بيتسبرغ فى أمريكا، حيث احتفت به الأهالى وظهر كخبر صغير فى صفحة داخلية بالأهرام.

» وهل الصحفى بذلك يعد مؤرخا؟

التأريخ جاء من الفعل أرخ، وكانوا قديما يقولون أرخت الناقة، أى نزلت وليدها، وأصبح هناك حدثا جديرا بالتسجيل، وهو ما ينطبق على الصحفى الذى يؤرخ بتسجيله للأخبار.

» إذن لماذا أثيرت جدلية حول إذا كان الكاتب الصحفى الكبير حسنين هيكل مؤرخا أم لا؟

هذا الجدلية أثيرت لأن هناك خلط بين الباحث التاريخى والمؤرخ، فأنا باحث تاريخى ولست مؤرخا، بينما هيكل مثله مثل عبد الرحمن الجبرتى وابن إياس مؤرخ يسجل التاريخ، وما يكتبه هو أحد المصادر التى أرجع إليها مع مصادر أخرى عند كتابة البحث التاريخي.

مناظرة الطيب والخشت

» سأنتقل معك إلى قضية تجديد الخطاب الدينى المثارة حاليا، وسأبدأ من الحوار الذى دار بين شيخ الأزهر د.أحمد الطيب ود.محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة فى إحدى جلسات مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي، والذى آثار حالة من الجدل لدى المعسكر المطالب بتجديد الخطاب الديني، حيث رأوا مثلا أن استخدام شيخ الأزهر لكلمة «الفتح الإسلامي» فى غير محلها، وقالوا أنه كان غزوا مثلما كانت الحملات الصليبية غزوا...

يومئ بالموافقة على ما ذهب إليه هذا المعسكر، قبل أن يقول: دعنا نفرق بين الكتابة العلمية والعاطفية، فالتاريخ علم مستقل عن الدين والسياسة، ومن الناحية العلمية فإنه كان غزوا، لأن الغزوة فى اللغة تعنى انتقال أشخاص من مكان ما لغزو أشخاص آخرين فى مكان مختلف، ولكن السؤال هل كلمة الغزو مشينة حتى نحاول أن نتبرأ منها؟

يجيب: من يستخدم (الفتح) هو يريد أن يشير إلى دلالة إيجابية تمثلت فى أنه كان سببا فى نشر الإسلام، وهنا أسأل: هل كانت مصر أمة كافرة عندما جاءها العثمانيون، حتى نسميه (الفتح العثماني)، فالعثمانيون أصولهم من شمال غرب الصين والإسلام وصل مصر قبلهم بزمن طويل، ودخلوها بعد أن أراقوا الدماء، بينما دخل الإسلام مصر على يد عمرو بن العاص تحت شعار لا أكراه فى الدين، حتى أن الروايات التاريخية تقول أن المقوقس عظيم أقباط مصر رحب بهم، إذن فلا يوجد ما يشين المسلمين عندما نسميه غزوا، لأنه اللفظ العلمى الصحيح.

» من بين ما أثير أيضا فى هذا الحوار هو اتهام البعض لشيخ الأزهر بتعظيم الخلافة العثمانية، وقالوا ردا عليه أن الحملة الفرنسية عندما جاءت مصر وجدتنا متأخرين بسبب هذه الخلافة.. فإلى أى الاتجاهين تميل؟

يصمت لوهلة قبل أن يقول: دعنا نتفق فى البداية على اطلاق كلمة «غزو» على الاثنين، وأن الأثنين دخلا مصر بعد أن أراقوا الدماء وكانت هناك مقاومة لهما، ولكن من أيهما أستفاد المصريون؟

الإجابة أنه بالقطع استفدنا من الحملة الفرنسية، لسبب بسيط وهو أن الفرنسين عندما دخلوا مصر كانوا أكثر حضارة منا، حتى أن المصريين ودون أن يطلب منهم الفرنسيون ذلك، حاكوهم فى الملبس، فدخل البنطلون إلى الزى المصري، كما حاكوهم فى طريقة تناول الطعام.

ولكن على العكس، فإن العثمانيين كانوا أقل حضارة من المصريين، لأن أصولهم قبائل متنقلة شمال غرب الصين، والحضارة تأتى مع الاستقرار، والإتجاه للنشاط الزراعي، والدليل أن لم يثبت أن أحد من المصريين حاكى سلوكهم، لا فى الملبس أو الكلام، بل بالعكس هم من تأثروا بالدول التى دخلوا إليها، بدليل أن لغتهم تضم مفردات من الأردو والفارسى والعربى واللغات الأجنبية.

قياس أرسطو

» بعيدا عن هذه الأمور الفرعية ذات الصلة بقضية تجديد الخطاب الديني، ما هو توصيفك للمشكلة الأساسية فى هذه القضية؟

يطلق تنهيدة عميقة استعداد لاجابة طويلة، قبل أن يقول: المشكلة تكمن فى استخدام النص خارج الظروف الموضوعية التى وضع من أجلها، فالمعروف ان القرآن نزل على سنوات وليس دفعة واحدة، فعندما كانت تحدث مشكلة ما كان الوحى يهبط بالنص القرآنى لحلها.

وبدأت الإشكالية فى القرن الرابع الهجري، مع ظهور فرقة المعتزلة، التى قالت انه لا يجوز استعمال النص خارج الظروف الموضوعية التى صدر بشأنها، ورد عليهم أهل السنة والجماعة بأن النص مطلق وصالح لكل زمان ومكان.

ولكن بدأت تواجههم مشكلة أن بعض الأمور لم ينزل بها نص، فمثلا الخمر هناك نص يحرمها، ولكن التدخين لا يوجد له نص، وهنا وجدوا الحل فى منهج القياس عند أرسطو، ووفق هذا المنهج قالوا إن التدخين يجعلك تسرف، والإسراف حرام، إذن فالتدخين حرام، ولكن المشكلة ان الاسراف فى استخدام هذا المنهج جعل الفقهاء يحاصرونا بالفتاوى من يقظتنا وحتى نومنا وهذا أمر غير صحي، كما أن من استخدموه تجاهلوا أن أرسطو وضعه ليكون الخيار الثالث بعد أن ان يفشل خياران يسبقاه، وهما البحث عن سبب ملموس، وتحكيم العقل، ولكن لأن القياس سهل أصبحنا نعتمد عليه.

ويضيف: «يحضرنى هنا عندما حدث الكسوف الكلى للشمس عام 1996 فأصدرت دار الافتاء فتوى تحرم النظر لعين الشمس فى هذا اليوم، استنادا لمنطق القياس، وهو (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، ومن ثم فإن الأضرار التى يسببها النظر لعين الشمس تجعل مثل هذا الفعل حراما.

ويطلق ضحكة عالية قبل أن يقول: «لو أعملنا هذا المنطق سيكون ركوب الطائرات حرام لاحتمالية سقوطها، وركوب الأتوبيس حرام، لاحتمالية وقوع حادثة، وبالتالى أصبح هناك حصار للناس».

» وما هو الحل من وجهة نظرك؟

يشير بسبابته قائلا: لا أرى حلا سوى أن يأتى تجديد الخطاب الدينى من الأزهر الشريف، لأن أى جهد خارج منظومة الأزهر لن يلق قبولا، ولن يحوذ على ثقة الناس.

» من القضايا المتعلقة بتجديد الخطاب الديني، تلك الضجة التى أثارها قرار رئيس جامعة القاهرة ومن بعده رئيس جامعة عين شمس بحظر ارتداء أعضاء هيئة التدريس من السيدات للنقاب، فهل توافق على هذا التوجه؟

يومئ بالموافقة قبل أن يقول: انا مع المنع لأن جزءا من فهم الطالب لما يقوله الأستاذ يأتى من متابعة انفعالاته، فكيف سيحدث ذلك إذا ارتدت عضوة هيئة التدريس النقاب؟.. ويضيف: «ومع ذلك، فإنى لا أحجر على حريتها فى ارتداء النقاب، ولكن خارج قاعات المحاضرات».

خطة ترامب

» بما أننا مع شيخ الباحثين التاريخيين العرب، سيكون من المنتقد ألا تدلى بدلوك فى خطة ترامب للسلام، التى أعلنت مؤخرا، فكيف ترى فرص تنفيذها؟

كعادته فى الأسئلة التى تحتاج سرد طويل، يطلق تنهيدة عميقة، قبل أن يقول وقد اكتسى وجهه بملامح حزينة: ستفرض طبعا، ولكن إذا أردت أن تفهم لماذا دائما تأتى أمريكا فى صف إسرائيل بهذا الشكل الفج الذى ظهر بالخطة، دعنى أعود بك إلى ما قبل أكثر من 500 عام، وتحديدا فى 1517، عندما انتقد مارتن لوثر، رجل الدين الكاثوليكي، ذو الأصول الألمانية، الكنيسة بسبب بعض الممارسات التى رأى انه لم يرد ذكرها فى الإنجيل، ومنها صكوك الغفران، فتم الإطاحه به خارج الكنيسة، وشكل مجموعة سميت بالبروستانت أى المحتجون، وأرادت هذه الجماعة أن تحتمى فى اليهود، فكتب مارتن لوثر مقالا لاستمالتهم قال فيه أن المسيح ولد يهوديا، ثم هرب اليهود والبروستانت إلى أمريكا، وهناك تم انشاء جماعة سياسية تضمهما معا قامت على مبادئ عقائدية، حيث كان هناك مبدأ يخص المسيحيين، وهو أن المسيح سيبعث ليحكم العالم ألف عام، أما المبدأ اليهودى فهو ان المسيح حتى يبعث لابد من إعادة بناء هيكل سليمان فى القدس، ولذلك تدور كل السياسات الأمريكية حول هذا الهدف.

» بعيدا عن هذه الخلفية التاريخية المهمة.. كيف ترى الخطة؟

يقول بنبره ساخرة: هى تعديل فى صيغة الحكم الذاتى الممنوح لفلسطين فى اتفاقية أوسلو 1993، وهذه الاتفاقية أكبر خطأ وقع فيه الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، فالحكم الذاتى لم يمنحه سوى لقب الرئيس الفلسطيني، ولكن فى الحقيقة ليست له سيادة على الأرض، ويتعامل بعمله المحتل، فهو أشبه بمحافظ فى دولة إسرائيل.

» يبدو لى من حديثك أنه لا يوجد حل...

يصمت لوهلة قبل أن يقول بنبرة صوت حزينة: للأسف الفلسطينيين لا ظهير لهم فى ظل حالة التشرذم العربية وغياب الموقف العربى الموحد.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة