د. محمد السعدنى
د. محمد السعدنى


فى الفكر والسياسة

وكم نمشى إلى المعنى.. ولا نصلُ

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 12 مارس 2020 - 05:40 م

كم البعيدُ بعيدٌ؟ كم هى السُبُلُ؟
نمشي، ونمشى إلى المعنى، ولا نَصِلُ
هُوَ السرابُ دليلُ الحائرين إلى الـماء البعيدِ
هو البُطْلاَن، والبَطَلُ
لكنَّ حكمتنا تحتاجُ أُغنيةً خفيفةَ الوزن
كى لا يتعب الأَمَلُ
كم البعيد بعيدٌ؟ كم هِيَ السُبُلُ؟
شعر محمود درويش -
وهكذا مر فى حياتنا ذات يوم ولايزال فى حضرة الغياب على أوراق الزيتون يغنى، ويهش العصافير التى بلا أجنحة، عاشق من فلسطين لم يترك الحصان وحيداً وقدم لنا آخر الليل بطاقة هوية: سجل.. أنا عربي، ورقم بطاقتى خمسون ألفا، وأطفالى ثمانية، وتاسعهم سيأتى بعد صيف، فهل تغضب، سجل، أنا عربي، وأعمل مع رفاق الكدح فى محجر، ولا أتوسل الصدقات من بابك ولا أصغر أمام بلاط أعتابك فهل تغضب.هو لم يترك العصافير تموت فى الجليل، ولم يقدم لنا ورداً أقل، ولا أعتذر عما فعل الحصار والاحتلال بببنى وطنه حين قال: يا دامى العينين والكفين، إن الليل زائل، لاغرفة التوقيف باقية، ولازرد السلاسل، وحبوب سنبلة تجف، ستملأ الدنيا سنابل.
كان محمود درويش من أهم زهور سلة خبزنا اليومى فى الشعر مع مجايليه سميح القاسم والفيتورى ونازك الملائكة وملك عبد العزيز وصلاح عبد الصبور وعبدالوهاب البياتى وأدونيس، وكان على الضفة الأخرى من النهر صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى وفؤاد حداد وغيرهم ممن مثلت أشعارهم بالنسبة لجيلى رؤية ونافذة وتحريض. كنا نقوم بمسرحة شعر المقاومة فى مدرسة الإسكندرية الثانوية وقصر الحرية وبعدها فى جامعة الإسكندرية، حيث كبرت معنا الأشعار والأفكار وتعقدت الدنيا ولايزال محمود درويش يغنى فى غزة والجليل وبيت حانون والشجاعية وخان يونس، ولانزال معه نمشى ونمشى إلى المعنى ولا نصل.
عرفت وجيلى محمود درويش أكثر عندما تلقفنا بلهفة كتاب الراحل الكبير رجاء النقاش "محمود درويش شاعر الأرض المحتلة"، وأدعوا دار الهلال أن تقدم لأبنائناالشبان طبعة جديدة منه، ثم تابعنا دوواوينه عصافير بلا أجنحة وأوراق الزيتون وعاشق من فلسطين وآخر الليل والعصافير تموت فى الجليل، وبقية أعماله التى ازدادت مع الزمن تعقيداً ولفتها غلالة من الفلسفة والشجن خصمت من غنائية محمود درويش لتضيف إلى غناه ثراء فكرياً جسد أزمة المثقف والمفكر وتوقه للإنعتاق والخلاص والحرية فى عذابات الإغتراب واللاوطن، وراح يحن لخبز أمه، فالأم وطن، والأم سكن والأم تاريخ وذكريات لاتعرف النسيان: أحن إلى خبز أمى، وقهوة أمى، ولمسة أمى، وتكبر فى الطفولة يوماً على صدر يوم، وأعشق عمرى لأنى، إذا مت، أخجل من دمع أمى.
كما مواطنه المفكر إدوارد سعيد، مارس درويش السياسة، أصاب وأخطأ، لكن خطيئته الكبرى لم تكن سوى اجتهاده لفهم العالم وتصاريف الدنيا ومصير الإنسان. عانى كما إدوارد سعيد عذابات مابعد الكولونيالية و"خارج المكان" حيث المنفى والغربة حتى على أرض الوطن. توالت دوواوينه: لاتعتذر عما فعلت، الحصار، فى حضرة الغياب، كزهر اللوز أو أبعد، حيث كتب:
لا موسوعةُ الأزهارِتسعفني
ولا القاموسُ يسعفني...
سيخطفنى الكلامُ إلى أحابيلِ البلاغةِ..
فكيفَ يشعُّ زهرُ اللوز فى لغتى أنا؟
وأنا الصدىوهو الشفيفُ كضحكةٍ مائيةٍ نبتتْ
على الأغصانِ من خفرِ النَّدى...
وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ...
وهو الضعيفُ كلمحِ خاطرةٍتطلُّ على أصابِعنا
ونكتبها سدى.. نذكره اليوم فى ذكرى ميلاده التاسع والسبعون، فنراه توحد مع ذاته وأفكاره ومشواره، صار كما شجرة اللوز يخطفه الكلام إلى أحابيل البلاغة، ولم نزل معه نمشى إلى المعنى ولا نصل.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة