جمال فهمى
جمال فهمى


من دفتر الأحوال

«ذباب» الطغيان والتأخر

جمال فهمي

الخميس، 12 مارس 2020 - 05:43 م

قلت وكتبت مرات عدة أن العبد لله ممن يعتبرون أنفسهم محظوظين، فقد لحقت بالكاد الباب المفتوح على عوالم المعرفة والثقافة الرفيعة قبل لحظات قليلة من إغلاقه بالضبة والمفتاح، واليوم أكرر المعنى نفسه وأنا أتذكر وقفتى قبل سنوات قليلة تحت أعمدة مسرح الكوميدى فرانسيز فى باريس حينما التقيت وقتها شابا مصريا نابها يقرأ مثلى برنامج عروضه.. تعارفنا أنا وهو، وتبادلنا حديث طويل نسبيا (وبقدر ما يمسح به لقاء عابر على قارعة الطريق) فى شؤون الثقافة والفن الرفيع، وأذكر أن الشاب حكى لى والغضب يقطرمن ملامحه تفاصيل واقعة مخجلة من وقائع البلطجة الإخوانية شهدها، قبل يوم واحد فقط، محفل ثقافى مهم (معهد العالم العربي) فى العاصمة الفرنسية.. ايامها كان هذا النوع من الممارسات المشينة لعصابة الإخوان فى ذروته.
وبعد أن أنتهى من سرد الواقعة المحزنة التى كان هو شخصيا شاهدا عليها، أنتقلنا بسرعة للكلام عن برنامج عروض هذا المسرح الفرنسى العريق الذى تضمن (وقتها) عرضا لمسرحية «إلبكترا»للأديب والمسرحى «جان جيردو»، وأذكر أن حوارى مع هذا الشاب صغير السن (كان يدرس الأدب فى فرنسا) إلى ذكريات حكيتها له بمزيج من مشاعر الحنين والحسرة، عن قراءاتى الأولى عندما كنت فى مطلع صباى، ومنها معالجات مختلفة للأسطورة اليونانية الشهيرة التى تحكى مأساة الثلاثى المكون من الملك «أجاممنون» قائد الحملة الظافرة على طروادة، وابنته «إليكترا»، وابنه «أوريست».
لقد كان أول ماوقع فى يدى من هذه الأعمال ترجمة (أظنها مجهولة) لمسرحية «الذباب»للفيلسوف والأديب الفرنسى الأشهر جان بول سارتر، غير أننى تابعت بعد ذلك (ربما فى مطلع سنوات الجامعة) قراءة نصوص أخرى مقتبسة عن الأسطورة عينها أهمها ثلاثية «الأوريستية»ـ نسبة لأوريست أبن الملك ـ التى أبدعها كاتب اليونان القديمة الأعظم «أسخيلوس»فى ثلاثة أجزاء كل جزء حمل أسم واحدة من هذه الشخصيات.
لكنى مدين بفهم جوهر هذه الأسطورة العميق ومن ثم الوعى بالفروق بين معالجاتها المختلفة على يد كتاب ومبدعين كبار، لمقدمة ضافية وافية كتبها الناقد الكبير الراحل درينى خشبة فى مستهل ترجمة نص جان جيردو الذى حمل أسم «إليكترا»، وقد راجع النص (الذى نقله للعربية الدكتور محمد غلاب) أديبنا العظيم يحيى حقى، وكان هذا السفر القيم صدر فى ستينات القرن الماضى عن سلسلة «روائع المسرح العالمي»، تلك التى ثقفت وأمتعت جيل كامل بإبداعات خالدة منها ـ فى الموضوع نفسه ـ تحفة أبو المسرح الأمريكى المعاصر «يوجين أونيل»التى حملت أسم «الحداد يليق بأليكترا»..
أظن أن «الحداد» و«الحزن» على هذا الماضى القريب يليق بنا حقا، تماما كما يليق بالآنسة «أليكترا» التى عاشت أغلب سنوات عمرها تتجرع مع شعب مدينة «آرجوس» مرارة حزن مضاعف ويطن فى أذنيها، ليل نهار، صوت جيوش الذباب (كما كتب سارتر) وتعيش مأساة متعددة الأبعاد، إذ بينما الشعب يكابد قسوة حياة الذل والقهر تحت حكم الطاغية «ايجست»الذى جلس على سدة الحكم بعد مقتل الملك الأب»أجاممنون»، فهى تطوى ضلوعها على سر رهيب لأنها الوحيدة التى تعرف أن أباها الملك راح ضحية مؤامرة دنيئة نسجتها أمها «كليمنسترا»ونفذتها بيد عشيقها «إيجست» نفسه، بيد أن شقيقها الغائب «أوريست»يعود ذات يوم لينتقم لنفسه ولأخته ولشعب المدينة، ليس فقط من الطاغية قاتل والده ولكن أيضا من الخيانة مجسدة فى أمه.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة