ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

الحياة فى زمن «الكورونا»

ياسر رزق

السبت، 21 مارس 2020 - 07:36 م

شىء ما يعتمل فى صدور الكثيرين، مع اقتراب خطر غامض يهدد بحصد الأرواح دون تمييز، لعله الخشية من أن يكون الأجل بلا ثمن ولا مجرد وداع، بينما هم بخلوا به حينما كانت قطرة الدم غالية، والروح نفيسة والرحيل زفافاً فى جنازة مهيبة!
شيء ما يثير الهلع على أحباء، قد يخطفهم قدر مرسوم على وجه الخطر الذى يقترب، برغم حذر وتحوط وتحسب لمقدمات الخطر وأماراته.
شئ ما، يدفع أناسا لأول مرة، إلى التضرع لله أو الإله أو القوة القاهرة، والتطلع فى نفس الوقت إلى سلطان العلم، عسى الخالق يسبغ رحمته على قدره، وعسى العلم يكشف أستار الجهل عن الدواء.
لكن تاريخ الخليقة يقول: إن كل شيء يمضى ويزول ويتلاشي، ولو كان طوفان الأرض والسماء.
و«.. الله لطيف بعباده».
وهذا وعد الله فى قرآنه لكل البشر.
< < <
لن يبقى العالم كما كان..!
سيؤرخ لكل شئ، بما قبل وما بعد وباء فيروس كورونا.
يستوى فى ذلك تقلبات العلاقات الدولية، وتغيرات الأحداث الإقليمية، ونشوء وزوال المشكلات المحلية، بل الأمور الشخصية..!
ويبدو - دون تزيد- أن عام ٢٠٢٠ سيكون إحدى المحطات البارزة فى تاريخ البشرية المعاصرة.
برغم أن ما ظهر من تأثيرات الوباء ومن أحداث العام، هو ذروة جبل جليد عائم، تغطى المياه وتخفى منه ما تحت القمة..!
< < <
من الآن يجرى فى المعامل والمراكز وعلى المكاتب طبخ تصورات ومبادئ بل ونظريات، فى الطب وعلم الاجتماع وعلوم الاتصال والإعلام والعلاقات الدولية، وتوزيعها فى كل ناحية، من قبل أوان نضوجها، بل من قبل أن تتضح أبعاد الخطر وحجمه وسرعته، وموعد توقف القصور الذاتى لحركته..!
ولا يمكن عزل ذلك عن صراعات شركات الدواء للهيمنة على أسواق صحة البشر، وحروب القوى الكبرى الباردة ومعاركها عبر الوكلاء، للسيطرة على مراكز الطاقة ومنافذ التجارة..!
غير أنه فى خضم الجدال والتراشق بالأفكار عبر الدول والقارات، تطفو حقائق، لا يخفيها غبار التناطح فى ساحات الجدل، ولا ضبابات الجهل والترقب والخوف من المجهول..!
- ظهرت كل أدوات البشر من أشد أسلحة التدمير فتكا من صواريخ وأسلحة ليزر وقنابل ذرية وهيدروجينية عاجزة هى وكل عقاقير الطب ولقاحاته، عن مجابهة أصغر مخلوقات الله (أو كائنات الطبيعة)..
حتى التوقعات التى تأمل اكتشاف علاج لفيروس كورونا المستجد، تستبعد الوصول إليه قبل مضى ١٨ شهرا، أو عام واحد على أحسن تقدير، وهو موعد لا يستطيع الخبراء الجزم بحجم الضحايا الذين سيسقطون حتى ذلك التاريخ، ولا ما إذا كان الفيروس سيكون قد تحور إلى كيان آخر أشد فتكا ومقاومة لأى لقاح..!
- مثلما يؤرخ لعام ١٩٩١، بأنه العام الذى شهد انطلاق عصر السماوات المفتوحة، حين شاهد العالم على الهواء مباشرة وعبر قناة «سي.إن.إن» ولأول مرة فى التاريخ وقائع حرب تتم فى نفس لحظة المشاهدة وهى عملية عاصفة الصحراء، فإن عام ٢٠٢٠ هو عام سقوط وسائل التواصل الاجتماعى ودحض الدعاوى التى تحاول أن تسبغ عليها صفة أنها وسائل الإعلام الجديد، فلقد ثبت من أحداث الوباء أن الإعلام التقليدى من صحف وفضائيات ومواقع إخبارية، هو وحده الذى يمكن التعويل عليه فى استقاء الأنباء، وهو وحده الذى يمكن الاعتماد على مصداقيته وسط أجواء وأوقات لا تحتمل التهويل أو المبالغة أو إثارة الفزع دون أساس من معلومة صادقة.
وثبت أيضا أن وسائل التواصل الاجتماعى هى مجرد وسائط تسويق أو ترويج لأخبار أو معلومات مصدرها وسائل الإعلام المتعارف عليها، وأن استخدامها فى غير ذلك يكون من قبيل الدعاية والحرب النفسية، لاسيما من جانب الجماعات المناهضة للدولة الوطنية فى الشرق الأوسط بالذات، أو القوى المتصارعة على مصالح أو مراكز نفوذ فى مختلف أرجاء العالم، ولا ينفى استخدام بعض قادة الدول موقع التغريدات «تويتر»، كوسيلة لنشر الأخبار أو الآراء، حقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعى أحيانا تكون لوناً من ألوان الاحتجاج على تحيز بعض وسائل الإعلام التقليدى.
- بينما ظهر العالم كقرية كونية صغيرة بفعل وجود خطر واحد يهدد دول العالم دونما استثناء ويستهدف البشرية جمعاء دونما تفرقة، تبدو دول العالم نفسها بسبب هذا الوباء أكثر ميلا للانعزالية والتقوقع حول نفسها، وهو ما سوف يترك آثاره على عودة حواجز الحدود وعوائق التنقل إلى مناطق كانت تخلصت منها أو فى سبيلها لإزالتها، وبالأخص الاتحاد الأوروبى ومنطقة مجلس التعاون الخليجي.
- سوف تزداد حروب شركات الدواء الغربية والعابرة للدول ضراوة بفعل الرغبة فى حصد أكبر مكاسب لها من وراء جهود محاصرة الفيروس والبحث عن دواء له، والضحية الأكثر ظهورا هى دول العالم الثالث الفقيرة.
- مع تقلص أدوار المؤسسات الوطنية المختصة بمكافحة انتشار الفيروس، وتعاظم دور المؤسسات فوق القومية كمنظمة الصحة العالمية فى هذه الجهود، ربما تأخذ قوى كبرى كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبى زمام المبادأة فى إطلاق مبادرة دولية لوضع نظام رسمى للتحقق من الالتزام بمعاهدة منع تطوير وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجية التى صارت نافذة منذ عام ١٩٧٥ وبلغ عدد الموقعين عليها حتى الآن ١٧٧ دولة.
- فى قلب ستائر الدخان المتولدة من كارثة الوباء، وفى خضم انشغال العالم بأحداث الفيروس وأعداد الضحايا، ربما تقدم قوى كبرى وقوى إقليمية على تسجيل مكاسب لها على الصعيد الجيوسياسى فى نزاعات ناعمة كالتجارة والنفط وغيرهما أو نزاعات خشنة كالصراع الليبى أو الحرب فى اليمن وفى سوريا.
.....
وبرغم قصر مدة الإغلاقات والإرجاءات وأوقات الحظر بدءا من شركات الطيران ومواعيد الدراسة وحتى جداول المباريات والبطولات الرياضية فى مختلف دول ومناطق العالم، لاتبدو مرحلة فيروس كورونا شارفت على الانتهاء، بل الأقرب أننا مازلنا فى الساعات الأولى من صباح يوم طويل بنهاره وليله يصعب التنبؤ بحصاده المر..!
< < <
أما عن مصر.. فلسنا بمعزل عما يجرى من حولنا فى دول العالم، خاصة فى الشمال، حيث الوباء يعصف بمراكز أوروبا الرئيسية فى إيطاليا وإسبانيا، بجانب ألمانيا وفرنسا وهما القطبان الأعظم فى الكتلة الأوروبية الكبري.
وربما يرى البعض أن الخطر الذى تجابهه مصر مبالغ فيه على نحو هائل، ومنطق هؤلاء أن عدد المصابين بالفيروس فى مصر فى حدود ثلاثمائة وأن عدد المتوفين يقل عن عشرة أفراد، وهو رقم أقل بكثير عن أعداد ضحايا حادث تصادم بسيط بين قطارين فى أحد خطوط الدلتا أو الصعيد..!
على نحو ما هذا صحيح.
لكن الأصح أن خطر انتشار الفيروس فى مصر- وفى غيرها- كخطر اشتعال حريق فى برج حمام على حدود قرية، لو تهاونت فى حصار البرج، وتمكن الحمام من الفرار وهو يحترق، وهبط على أسطح منازل القرية، لأحرقها تماما بمن فيها من بشر وماشية وحقول..!
< < <
الملمح الأكثر وضوحا فيما يجرى من جهود على أرض مصر، هو أولا القيادة الرصينة الواعية للبلاد، التى حرصت على تشكيل هيئة إدارة أزمات وكوارث للتنبؤ بأمثال كارثة الفيروس ووضع سيناريوهات التعامل معها ومجابهتها فى مراحلها المختلفة، وكفاءة هذه القيادة فى إدارة ملفات متعددة ساخنة وملتهبة، كملف الوباء الذى صاحبته فى بدايته أحوال جوية سيئة غير مسبوقة، وملف سد النهضة الذى تحاول فيه قيادة غير واعية فى إثيوبيا فرض أمر واقع على مصر دون أن تدرك عواقب ذلك على بقائها وعلى حاضر ومستقبل شعبها، وملف التدخل التركى فى ليبيا، بجانب ملف حرب أسعار النفط الدولية التى تؤثر -خلافا لما يتصور البعض- على إقدام الشركات العالمية على البحث عن البترول واستخراجه، ومن ثم لجوء مصر إلى الاستيراد بمعدلات عالية بينما هى نجحت فى الحد من الاستيراد إلى نسبة ٢٥٪ من الاحتياجات.
الملمح الثانى هو الأداء العالى غير المسبوق للحكومة المصرية وأجهزتها برئاسة الدكتور مصطفى مدبولى الذى استطاع دون جلبة أو ضجيج أو طنطنة دعائية أن يدير أزمة سوء الأحوال الجوية وأن يضع خطة متكاملة لمجابهة تأثيرات انتشار وباء كورونا المستجد، سواء من ناحية الاستعدادات الطبية أو توفير السلع بالأسواق وضرب المغالاة، أو القرارات المتعاقبة فى مجال الحد من الكثافات بمواقع العمل والشارع المصرى وتأجيل الدراسة بالمدارس والجامعات، أو من ناحية اتخاذ الاجراءات المصرفية والاقتصادية الناتجة عن تأثيرات انتشار الفيروس، فى إطار حزمة متكاملة بالتعاون والتنسيق مع البنك المركزي.
الملمح الثالث هو اتساع نطاق التكافل لدى مكونات المجتمع المصري، سواء من جانب الشخصيات أو المنظمات الأهلية فى معاونة الأفراد والأسر الأشد تضررا من انتشار الفيروس، مثلما رأينا منذ أسبوعين خلال الأحوال الجوية السيئة، حينما اجتمعت جهود الشباب فى مناطق شتى بالقاهرة والمحافظات فى التخفيف من آثار السيول وانقطاع بعض الطرق.
الملمح الرابع هو كسر شرنقة العزلة التى أحاطت بكل فرد من أفراد الأسرة المصرية داخل البيت الواحد، وعادت الأسرة إلى الالتئام على الأقل فى وجبة العشاء تتبادل الأحاديث والآراء وتتحاور وتتفاهم حول مشاكلها وأحلامها، مثلما كانت فى سنوات ما قبل الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعى والإنترنت، وما قبل التباعد الوجدانى برغم التقارب المكاني.
< < <
نحن فى مصر مررنا على مدى القرنين الماضيين بوباء الكوليرا تسع مرات كان آخرها عام ١٩٤٧ وبلغ عدد الضحايا بالملايين، ومر بالعالم خلال القرون الأخيرة وباء الطاعون ووباء الكوليرا وغيرهما مرات عديدة، وحصدت تلك الأوبئة أرواح عشرات الملايين.
الفرق أن معرفة ما يدور فى أرجاء العالم ودوله كانت تستغرق شهورا وليس فى نفس اللحظة كما هو الآن، وأن حركة الانتقال كانت تستغرق أسابيع أو شهورا عبر السفن وليس ساعات معدودة عبر الطائرات، وأن قدرات النظافة وإمكانات التطهير ومجابهة الأوبئة والتقدم الطبى لا مقارنة لها الآن بما كانت عليه من تخلف وترد فى العصور السابقة.
بعون الله، سوف نتغلب على هذه المحنة ونأمل أن نستعيد من بعدها كبشر بعضا من ملامح إنسانيتنا المفقودة.
ونحن فى مصر قادرون بمشيئة المولى على أن نتخطى هذا الاختبار، ما دمنا معا شعبا وحكومة، يدا واحدة، فى مجابهة الخطر دون استهانة أو تقصير فى أداء الواجب.
.. وإن مع العسر يسرا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة