يسرى الجندى
يسرى الجندى


يوميات الأخبار

الواقعية من إبسن إلى نجيب محفوظ. 2-3

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 02 أبريل 2020 - 06:28 م

والمجتمع النرويجى فى فترة إبسن كان بعكس معظم دول أوروبا مازال يعانى بداية هذا التحول.

إبسن يفتح الطريق أمام الواقعية الحقة.
 مع التحول الصناعى للمجتمع وبداية تحول العلاقة بين الرجل والمرأة وانتقالها من التبعية الاقتصادية إلى المشاركة فى الكسب اتخذ مخاض ذلك مظهر ألم تعانيه المرأة فى عالم يسيطر عليه الرجل على نحو غير ملائم، وذلك تمهيداً لهذا الانتقال الذى لاحت بشائره مع المجتمع الصناعى، وتصوير هذا الألم وجد صدى فى المجال الروائى فى أعمال مثل:- (أنا كارنينا) و(مدام بوفارى) حيث كانت هذه الأعمال تصويرا موضوعيا للعلاقة بين الرجل والمرأة وارهاصا بالتحول كما أشار الكثيرون إلى ذلك.
والمجتمع النرويجى فى فترة إبسن كان بعكس معظم دول أوروبا مازال يعانى بداية هذا التحول، جاءت محاولة إبسن بعد هذه المحاولات السابقة. وعلى أساس من هذا نجد لقاء إبسن مع الواقع فى هذه الرقعة لقاءً حقيقياً وفى هذه الحدود تماماً وبوضوح..
إن تورفالد ونورا - فى بيت الدمية - زوجان يجمع بينهما علاقة هى امتداد لمجتمع ما قبل التحول الصناعى، المرأة تمثل جانباً من ملكية الرجل...
إن نورا هى بلبلته الصغيرة وأرنبته الصغيرة ومذرته الصغيرة وصغيرته دائماً، وشيئ هش بالغ الضعف يحتاج إلى حمايته فى كل وقت (أحميك هنا كما أحمى يمامة مصادة أنقذتها من مخالب صقر)..وضعفها هو دائماً الشيئ الطبيعى والذى يرضيه أن اضطرابها فى مواقف كثيرة لأجله هو هذا الضعف والحب له وانفعالاتها انفعالا شديدا ودائما تجاه انفعال أقل حدة دائماً منه هو نفس الشيئ وعندما ترقص حتى ترتعد أمامه فهو تأكيد لقوله لها حينها (أنت أيها الشيئ الصغير الذى لاحول له ولاقوة).
وبالإضافة إلى ذلك فهو يثار من احتمال أن يبدو أمام الناس متعلقاً بها خارج هذه الحدود ويرفض تدخلها فى عمله حين تريد التأثير عليه لأجل كروجشتاد بنفس الإحساس وتبلغ الأزمة ذروتها تبعاً لتمسكه بهذه العلاقة وتغلغل هذا الإحساس فى كيانه...
>>>
ولكن هل الإحساس بالتبعية لدى نورا على هذا النحو من التغلغل فى كيانها مثل زوجها، وكما تبدو مثلا الزوجة فى الحياة العائلية الڤيكتورية الممثلة بوضوح لهذه التبعية...
إن الأمر يختلف تماماً مع نورا أن داخلها توترا من البداية ندركه بالنسبة لهذه العلاقة وهو مايعنى تخلخل هذه العلاقة أيضا من الناحية الموضوعية، وكما نقول إن تمسك الزوج بهذه العلاقة وإحساسه البالغ بها هو سبب فى بلوغ الأزمة كما وصلت بنا المسرحية إليها، فإن موقف نورا هو من البداية مصدر الموقف كله..
إنها تدرك بوعى لايخلو من الألم أبداً أن سيطرتها على علاقتهما معا هى سيطرة مهددة، إنها تخبر لندا بسر القرض وكيف كان من الضرورى أن تخفى عن تورفالد ذلك لأنه (بما له من اعتداد بكرامته واعتزاز برجولته لابد أن يحس بتصدع مؤلم فى كبريائه، إذا تبين له أنه يدين بشيئ ما، وعندئذ تنهارالعلاقة التى تربط بيننا من أساسها وتنقلب حياتنا الزوجية السعيدة إلى شيئ آخر لايمت بصلة إلى هذا الحاضر المشرق) ولهذا ففى حديثها معه تلجأ لنوع من التحايل وتحاول فى خفوت أن تنسل برغباتها وراء إرادته وهى حين تخبر لندا انها ستستطيع إقناعه بأن يجد لها عملا، تقول: (اطمئني..اتركى لى الأمر.. سأطرق الموضوع بلباقة وأتودد إليه بما يسره).
إنها لاتنساق ولكنها تتحاشى بوعى الاصطدام بإرادته متشبثه بسلاحها الوحيد الهش، وبطريقة تبدو نفعية ومريرة. انها تخبر لندا عما تأمله فى المستقبل بخاطرتها بهذا القرض حين يأتى وقت تخبره فيه بالحقيقة (فى يوم من الأيام..بعد عدد من السنين عندما يذوى جماليـ لاتسخرى مني ـ أعنى عندما يفتر حبه لى، وأفقد بعض ما لى من تأثير عليه، فيضيع رنين الضحكات، ويتبدد سحر الثياب ويتلاشى وقع الكلمات عندئذ تظهر فائدة ادخار شيئ كهذا )..
وهى تحلم خلال أزمتها بمخرج بنفس سلاحها الهش
(ما أكثر المرات التى تعقدت فيها الظروف معي.. وعندما كنت أختلى بنفسى فى هذه الغرفة وأحلم بأن عجوزا فانياً تدله فى حبي.. ثم أدركه الموت.. ولما فتحت وصيته طالعوا فيها بخط واضح كالشمس كلمات الشيخ الراحل: (أترك لمدام نورا هيلمر التى سلبتنى بجمالها الأخاذ كل ممتلكاتى من بعدى على أن تدفع لها قيمتها بالنقد فوراً)..
ونلاحظ أن الحلم مرتبط بشخصية قائمة فى المسرحية تؤكد نفس الشيئ...
ومع إحساسها هذا نجد الإحساس الآخر الذى حدا بها إلى المخاطرة وهى أن تملك سلاحا غير سلاحها المتهدل الهش...
ونجدها تحزن عندما تحدثها لندا عن قلة خبرتها:-
نورا: قلة خبرتى انا ؟
لندا: (مبتسمة) عزيزتى، تدبير شئون البيت وماشابه ذلك من المعضلات لايعد شيئاً يذكر، إنك طفلة يانورا..
نورا: (تنتصب بهامتها وتذرع ارض الغرفة) لايحق لك أن تتخذى منى موقف العظمة..
لندا: حقا ؟؟
نورا: انت كالآخرين كلكم ترون اننى لا أقوى على مواجهة أى أمر جدى)...
وبحماسة شديدة تبدأ فى الحديث عن عملها لتسديد أقساط القرض فتقول (كنت أجد لذة كبرى فى العمل والكسب وكأننى لا أختلف عن الرجال وبنفس الحماسة تتحدث كثيراً عن إنقاذها لحياة تورفالد...السر الذى استمد منه إحساسى بالفخر والرضى)...
إذن وعلى هذا النحو ندرك صورة طبيعية لحركة التغيير فى المجتمع.. وندرك أن الأمر ليس كشفاً جديدا لنورا...
إن تمرد نورا هو أمر كامن منذ البداية وذو صبغة اجتماعية محددة، وهى تعيش منذ البداية حالة التحول، واختلال العلاقة فى طريق هذا التحول وذلك بعكس تورفالد، فهو فقط من يكتشف بشكل حاد ومتأخر هذا الاختلال وعلى هذا فتجاوز هذا الخلل فى مقومات هذه العلاقة المحددة اجتماعياً انما يتم على نفس المستوى الاجتماعى، ويكون امتدادا لنفس التوتر الذى تعيشه نورا منذ البداية انها لم تكتشف زوجها ابدا فى النهاية لتكتشف بالتالى أنها كانت دمية وأنها يجب أن تتخلص من نورا السابقة كما تتخلص من الماضى كله ومن كل المقدسات لتكتشف كل شيئ من جديد...
إن إبسن يحاول أن يجعلها كذلك قسرا ليصل من ذلك إلى مواجهة تراچيدية بالمعنى الذى نحدده والأمر الغريب أن ابسن فى الوقت الذى يفرض فيها هذه المواجهة فرضا مختلفا فهو فى نفس الوقت يطرح علينا وتلقائياً ـ التحول الحقيقى الوحيد والممكن فى هذا الاطار...
>>>
يطرح علينا من البداية ـ الامتداد الحقيقى للأزمة على المستوى الاجتماعى فى نفس المسرحية..ذلك يتمثل فى لندا صديقة نورا ـ لندا المرأة العاملة وموقفها فى المسرحية....
إن لندا كما ندرك بوضوح كامل هى من استطاعت ان تقف موقفا إيجابيا من الأزمة أولا ثم من المجتمع وتحدد لنا العلاقة الجديدة بين الرجل والمرأة حيث تنتفى التبعية..
فكما أن التغيير على المستوى الاجتماعى فى (أعمدة المجتمع) هو الإمكانية الوحيدة للتجاوز، ومن معطيات المسرحية نفسها ممثلة فى الطبقة العاملة وموقف (أون) وهو ما لم يتح له امتدادا تبعا للتجاوز المفروض، فإن لندا هى امتداد اتخذ مجراه بوضوح أكثر إلى جانب التجاوز الزائف كما تمثله نورا...
>>>
نسمع حواراً بين لندا وكروجشتاد..كلاهما سند للآخر دونما تبعية، ولندا تطلب منه بوضوح ان يتزوجا لصالحهما، ولندا هى من تبدأ بإخباره (أن قوة اثنين فى مهب الانواء أجدى من قوة كل بمفرده )..
وموقف لندا يضىء بطبيعة العلاقة بين نورا وتورفالد وبموقفها تدفع بعيدا والى حد ما تواطؤ عالم الرجال ضد صديقتها وبموقفها أيضا يتكشف الادعاء فى موقف نورا الأخير، الذى لا ينبع من توترها ووعيها السابق له طوال المسرحية هذا الادعاء الذى يلقى به إبسن من الخارج على وعيها الذى لايمكن انتزاعه بعيداً عن التحام سبق...
>>>
إن برنك يلتحم بحركة الواقع ولايملك تجاوزها، وبالتالى لا يمثل تجربة داخلية متفاعلة تفاعلاً حقيقياً مع هذا الواقع، حتى يتيسر لنا رؤية إبسن كما افترضها فى هذا العمل وكل أعماله - تجاوز لماض نحو تحرر الإرادة والوعى، برنك حركة فى الخارج، سيطرة كاملة للضرورة على فاعلية الإنسان، أنه يشارك فى حركة الواقع حسب تطورها ويمثل مرحلة قائمة وامتداد هذه الحركة لا يملك هو أن يصل إليه متخطيا موقفه الاجتماعى، هناك الشخصيات الضائعة اجتماعيا والتى يمكن أن نلمس منها فاعلية ما، وهناك بوجه خاص العامل (أون) الممثل الحقيقى لامتداد حركة الواقع هذه، وعلى نفس المستوى الاجتماعى الذي لا يصل إلى التحررالداخلى الحقيقى الذى منحه إبسن لبرنك، على هذا فنورا وجه آخر لبرنك..ملتحمة بالواقع ومرحلة فيه، ولا يمكن أن يؤدى بها هذا التلاحم تجاوزه تماماً، لتصل إلى تلك الحرية وتشرف بنا على تفتح داخلى مكتمل متحرر من ربقة أى ضرورة، إنها كما أشرنا تعيش توترها فى اتصال مباشر بنفس العناصر التى خلقت أزمتها ولا يحيل ذلك إلى أبعد من هذا التوتر المحدد كما نلمسه والذى تعيه إلى حدٍ كبير، ولهذا فهى مثل برنك.. أزمة مغلقة تمثل مرحلة ما، وما بعدها هو المرأة الجديدة.. لندا..
- إذن فنورا أيضاً مجرد واقع، ليست تمثل ماضياً ومعاناة وتجاوزا فهذا ماتفترضه النهاية التى توسل إبسن بصنعه سكريب لكى يحققها...
وإن كان ذلك بدرجة أقل من (أعمدة المجتمع) وذلك لأن تناقضه بإبراز شخصية لندا إبرازاً واضحاً جعل العمل أقرب إلى الصدق من (أعمدة المجتمع) - ولكنا على أية حال حيال محاولة لتجسيد معاناة من الخارج، يتحقق معها رفض الماضى ومواجهة جديدة مفتوحة، محاولة لا تجد معها وبشكل مؤكد تجربة داخلية فى اكتمال حقيقى أو معاناة حقيقية من إبسن نفسه لهذا المضمون التراچيدى..
«للحديث بقية»

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة