رفعت رشاد
رفعت رشاد


أيام حظر التجول

رفعت رشاد

الأربعاء، 08 أبريل 2020 - 07:14 م

 

بعدما فرض حظر التجول بسبب المظاهرات عرض التليفزيون لأول مرة مسرحية «مدرسة المشاغبين» التى كانت نقطة تحول فى حياتنا كطلبة.

عرفت حظر التجول لأول مرة فى بداية سبعينيات القرن الماضى عندما قتل عمدة قريتنا حاجر أبوليلة القابعة فى حضن الجيل الشرقى بسوهاج. أصابت الفاجعة أهل البلد والبلاد المجاورة. كنت فى المرحلة الدراسية الإعدادية أذهب إلى مدرستى فى قرية الجلاوية المجاورة التى تبعد بضعة كيلومترات. بعد مقتل العمدة جعفر فرضت قوات الأمن حظرا للتجول فى القرية وشددت الحظر فى المنطقة بين عائلة العمدة وعائلة من قتلوه. كانوا يسمحون لنا بالمرور للذهاب إلى المدرسة وخلال مسيرتنا كنا نشاهد قوات الأمن فى معسكرها وكمائنها وكان لهم قائد طويل مهيب مازلت أذكر اسمه - عرابى - كان نموذجا عسكريا مهابا الكل يعمل حسابه وكان الجنود يصطفون فى وجوده اصطفافا عسكريا مثاليا. كان حظر التجول فى قريتنا الأول الذى خبرته ولكنه لم يكن موسعا أو شاملا لمناطق واسعة لكنه أعطانى فكرة كيف للسلطات أن تحد من حركة السكان لسبب أمنى أو صحى.

انتفاضة الجياع
فى يناير 1977 كنت فى طريقى إلى المدرسة الثانوية فى شبرا وكانت بجوار سينما دوللى المشهورة. الترام كان غالبا وسيلتى للذهاب. فى ذاك اليوم لم أجد تراما أو أتوبيسا أو أى وسيلة مواصلات وكان شارع شبرا يحترق. المحلات دمرت والشوارع امتلأت بالطوب وحطام الزجاج والحرائق هنا وهناك. لم أدرك ما حدث، أكملت طريقى إلى المدرسة وخلال سيرى سمعت عبارات متقطعة عن زيادة أسعار الخبز والسلع الغذائية وأن الحكومة فاجأت الناس بزيادة الأسعار فخرج المواطنون إلى الشوارع يحتجون وقام البعض بتحطيم واجهات المحلات ووسائل المواصلات. اللافت أن الناس خرجت فى نفس التوقيت وهو ما يعنى أنها حركة منظمة لكنها وجدت قبولا من الرأى العام. وصف السادات مظاهرات وانتفاضة يناير بانتفاضة الحرامية، كان للسادات طريقته فى معالجة الأمور أو الرد بأفعال على أفعال، لكنه استجاب لانتفاضة «الحرامية» وألغى زيادة الأسعار بعدما ارتفعت أصوات الناس فى المظاهرات «سيد بيه.. يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه».. سيد بيه هو سيد مرعى رئيس مجلس الشعب وقتذاك وصهر السادات وكان من كبار الملاك. انتفض الناس لأن كيلو اللحمة بقى بجنيه فى الوقت الذى يباع فى المجمعات الاستهلاكية ب 68 قرشا، وكانت الشرطة ومباحث التموين ونيابة أمن الدولة تسجن من يتجاوز الأسعار المحددة من الحكومة - ولو تذكرنا فيلم «على باب الوزير» لعادل إمام لوجدنا أن الجزار - صلاح نظمى - كانت جريمته الوحيدة بيع اللحوم بأسعار أكبر من التسعيرة كما أنها مذبوحة خارج السلخانة الحكومية».

اجتمع وقتها مجلس الوزراء وثارت مناقشات حامية وأبدى بعض الوزراء دهشتهم من تلك الثورة بسبب زيادة سعر رغيف الفينو - تعريفة. أى خمسة مليمات -، وعلا صوت الدكتورة عائشة راتب وهى تنتقد هؤلاء الوزراء والتفتت لتجد وزيرا يدخن سيجارا، فقالت: الشعب له حق الثورة بينما الوزير يدخن سيجارا ثمنه - جنيهان -. نتحدث عن ظروف وأجواء السبعينيات حيث يزيد ثمن رغيف الفينو تعريفة ويدخن وزير الخارجية سيجارا ثمنه جنيهان !! أذكر أنه بعدما فرض حظر التجول بسبب المظاهرات عرض التليفزيون لأول مرة مسرحية «مدرسة المشاغبين» التى كانت نقطة تحول فى حياتنا كطلبة وبالنسبة لأبطالها انفتحت أمامهم أبواب الشهرة والنجومية.


ثورة الأمن المركزى
فى عام 1986 كان وزير الداخلية أحمد رشدى أسدا هصورا أدار منظومة الشرطة بدرجة تخطت الطموحات فطغت السعادة على مشاعر المواطنين وشعروا أن سندا قويا يدافع عن حقوقهم ويجلب لهم الراحة والأمان. انضبطت الشوارع كما الساعات السويسرية ووجدنا المعاملة فى أقسام الشرطة كما لم تكن من قبل، لكن فجأة خرج جنود الأمن المركزى من معسكراتهم فى أطراف الجيزة ليحطموا كل ما قابلهم فى شارع الهرم الذى كان مازال يعتبر شارع الكباريهات والراقصات. حطم الجنود واجهات الكباريهات بالذات وكانوا ينتقمون من سوء معاملتهم فى المعسكرات ومن فقرهم، ومما قاله أحدهم لزميله «كسر.. كسر.. الواحد من دول بيكسب 20 جنيه فى اليوم».. لم يصل خياله إلى أكثر من 20 جنيها فى اليوم يربحها الثرى فى نظر جندى الأمن المركزى. كنت فى ذاك الوقت محررا فى جريدة الأخبار وكان رئيس التحرير الصحفى الكبير سعيد سنبل - رحمه الله - فنظم المحررين كتائب وفرقا وانتشرنا فى الشوارع مع الزملاء المصورين وتم فرض حظر التجول ونزل الجيش ليتولى الأمر تحت قيادة المشير أبوغزالة - رحمه الله -. بعد السيطرة على الأوضاع تم إقالة أحمد رشدى النسخة غير المتكررة من وزراء الداخلية، رجل انحاز للمواطن وأحبه المواطن وقيل إن خروج جنود الأمن لم يكن عشوائيا أو بمحض الصدفة، لكن النتيجة أن وزيرا للداخلية أحبه الشعب لم يعد موجودا.


حظر يناير 2011
كان حظر التجول فى أحداث يناير 2011 مخيفا لأننا لم نكن نعلم إلى أى مصير نذهب، أوضاع المظاهرات واقتحام أقسام الشرطة والسجون أمر لم نخبره من قبل، تخطيط جهنمى مستحدث ومستورد يثير الرعب. عنف غير مسبوق. قتل بلا سبب، لمجرد الاشتباه بأنك لست معهم. تجربة دهست مصر، خليط من المؤامرة داخليا وخارجيا والانتفاضة والتخطيط المسبق،لكن الشعب لم يكن يعرف أين سترسو مراكب الوطن، لذلك كان القلق،بل الخوف، كثيرون قرروا السفر أو الهجرة، كثيرون اختفوا فى أماكن لا يعرفها أحد، المسرح كان مرعبا ولم يكن أحد يعلم لأى مصير يتم تجهيزه، حتى أنقذنا الجيش واستقرت الأوضاع وبدأنا نعيش حياة طبيعية.


كورونا
حظر كورونا يختلف عن أى حظر سابق. حظر كورونا إرادى أكثر منه إجباريا، الحكومة تسعى لضبط إيقاع الحياة لأن المواطنين ليسوا سواء فى تحملهم المسئولية، السلطات تحمى الجميع والحكومة تدير الأزمة بشكل منهجى يثير التقدير. يلفت الانتباه هدوء الأعصاب الذى يتعامل به رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومؤسسات الدولة، أداء وزيرة الصحة لافت إيجابيا وهى تدير الأزمة باحترافية. أثبتت أن من يجيد الإدارة يمكنه أن يدير أى مؤسسة أو مرفق. حظر كورونا يثير الخوف، ليس من المستقبل إنما من الخطر الداهم الذى ينتشر فى الهواء. المصريون فى أزماتهم يرفعون أيديهم بالتضرع إلى الله لإنقاذهم لذلك يمتلئ فيس بوك بكل أنواع الدعاء ويدخل رواد الفيس فى مناقشات وجدال حول أمور ترتبط بكورونا وبأفضل السبل لمواجهتها، يشعر الجميع أنهم فى مركب واحد يؤنسون بعضهم بعضا. من اللافت وجود كمية من الفكاهة متنوعة تشمل النكات والرسوم المضحكة والإفيهات بشكل يجعلنا ننسى كورونا أحيانا مستمتعين بالبسمة والضحكة ونتبادلها عبر وسائل التواصل الاجتماعى.
توقيت تطبيق الحظر يذكرنا بساعة ما قبل موعد الإطار فى شهر رمضان حيث يسارع المواطنون فى سياراتهم أو وسائل التوصيل الجماعى ليلحقوا بموعد الإفطار، لكن الصورة تختلف تماما بين ما بعد موعد إفطار رمضان وبين ما بعد موعد تطبيق الحظر، فى رمضان تنبض الشوارع والمحلات بعد الإفطار بالحياة والبهجة ويسهر المواطنون فى كل مكان حتى السحور الذى يتناولونه فى أماكن صارت من تقاليد الشهر الكريم.
أما فى ساعات ما بعد الحظر فلا توجد حياة،الجميع فى البيوت يقضون حياتهم فى روتين، ربما يشاهدون التليفزيون أو يتبادلون الدردشة أو يتشاحن الوالدان معا أو مع الأبناء، أو يتقاربون ويتعارفون بشكل أعمق وتنتشر النكات حول احتجاز العائلات فى البيوت، فتقول إحداها: واحد صاحبنا من كتر قعدته مع مراته فى البيت حبها وعرض عليها الزواج!! وأخرى يقول فيها الزوج: بقالى كام يوم قاعد مع المدام والأولاد ولقيتهم ناس طيبين وإن شاء الله معرفة خير !!
ليس أخف من دم المصريين الذين يتجاوزون المحن بالفكاهة والضحك، لكن الشوارع يغلفها الشعور بالكآبة نتيجة الإحساس بقرب الخطر، الكل حذر، ربما فى المناطق الريفية ينطلق الناس بدون وعى ينتهكون الحظر غير مقدرين حجم الخطر الذى يمكن أن يحصد ملايين البشر. اللافت أننى لم أشعر بنقص فى السلع أو الحاجات المطلوبة للمعيشة، المحلات تمتلئ بكل ما نريد وهو ما يحسب للرئيس والحكومة والمؤكد أن أجهزة الدولة وعلى رأسها تدير الأزمة بشكل يطمئننا، ولو التزم المواطنون بالتعليمات لخرجنا من المحنة بشكل أسرع وبخسائر أقل.


الحظر والصحافة
ثبت أثناء الحظر أن وسائل الاتصال الإلكترونى حالت دون شعور الناس بالعزلة، الكل يتبادل الأحاديث التليفونية، الجميع يدردش فى وسائل التواصل الاجتماعى، قنوات التليفزيون تملأ الوقت بالأفلام والمسلسلات، الانترنت يتيح لنا فرصة الإبحار فى عالم المعرفة وعالم الترفيه بشكل لا محدود. وقد لاحظت أن زملاء فى عدد كبير من جروبات الصحفيين وغير الصحفيين ينشرون نسخا من صحف عديدة عربية ودولية بنظام «بى دى إف» بما يجعل القارئ فى غنى عن شراء الصحف إلا لو كان شراؤها متاحا بسهولة أو لو له هدف من شرائها، هذا الأمر يجعلنا كصحفيين ندرك مدى المخاطر التى تحيط بمهنتنا وصناعتنا. علينا أن ندرس ما حدث أثناء أزمة كورونا والحظر لتقييم موقف الصحافة المطبوعة فى المستقبل وفى أى مكان أو موقع ستكون.

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة