د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

الخطاب الدينى بعيدا عن المصطلحات «٣»

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 09 أبريل 2020 - 07:05 م

سنة هذا الدين أنك إن لم تستطع أن تقول كلمة طيبة فلتسكت عن مقابلها الكلمة السيئة.

تزكية النفوس
السبت:
كيف تكون تزكية النفوس من مقاصد البعثة النبوية، ولا تنال حظها من الخطاب الدينى الذى لا خلاف فيه، والدليل على أن تزكية النفوس من مقاصد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: «هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة» وقد تكرر تقديم التزكية على التعليم فى آيات الكتاب العزيز، ومعنى تزكية النفوس يتجسد فى سلوك المسلم الحضارى حيث إن مقتضاه، ومعالمه أن تغض من صوتك، وأن تلقى الناس بوجه طلق، وألا تجزع إذا أصابك من المكروه ما كان فى وسعك أن تتحمله أو حتى يكون أشد من أن يتسع له صدرك، وأن تكون نظيف البدن، طيب الرائحة، وألا تشمت فى أحد، أى لا تفرح فى مصائب الناس، وأن تتعاون معهم على البر والتقوى، وأن تبشر فلا تنفر، وأن تتيسر فلا تعسر، وألا ترفع سلاحا فى وجه أحد، وألا تروعه جادا، ولا مازحا، كان زيد بن ثابت رضى الله عنه غلاما يوم الخندق، وجاء ليشارك آباءه وأعمامه فى حفر الخندق، وتعب كما تعبوا من بذل جهده فى حفر الأرض، فاستلقى نائما، وكان فى جنبه خنجر، يزينه كما يزين الأبطال وجود سلاح معهم، والوقت وقت قتال، فسحب رجل خنجر زيد وهو نائم، وأخفاه، فلما هب من نومه فزع لما لم يجده، وأخذ يقول : أين خنجرى ؟ من أخذ خنجرى؟ والرجل الذى أخذه ينظر إليه ويضحك، حتى قال النبى صلى الله عليه وسلم: من أخذ سلاح الفتى؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله أمازحه، فقال له: أعطه سلاحه، فأعطاه إياه، فلما اطمأن زيد قال عليه الصلاة والسلام: لا يروع أحدكم أخاه مازحا ولا جادا،وما أكثر الذين يصنعون صنيع هذا الرجل اليوم، يخفى جهازه المحمول، أو حافظة نقوده على حين غفلة منه، ثم ينبهه إليها قائلا له: أين فونك؟ أو أين حافظة نقودك؟ حتى يراه فزعا، هربت كل قطرة من دمه، وقد يجرى هنا وهناك، وقد يتهم أحدا بسلب مفقوده، وهو منه براء، ثم بعد ذلك يقول له : خذ خذ ما تعيطشى، أتريك خرع، أنا أضاحكك، أو أنا أمزح معك، هذا فى فكر الدين ترويع، كالذين تراهم يسب بعضهم بعضا  ويشتم بعضهم بعضا فإذا ظهرت بوادر الغضب على المشتوم والمسبوب قال له من شتمه وسبه : انت زعلت، يا راجل أنا كنت باهزر معاك، سلوكيات سيئة تحت باب المزاح الذى هو على غير تزكية النفوس، فمن كان ذا نفس مزكاة طاهرة لا يتخذ من السباب واللعان، والترويع، وما يطلق عليه (فصل) أو (مهموز) مادة لمزاحه.
والمزاح بهذه الطريقة دليل غباء؛ لأنا نحفظ أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمزح، ولا يقول إلا حقا، والجمع بين المزاح والحق عبقرية تحتاج إلى دراسة، ومن أمثلة مزاح النبى الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال لامرأة عجوز: لن يدخل الجنة عجوز، وقبل أن تفزع خوفا على مستقبلها فى الآخرة قال لها: سيعيدك الله شبابا، فاستحال فزعها الذى لم يزل بالباب أمنا وسكينة وسعادة وسرورا، فانظر كيف تصوغ من الحق والجد طرفة لمزاحك، الذى تسعد به غيرك دون أن تروعه أو تفزعه أو تنال من عرضه وكرامته تحت باب المزاح المدعى، فإن لم تكن مؤهلا لذلك فأعرض عنه، حتى تزكى نفسك، أى تنأى بها عن مواطن الفحش والسوء، ولعلك تتصور حال أمة أو جماعة من الناس قد تحلت بنفوس زكية مبعثها دين يأمر بذلك، ويدعو إليه، ومن آيات تزكية النفوس أن تنفس الكرب عن المكروب بغية أن ينفس الله عز وجل عنك كربة من كربات يوم القيامة، كما جاء فى الهدى النبوى الرشيد، لا أن ترى المكروب فتزيد من كربه، وتصور له الأهوال التى تنتظره من جراء هذا الكرب الذى قد تكون عاجزا عن تنفيسه فليس أقل من أن تفتح له باب الأمل، وتذكره بقدرة الله الذى كان على كل شيء مقتدرا، وأنه ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، لأن سنة هذا الدين أنك إن لم تستطع أن تقول كلمة طيبة فلتسكت عن مقابلها الكلمة السيئة؛ لقول النبى صلى الله عليه وسلم - ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت، وقد تناولت الكثير من معالم تلك التزكية فى كتابى الذى نشرته من عشرة أعوام تحت عنوان (تزكية النفوس من مقاصد البعثة النبوية).
مراعاة مشاعر الناس
الأحد:
ومن معالم تزكية النفوس ما رأيناه فى هذا المشهد العظيم الذى جسده النبى صلى الله عليه وسلم أيما تجسيد، حيث كان صلى الله عليه وسلم مضطجعا، وجزء من ساقه مكشوف، على طبيعة الناس فى مثل هذه الهيئة، ودخل عليه الصديق رضى الله عنه، ومن بعده الفاروق عمر رضى الله عنه، ولم يغير صلى الله عليه وسلم من هيئته ووضعه، فلما دخل عثمان رضى الله عنه غطى صلى الله عليه وسلم ساقه؛ وذلك لأن عثمان بن عفان رضى الله عنه كان معروفا بالحياء الشديد؛ فراعى صلى الله عليه وسلم شعوره، ومراعاة مشاعر الناس من تزكية النفوس، فجرح الأبدان سهل أن يندمل، ولكن جرح المشاعر أعتى وأشد، وقد رأيت أننا نتسابق أحيانا فى جرح مشاعر الناس، بل إننا نشجع من اتسم بالحياء على التخلى عن هذا الخلق، ونجرؤه على أن يكون مثلنا، ونظن أنا بذلك ننصح له بخير، وحين نجد رجلا كعثمان رضى الله عنه نقول له: مالك؟ لم تتشبه بالنساء، كن رجلا، وكأن الرجولة تكون بنزع الحياء، والجرأة، ومشاهدة ما يجد فى نفسه حرجا من مشاهدته، وفعل ما لا يتعود فعله حياء منه، والحمد لله على كل حال، لم يعد تشبيه مثله بالنساء صالحا فى عالم البلاغة الجرجانية، لأن المرأة قد تجرأت، فلم تعد مثالا للحياء الذى يطلق عليه فى اللغة العربية (الخفر).
وقد مر النبى صلى الله عليه وسلم برجل من الأنصار يحاول مع أخ له تلك المحاولة المعهودة فى زماننا، ينصح له بأن يتخلى عن حيائه، فلم يمر صلى الله عليه وسلم بهما تاركا الرجل ينصح أخاه بالتخلى عن حيائه، بل توقف، وقال للناصح: دعه؛ فإن الحياء من شعب الإيمان، وكم وجدنا من أناس ألفوا فى حياتهم آخرين يكبرونهم، ويجلونهم، فاجتهدوا فى تجرئتهم عليهم حتى صاروا يشتمونهم، ويصغرونهم، ولا يعرفون قدرهم الذى من الله تعالى به عليهم يحسبون أنهم بذلك قد صاروا منهم، وكأن المرء لا يصبح منا، أو كما نقول: ما يبقاش منا وعلينا إلا إذا جرؤ علينا بنابية الكلمات، وتبسط معنا، ولعننا ولعن آباءنا وأمهاتنا، إن لم يفعل ذلك كان غريبا أو بمثابة الغريب، فالغريب عندنا هو من يحترمنا، ويعرف لنا قدرنا، ويوقرنا، أما القريب أو الذى نقول إنه منا هو من يهيننا، ويأخذ راحته فى معاملتنا دون تحفظ أو دون كنترول، فإن حضر مشهد التجريح غريب؛ فبهت لما يرى ويسمع ضحك المهان، وقال له: لا لا؛ إنه منا وعلينا، أى هذا من شأن من كان منا، والحق الذى عليه هدى الدين وخطابه أن الذى منا هو أولى الناس باحترامنا ومثالية التعامل معنا، لقول الله عز وجل:
«وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله» وليست الأولوية فقط فى الجانب المادى، بمعنى أن القريب أولى بسد حاج قريبه، ومراعاته، وتقديم العون المادى له، لأن فى ذلك ثوابين كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : صدقة وصلة، وإنما تمتد الأولوية إلى الجانب المعنوى، بمعنى أن قريبك أولى الناس بمعرفة قدرك، واحترامك، كنتما على مشهد من الناس، أو خلا بعضكما إلى بعض؛ لأن من المألوف الممقوت أيضا أن تسمع قول قريب لقريب له يعامله بما ظاهره الإهانة فيعاتبه قائلا: ليس هذا أمام الناس، أى لا تعاملنى تلك المعاملة السيئة أمام الناس، لكن عاملنى بما تهوى، وقل لى ما تشاء إذا خلونا، وكأن خلو بعضنا إلى بعض مسوغ للتجريح والتهزيء، وهذا انحراف فى السلوك، ويكفى دليلا على انحرافه أننا مأمورون بتقوى الله فى السر والعلن، والتقوى اسم جامع لكل معانى الخير والبر، فلسنا مرائين نعمل الخير أمام الناس، ونعمل الفحش إذا خلونا، ألا يدل ذلك على مراعاة بعضنا قدر بعض أمام الناس، وأيضا إذا خلونا!
من أجل هذا تقطعت الأرحام
الاثنين:
ومن أجل مثل هذا السلوك الذى كدنا نتخذه منهجا مألوفا تقطعت بنا الأرحام التى خاطبها الله عز وجل يوم خلقها بقوله : من وصلك لأصلنه، ومن قطعك لأقطعنه، وقد رثى النبى صلى الله عليه وسلم عمه يوم مات بقوله : وصلت رحمك يا عمى. عبارة تأخذ بالقلوب، وتهتز لها الضلوع، وتشنف من أجلها الآذان، فتشجى فى وحيها النفوس، ويذرف على رنينها الدمع الذى تتقاطر معه نفحات الصلة من المودة والعطاء فإذا بالأفق صفحة صافية بما كان مستلهمة الأمل ممن يكون بعده من الرحم، وقد ورد فى الصحيح أن لصلة الرحم نفحتين قويتين بلا جدال، البركة فى العمر، والبركة فى الرزق، ويكفى فى عقاب القاطع قول النبى صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة قاطع، وسبب تقطع الأرحام بيننا هو غياب هذا الخطاب الدينى الرشيد الذى يقول للرحم أنت أولى الناس باحترام رحمك، والالتزام بواجب زيارته المسمى آداب الزيارة بأن تستأذن وتسلم قبل دخولك عليه بيته، وأن تجلس فى المكان الذى يجلسك فيه، وأن تعرف أن لبيته حرمة لا تنتهك بسبب القرابة، وأن تبارك له ما فيه من خير، وترجو له المزيد منه، وقد انتهك الأرحام بعضهم بيوت بعض، فهم يدخلونها بلا استئذان، ويعيثون فيها، ويقتحمون على النائم والنائمة غرفة نومهما، وأن يفتحوا كل مغلق، ويسألوا فى كل شيء، وعن اى شيء،ويحسد بعضهم بعضا، ويحقد بعضهم على بعض، ويفشى بعضهم أسرار بعض، ويهين بعضهم بعضا، فإن بدت تباشير الغضب فى أحدهم قال له من مسح بكرامته الأرض: مالك! هل غضبت ؟ أنا لست غريبا عنك، إنما أنا أخوك أو ابن عمك أو ابن خالتك، أى أن ذلك السوء والفحش والعبث ببيتك وولدك - من حقى لأنى رحمك، وهذا لم يقل به دين ولا طبع أصيل،فالله عز وجل حين قال فى سورة النور: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها» لم يستثن من ذلك الأقارب والأرحام والأصدقاء، لقد وجدنا النبى صلى الله عليه وسلم يراعى وقت الزيارة الذى يزور فيه أصفى أصحابه، وأول المؤمنين به أبا بكر رضى الله عنه، فلما زاره يوما وقت القيلولة، أى وقت الظهيرة الذى ينام فيه الناس ويستريحون، قال الصديق رضى الله عنه: ما جاء به هذه الساعة إلا امر جلل، أى شيء خطير وراء تلك الزيارة فى هذا الوقت، وقد صدق حيث جاءه صلى الله عليه وسلم يكلمه فى شأن الهجرة.
فماذ نقول فى هؤلاء الذين يقتحمون بيوتنا فى أى قوت لأنهم أرحام!

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة