محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

مصنع الرجال

محمد السيد

الخميس، 16 أبريل 2020 - 06:11 م

هذا العام يمر مائتا عام على إنشاء الكلية الحربية، التى أنشأها محمد على باشا عام 1820. ولذا سأحكى حكاية هذه المؤسسة العريقة، التى أراها مصنعاً للرجال، ومكاناً لتخريج قادة مصر وعظمائها.

البداية
نظر الجنرال مينو، آخر حكام الحملة الفرنسية لمصر، إلى البحر وهو يغادر شاطئ اسكندرية فى طريقه إلى فرنسا، وفى عينيه أسي عميق، ثم التفت لزوجته المصرية الجميلة زبيدة، وقال لها: إنه يشفق على من سيتولى حكم هذا البلد. وحين سألته عن السبب أجابها بأن البلد ليس فيه قوة تحفظ الأمن والاستقرار. وأن المماليك الذين يجب أن يحفظوا الأمن هم أساس الفوضى، فإذا تأخرت رواتبهم خرجوا للطرقات، ونهبوا الدكاكين، وأصابوا الناس الآمنين بالفزع، أما الحامية التركية فهى أضعف من أن تحافظ على النظام وتعطى الناس الإحساس بالأمان.
كان كلامه يقطر حزناً، أما زبيدة فتذكرت أهلها الذين ستفارقهم، ودمعت عيناها، وقالت: اللهم احفظ مصر من كل شر.
فى الوقت ذاته كان شاب آخر، لايزيد عمره عن اثنين وثلاثين عاماً، يفكر فى الطريقة التى يمكن أن توصله لحكم مصر. كان يرى أن حكم مصر هو طريقه لتكوين إمبراطورية مترامية الأطراف، تدين له ذات يوم. هذا الشاب اسمه: محمد علي، رجل من بلد صغير فى ألبانيا تسمى كفالا، أو قَوَلَه حسب النطق العربي. جاء محمد على إلى مصر ضمن الجيش التركى لإخراج الفرنسيين منها. وبعد وصوله إليها اهتم بدراسة أوضاعها، وعرف أن الأوضاع ليست سهلة، لكنه كان قادراً على أن يحلم، مصمماً على السعى لتحقيق حلمه.
بعد خمسة أعوام كان محمد على والياً على مصر. ومنذ الدقيقة الأولى أدرك أنه لابد أن يكوّن جيشاً قوياً، حتى لايطيح به السلطان العثمانى ذات يوم من حكم مصر، وحتى يتمكن من تكوين الإمبراطورية التى يحلم بها. وسأل نفسه: ما السبيل لإقامة هذا الجيش القوى؟
التجارب
بعد ستة أعوام من هذا السؤال، وبالتحديد عام 1811، كان إبراهيم باشا بن محمد على يسير مشدود القامة نحو والده الجالس على عرش مصر، ليعرف السبب الذى استدعاه من أجله. انحني. قال بأدب جم:
- تأمرنى ياولى النعم. بلغنى أنك تريدني
- فعلاً
سار محمد على نحو باب القاعة. أغلقه بنفسه. عاد ليكمل حديثه مع ولده الكبير همساً، فالحيطان لها آذان. قال: إنى أريدك فى مهمة جليلة، فهل تستطيع أن تقوم بها؟
قال إبراهيم: أنت تعرفنى يا والدى، فقد ربيتنى بنفسك
- أريد أن أقتل المماليك.
فوجيء إبراهيم. شرد للحظة، لكنه سرعان ما تمالك نفسه. قال لوالده: إذا كانت هذه إرادتك فلابد أن تنفذ. لكن لم؟ لقد نجحت فى استمالة الكثيرين منهم حتى وثقوا فيك وآمنوا لك.
قال محمد على إنه يحلم بتكوين جيش على الطراز الأوروبي، وأن المماليك لايمكن أن يكونوا جيش المستقبل الذى يحلم به، بل تبين أن مصر لن تتقدم طالما كان هؤلاء المماليك موجودين، لأنهم لايعرفون إلا الفوضى والانفلات، ورغم أنه روضهم كثيراً بمنحهم القصور والجوارى والأموال، إلا أنه كان يرى أنه لابد من القضاء عليهم.
راح يشرح خطته لولده، طلب منه أن يتم الإعداد لكل شيء فى سرية تامة. قال له إن السلطان العثمانى أمره بإرسال حملة لمحاربة الوهابيين فى جزيرة العرب، وإنه أرسل فرماناً بأن يتولى ولده طوسون (شقيق إبراهيم باشا) قيادة الحملة. وسينتهز الفرصة ويدعو أمراء المماليك لحفل عظيم، بهذه المناسبة، وعند الخروج سيكون باب القلعة الرئيسى مغلقاً بحجة الإصلاح، وسيوجههم الحرس إلى باب العزب، وهناك سيتم غلق الأبواب من الأمام والخلف وإبادة الجميع. وسأله سؤالاً محدداً: هل تستطيع إبادتهم إبادة كاملة؟ لاحظ أنهم لو نجوا فستكون حياتنا هى الثمن.
قال إبراهيم: ثق يا أبى أنه لن ينجو منهم أحد.
- فى التوقيت نفسه سيتوجه جنودنا لمهاجمة بيوت هؤلاء الأمراء، طبقاً لخطة مدروسة، بحيث يتم القضاء على أتباعهم جميعاً فى وقت واحد. لا أريد أن يبقى فى بيوتهم سوى النساء والأطفال.
قال إبراهيم بكلمات قاطعة: تأكد يا أبى أنه لن يبقى سوى النساء والأطفال.
وانتهت قصة المماليك فى مصر فى يوم واحد. لكن ظهر سؤال محدد: بعد قتل أمراء المماليك فمن سيكون قادة الجيش الجدد؟
نقطة التحول
فى عام 1815 هُزم نابليون فى معركة واترلو هزيمة قاسية، وبعد الهزيمة تم تسريح جيشه، وراح قادته يعرضون أنفسهم على حكام الدول للاستفادة بخدماتهم.
وفى عام 1819 طلب قنصل فرنسا: دروفيتي، مقابلة محمد على باشا. وحين جاءه قال القنصل بصراحة: سعادة الباشا، أريد أن أقدم لك خدمة جليلة تذكرنى بها.
- أنا أسمعك ياجناب القنصل. هات ماعندك.
- سأقدم لك رجلاً كان ضابطاً برتبة كولونيل فى جيش نابوليون، اسمه سيف، وأنا واثق أنه سيساعدك كثيراً فى بناء الجيش العصرى الذى تحلم به. إنه رجل شجاع شجاعة نادرة، ولديه القدرة على التنظيم والإدارة. لن تندم أبداً إذا استعنت به، خصوصاً وقد علمت أنك بصدد إنشاء مدرسة عسكرية بأسوان لتخريج الضباط.
- أين هو هذا الكولونيل؟
- ينتظر بالباب حتى تأمر باستدعائه.
استدعاه محمد علي. وسأله سؤالاً محدداً: إذا كلفتك بإدارة مدرسة عسكرية، فهل تستطيع أن تخرج لى ضباطاً بنفس كفاءة ضباط الجيش الفرنسي؟
- ثق يامولاى أنى رجل المهام الصعبة. وسأكون مسئولاً عن إعدادهم أفضل إعداد ممكن.
- الطلاب لن يكونوا مطيعين. إنهم أبناء المماليك الذين قضيت عليهم منذ سنوات، وقد تربوا على الفوضى وإثارة الشغب.
- بينى وبينهم التجربة الحية
- على بركة الله. هل لك طلبات محددة؟
- أريد الاستعانة ببعض الضباط الفرنسيين الذين أختارهم بنفسي
- لك هذا.
وتم افتتاح المدرسة الحربية بأسوان عام 1820.
مشاغبات
كان محمد على صادقاً حين قال للكولونيل سيف أن الطلاب مشاغبون. وقد أحس الطلاب فعلاً بالضيق من هذا القائد الذى يريد إجبارهم على النظام. اتفقوا مع بعضهم على مؤامرة. قالوا إنهم فى اليوم المخصص لضرب النار لن يضربوا على الأهداف الموضوعة، بل سيجعلون طلقاتهم جميعاً مصوبة نحو هذا القائد. وفى يوم ضرب النار بدأوا تنفيذ المؤامرة. لكن الجنرال سيف لم يهتز أمام طلقاتهم التى خابت جميعاً. وبعد أن انتهوا من إطلاق النار جمعهم، وقال لهم موبخاً: هل هذه هى قواعد التنشين التى تعلمتموها؟ لو واجهتم عدوكم بهذه الخيبة لقتلكم جميعاً. ثم أمرهم بحزم: انصراف لتتعلموا قواعد التنشين من جديد.
انصرفوا وهم فى قمة الخجل. أى رجل هذا الذى لا يهتز أمام الطلقات؟ ومنذ هذا اليوم تعلموا أن قائدهم يستحق التقدير والاحترام، وقبل هذا وذاك يستحق الطاعة.
بعد سنوات معدودة كان لدى مصر ضباط أكفاء مدربون على الطاعة والنظام. يصلحون لكى يكونوا نواة للجيش الجديد. ولم يلبث هذا الجيش أن ملأت أخبار انتصاراته أرجاء الدنيا.
ملاحظات أخيرة
أسلم الكولونيل سيف، وتسمى باسم سليمان، ثم حصل على البكوية، فالباشوية، واشتهر باسم سليمان باشا، وسمى شارع من أكبر شوارع القاهرة باسمه. وترقى حتى وصل لرتبة اللواء، وتولى رئاسة أركان حرب الجيش المصرى. وتزوج وعاش بمصر، ومن أحفاده الملكة نازلي، زوجة الملك فؤاد، وأم الملك فاروق.
ابن الوز
من الأمثال الشهيرة فى ثقافتنا: ابن الوز عوام، ومعناها: إن صاحب الموهبة سيورثها لابنه. لكنى أرى أن هذا المثل غير صحيح إلا فيما ندر. لقد قابلت أبناء بيرم التونسى ولم يكن من بينهم ابن واحد لديه موهبة الكتابة. وعرفت حسن درويش، ابن سيد درويش الأصغر، ولم يكن ملحناً أو مؤلفاً موسيقياً مثل والده، وعرفت الدكتور حسن محمد البحر، حفيد سيد درويش، ولم يكن موسيقياً، بل كان مهندساً، الوحيد الذى ارتبط اسمه بالغناء من هذه الأسرة هو إيمان البحر درويش، لكنه كان مغنياً فقط ولم يكن ملحناً ولا مؤلفاً موسيقياً.
ومن جيلنا لم أعرف من أبناء أصدقائى الكتاب من ورث موهبة الكتابة عن أبيه إلا نادراً. محمد جمال الغيطانى مثلاً وأخته ماجدة لا يكتبان الرواية ولا القصة ولا المقال الأدبي، ولم أعرف أن أحداً من أبناء يوسف القعيد احترف الكتابة، وقس على ذلك أبناء محمد جبريل، وأحمد سويلم، ومحمد سليمان، ومحمد أبو دومة، ونبيل عبد الحميد، وغيرهم. وهذا ليس معناه أن هؤلاء الأبناء غير موهوبين، بالعكس، بل معناه أن الله سبحانه وتعالى منح كلاً منهم موهبة خاصة فى مجال مختلف غير الكتابة. الوحيد من أبناء جيلى الذى له ابن اشتهر فى مجال الأدب هو محمد مستجاب، رحمة الله عليه، فقد أنجب لنا ابناً موهوباً فى القصة القصيرة والكتابة النثرية هو محمد مستجاب الابن. ولم يثبت معظم أبناء رفاق الكتابة الأدبية من السكندريين قاعدة ابن الوز، فمصطفى نصر، وسعيد سالم، وسعيد بكر، ومحمد الجمل، ورجب سعد، وصبرى أبو علم، وفوزى خضر، وغيرهم ليس من بين أبنائهم من ورث موهبة الكتابة، الوحيدون الذين ورث أبناؤهم عنهم موهبة الكتابة هما: مصطفى الشندويلى وإبراهيم عبد المجيد، فشامخ وفداء الشندويلى ورثا موهبة كتابة الشعر والسيناريو عن أبيهما، رحمة الله عليه، وصارا من المشاهير، وإياد ابن إبراهيم عبد المجيد احترف أيضاً كتابة السيناريو.
وأنا شخصياً علمت اثنين من أبنائى الكتابة، وكانا مبشرين جداً، لكن أحدهما تخصص فى الإدارة، ونجح فيها، ونسى الكتابة. أما الثانى فقد تخصص فى الإخراج وأصر على ألا يكون كاتباً. أما ابنتى الوحيدة فقد تخصصت فى مجال بعيد عن الأدب تماماً، وحصلت على دكتوراه فى الكيمياء، لذلك حين أقرأ أو أسمع جملة: ابن الوز عوام، أقول إنها جملة غير مطلقة الصدق، لأن الله يمنح كلاً منا موهبته الخاصة التى قد تختلف عن موهبة أبيه. وقد صارت فكرة التورث فى زماننا من الأفكار سيئة السمعة، بعد أن حاول بعض السياسيين فى زماننا توريث الحكم لأبنائهم، مما كان سبباً فى ثورات الخريف العربي.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة