شريفة فاضل
شريفة فاضل


فيديو| «أم البطل» الأغنية التي بسببها اعتزلت سلطانه الطرب الغناء

د.محمد كمال

الإثنين، 04 مايو 2020 - 06:52 ص

عقب نكسة 5 يونيو 67 أخذت الدولة على عاتقها بمختلف توجهاتها السياسية والحزبية والاجتماعية رد الاعتبار من العدو الغادر بشكل أو بآخر كل في مجاله، وقبل حرب السادس من أكتوبر خاضت مصر معركة عنيفة جدًا خلال فترة صعبة من تاريخها المعاصر سميت بحرب الاستنزاف.

 ضحت مصر خلال حرب الاستنزاف بالغالي والرخيص من أجل العمل على عودة الروح مرة أخرى للجنود المصريين، أعداد الشهداء كانت بالمئات أثناء خوض غمار هذه الحرب الشرسة لاستعادة الهيبة والكبرياء، لم يكن الفن المصري آنذاك بعيد عن ما يحدث سواء كان بالأغاني الحماسية التي ألهبت حماس المصريين، أو بالأفلام الوطنية التي جسدت البطولات المصرية المختلفة، لكن واحدة من الفنانات التي شاركت مثل مثيلاتها في هذه الحرب من خلال فنها قدمت بالإضافة إلى الفن تضحية كبرى من خلال نجلها الأكبر وفلذة كبدها الذي وهبت روحه فداء لأرض مصر، أنها الفنانة الشهيرة شريفة فاضل التي جسدت ملحمة وطنية عظيمة من خلال أغنيتها الخالدة «أم البطل»..

أغنية بدماء الشهداء

رغم مرور 46 عام على أغنية «أم البطل» إلا أنها كانت ومازالت حتى الآن واحدة ضمن أعظم الأغنيات التي خلدها التاريخ الفني، مازلت الأبدان تقشعر فور سماعها، في أي وقت، كما أنها تثير البهجة والعواطف الجياشة داخل نفس كل أم بقي نجلها على قيد الحياة بعد أن أدى واجبه الوطني على أكمل وجه.

تعتبر الأغنية من نوعية الأغاني الواقعية التي وقعت أحداثها بالفعل، مثلها مثل أي عمل درامي أو تاريخي يكتب في تتر البداية هذه الأحداث مستمدة من الواقع، لكن واقع هذه الأغنية يختلف كلية عن أي واقع أخر، وذلك باختصار لأن من قامت بغنائها هي «أم البطل».

كُتبت نظريًا هذه الأغنية بالكلمات، وعمليًا كُتبت كلماتها بدماء الشهداء، أما لحنها فلم يكن بالموسيقى وإنما بأصوات وبكاء وآنين وألم كل أم وأب وكل أسرة فقدت فلذة كبدها الذي تحول في غمضة عين إلى شهيد أثناء الحرب، ربما يكون ذهب بجسده إلى مثواه الأخير لكن بقيت متعلقاته، ذكرياته، بطولاته، حتى دمائه شاهده على تضحيته، تحولت أغنية «أم البطل» بمرور الزمن إلى علامة فارقة في تاريخ حرب أكتوبر 1973، البعض أطلق عليها صائدة الذكريات، والبعض أطلق عليها بئر الأحزان، كل كلمة فيها وكل معنى وكل مقطع كفيل بأن يحلق بخيال المستمع إلى آفاق بعيدة من الشجن والدموع والآلام.

استشهاد البطل

تلقت الفنانة شريفة فاضل في صباح يوم عصيب من أيام حرب الاستنزاف أصعب خبر من الممكن أن تسمعه أم في حياتها وهو استشهاد نجلها الأكبر وأول فرحتها الملازم أول طيار «سيد السيد بدير» أثناء إحدى الاشتباكات مع العدو، كان شابًا يافعًا، قويًا، يمتلئ بالشباب والحيوية، حديث التخرج، تلقى تدريباته على الطيران في روسيا، أسُقط في يدها وهي تسمع هذا الخبر، دارت بها الدنيا، هبط عليها هذا الخبر كالصاعقة، توقفت الكلمات في حلقها، اعتصرها الحزن والألم، اشتبكت بداخلها الذكريات وهي تتذكر نجلها الأكبر الذي لن تتمكن من رؤيته مره أخرى، الخبر الحزين أضاف لقسمات وجهها سنوات وسنوات، أقعدها المرض والحزن، أصيبت بعد هذا الخبر بانهيار عصبي حاد دفعها لاعتزال الجميع، أسرتها، جيرانها، أصدقائها، حتى حياتها الفنية ابتعدت عنها تمامًا بعدما أعلنت اعتزالها الفن، أسابيع وشهور مرت منذ الخبر المشئوم والفنانة المعتزلة حبيسة غرفتها، لم يتبقى لها من حياتها مع نجلها سوى شريط من الذكريات يمر أمامها بين الحين والأخر وكأنه مشهد سينمائي حزين.

قبلة الحياة

تماسكت الفنانة الكبيرة بعد فترة من الزمن وانتفضت من عزلتها وقررت كسر حاجز الصمت الذي غلف حياتها من خلال إنشاد أغنية وطنية تخرج بها للنور وتُحلق بها إلى آفاق بعيدة، كانت الأغنية بمثابة قُبلة الحياة بالنسبة لها، قامت بالاتصال هاتفيًا بصديقتها الشاعرة الكبيرة «نبيلة قنديل»، وطلبت مقابلتها لأمر هام هي وزوجها المُلحن الكبير آنذاك «على إسماعيل»، وفي الموعد والزمان المحددين، تقابلت الفنانة المكلومة مع صديقتها الشاعرة وطلبت منها كتابة كلمات أغنية لنجلها الشهيد، شردت الشاعرة بتفكيرها للحظات ثم هزت برأسها بالموافقة والدموع تملئ عينيها ودار بينهما الحوار التالي:-

 نبيلة قنديل: هل رغبتك تتمثل في كتابة أغنية عن نجلك أنت فقط؟

شريف فاضل: لا، أنا محتاجة كلمات أغنية عن كل «أم» فقدت نجلها خلال الحرب، عاوزه «أم» كل شهيد تكون فخورة بما قدمته من تضحية وبما فعله نجلها البطل، وأيضًا أرغب في أن تصل الأغنية لأمهات كل الأبطال الذين شاركوا في حرب أكتوبر من استشهد منهم ومن كُتبت له النجاة.

◄ كانت إجابة الفنانة شريفة فاضل بمثابة تغيير كلي وشامل في شكل وطريقة كتابة الأغنية، واستكملا سويًا حوارهما..  

من وحي خيال غرفة الشهيد

نبيلة قنديل: محتاجة مكان هادي أعرف أقعد وأكتب فيه

شريفة فاضل: هتكتني دلوقتي هينفع ؟

نبيلة قنديل: أه، ينفع بس محتاجة أكون لوحدي شوية كده ونشوف

شريفة فاضل: طيب أنا هساعدك هعمل حاجة معملتهاش من وقت استشهاد نجلي

نبيلة قنديل: حاجة زي إيه ؟

شريفة فاضل: تدخلي غرفة نجلي الشهيد وتكتبي، أنا تقريبًا مفتحتش غرفته ومحدش دخلها من يوم خبر استشهاده ومفيش مكان أحسن من كده ممكن يساعدك في عملية العصف الذهني.

انتهى الحوار بين الشاعرة والفنانة بدخول المؤلفة «نبيلة قنديل» غرفة الملازم أول الشهيد طيار سيد بدير، أغلقت على نفسها الباب من الداخل وبعد عدة ساعات خرجت من الغرفة وهي تحمل في يدها ورقة بكلمات الأغنية، وبدأت في قرأتها أمام الحضور زوجها الملحن «علي إسماعيل والفنانة المعتزلة آنذاك شريفة فاضل».

ابني حبيبي يا نور عيني .. بيضربوا بيك المثل.. كل الحبايب بتهنيني.. طبعًا ما أنا أم البطل.

كلمات كُتبت بالدماء

دخلت الفنانة شريفة فاضل فور الانتهاء من سماع الكلمات في نوبة من البكاء الهستيري، وكأن كلمات الأغنية كتُبت بدموعها وآلامها، عبرت الكلمات عن مكنون ما تجيش به مشاعرها من أحزان وألام، شعرت أنها تعبر عنها بالفعل، هنا تدخل الملحن علي إسماعيل الذي تأثر بشدة وذرفت عيناه الدموع وطلب مهلة لصياغة هذه الكلمات في شكل لحن تتوارثه الأجيال، فأخذ الكلمات وتوجه إلى منزله ولم ينم في هذه الليلة، عكف على وضع الترتيبات النهائية لهذا اللحن الحزين، وعاد في اليوم التالي بلحن شديد الروعة والدقة، وبمجرد أن عرضه على الفنانة شريفة فاضل ظهر على قسمات وجهها شدة التأثر، حاولت التظاهر بالتماسك لكنها فشلت غلبتها أحزانها ودخلت في نوبة بكاء هستيري للمرة الثانية.

موقف الإذاعة المصرية من الأغنية

ذهبت الفنانة فاضل في اليوم الثالث لكتابة وتلحين الأغنية إلى ماسبيرو حيث مبنى الإذاعة والتلفزيون التقت بالفنان «بابا شارو» وكان رئيس الإذاعة المصرية آنذاك وعرضت عليه الأغنية لتسجيلها في استوديوهات الإذاعة ورحب «بابا شارو» بالأغنية وكلماتها وفكرتها كلها من الأساس إلا إنه اعترض على اللحن لاعتماده على الناي في العزف، ما جعل الأغنية حزينة جدًا وهو ما يدفع المستمع لعدم تقبلها فضلاً عن إشفاقه على الجنود الذين سيستمعون إليها فيما بعد، لذا طلب من مهندسي الصوت بالإذاعة المصرية إضافة الآلات الموسيقية الراقصة للمساعدة على سرعة الرتم والأداء، ما أضطر شريفة فاضل للانصياع إلى تعليمات «بابا شارو» رئيس الإذاعة المصرية، أصدر «شارو» تعليماته للقائمين على التجهيزات الفنية بضرورة وسرعة إعداد وتجهيز الأستوديو، وطلب من شريفة فاضل الاستعداد لدخول الأستوديو فورًا للتسجيل.

إغماء وبكاء

بدأت المطربة الكبيرة في الغناء لكنها دخلت في نوبة حادة من البكاء، وتكرر الأمر وتوقف التسجيل أكثر من مرة بسبب بكائها وسقوطها مغشيًا عليها، كلما حاولت استعادة تماسكها والاستمرار في الغناء، لدرجة أن الفنانة «فايزة أحمد» كانت موجودة بالصدفة آنذاك في الإذاعة المصرية وشاهدت تفاصيل ما حدث وطلبت منها الانتظار لعدة أسابيع حتى تستعيد عافيتها وتتمكن من الغناء، لكنها رفضت كل محاولات إثنائها عن الغناء أو حتى التأجيل لوقت أخر، وأصرت على التسجيل حتى نجحت أخيرًا في التماسك وأنهت الأغنية كلها على مرة واحدة ولم يستغرق تسجيلها سوى عدة ساعات خلال نفس اليوم، وخرجت الأغنية للنور بصوت شريفة فاضل ودموع عينيها الحقيقية وقت الغناء وحملت كلمات الأغنية الأنين والألم والفخر والعزة والكرامة في وقت واحد.

أم البطل تهدد حياة شريفة فاضل

اعتبرت شريفة فاضل هذه الأغنية من أعظم أعمالها الفنية على الإطلاق والأقرب لقلبها ونفسها لدرجة أنها كانت تُصر على غنائها في كل حفلة تشدو فيها لكن في كل مرة كانت تنتابها حالة عصبية شديدة وتدخل في نوبة من البكاء الهستيري، لدرجة أن شريانها انفجر بسبب الضغط العصبي الواقع عليها ومحاولتها التماسك، حتى نصحها الأطباء بعدم غنائها مرة أخرى لأن كلمات الأغنية تمثل خطر على حياتها، كانت تعليمات الأطباء حادة وقاطعة لذا فضلت شريفة فاضل اعتزال الغناء كله، ثم عادت للظهور للمرة الأخيرة في حياتها كمطربة لتشدو بأغنية «آه من الصبر»، وكانت هذه الأغنية هي أخر ما غنت «سلطانة الطرب في زمن الفن الجميل» بعدها اعتزلت الحياة العامة تمامًا لكن بقيت أغنيتها واسمها يتردد بشكل دائم.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة