كرم جبر
كرم جبر


إنها مصر

ذكرياتى مع اخوتى المسيحيين !

كرم جبر

الأربعاء، 13 مايو 2020 - 07:39 م

فوجئ كثيرون بأن الفنان إبراهيم نصر - رحمه الله - مسيحياً وليس مسلماً، ولكنى لم أفاجأ، فقد نشأت فى مدينة نصفها مسلمون ونصفها مسيحيون، ولم نكن نعرف مطلقاً الفارق بين المسلم والمسيحى.
نشأت فى مدينة القوصية محافظة أسيوط، فى زمن الوحدة الوطنية الجميل، وما زلت أتذكر الدكاترة المسيحيين الكبار، أنطون وسنادة والدكتورة ثريا متياس، وكان الدكتور أنطون - رحمه الله - أبو الشباب والشياكة، فقد كان رئيساً للنادى الرياضى وزملكاوي، ويشرف على كرة القدم للشباب، وأهم ما يميزه البدل البيضاء الناصعة والحذاء الأبيض.
وأتذكر أيضاً المقدس بشرى صرافيل، بجلبابه البلدى المحترم وعمامة فوق رأسه، وكان من عموم الأعيان، ويحفظ كثيرا من الآيات القرآنية، ويخطب فى جنازات المسلمين، ومحبوب من الجميع.
كانت المدارس على أيامنا مشتركة، فى الفصل الواحد صفان للأولاد وصف للبنات، فى قلب الصعيد والعادات والتقاليد المشددة، ولم يكن هناك شيء اسمه المعاكسات أو التحرش، وكنا نعتبر كل بنت أختاً لنا.
فى المرحلة الثانوية كان نصف الفصل البنين يحبون طالبة مسيحية، - بلاش أذكر اسمها تلاقيها الآن جدة - وكنا نكتب فيها الشعر، ففى الصعيد يكتب الجميع الشعر، ونصف المدرسة شعراء.
كانت زميلتنا المسيحية جميلة ورقيقة، وتكبرنا فى التفكير، ولا تأتى للمدرسة إلا ومعها كتاب أو رواية ليوسف السباعى أو إحسان عبد القدوس أو محمد زكى عبد القادر، وكانت فى الفسحة تقرأ وتشرح لنا، وكنا نطلق عليها الأديبة.
كان تجار الذهب ومحلات الصاغة ملكا للمسيحيين تماماً، وكانوا أهل ثقة ومعروفين عند الناس جميعاً، وكان أصحابها الأكثر شياكة ولبساً للخواتم الكبيرة التى تجذب الأنظار.
كانت الشوارع واسعة والأشجار فى كل مكان والغيطان تحاصر المبانى القليلة، وأشجار التوت الشاهقة وثمرة أخرى تشبه الزيتون الأسود اسمها البامبوزيا، مذاقها حلو وشجرتها ضخمة.
وكنا نشتم رائحة الطبيعة فى شم النسيم، وأيام أعياد المسيحيين كانت اعيادا لنا، سبت النور وحد السعف، ونحرص على اقتناء سعف النخيل ونصنع منه أشكالاً مثل التى يصنعها الأخوة المسيحيون.
وكانت متعتنا الكبرى مع بدء إجازة الصيف، هى الذهاب إلى الدير المحرق، أشهر وأضخم الأديرة المصرية، الذى استضاف السيدة مريم وطفلها المسيح ويوسف النجار هرباً من اضطهاد الرومان.
والدير المحرق لم تكن له أسوار عالية مثل الآن، وإنما كان مفتوحاً على منطقة صحراوية كبيرة تتحول أثناء الاحتفال بمولد العدرا إلى أكبر منطقة للملاهى، فيها بائعو السودانى والحمص والحلويات، بجانب عشرات الخيام للفرق الفنية «تياترو»، ويأتى للمنطقة زوار فى أتوبيسات كبيرة من مختلف المدن المصرية وبعض الأجانب.
كانت الدنيا جميلة والحياة سلسة، والمسلمون والمسيحيون، نتجاور ونتعاون ونتصادق، ولم يكن فى ذلك الوقت أى حكايات عن الأسلمة أو أن تختفى فتاة مسيحية، فالقانون السائد هو احترام الآخر، وقبول العيش فى مودة وسلام.
وزرت القوصية على مرات متباعدة، لقد تغير كل شىء، الشوارع ليست الشوارع، والبنايات الشاهقة تحجب منظر السماء والقمر، وغرقت المدينة السمراء فى طوفان من التوك توك.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة