سليمان قناوى
سليمان قناوى


يوميات الأخبار

من الرداء الأبيض إلى السرير الأبيض

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 14 مايو 2020 - 06:44 م

قلبى أصبح «ملطشة» القلوب، لكنه لم يكن يوما ولن يكون أبداً «جلاب المصايب».

قدر الله نافذ مهما قدمت مشيئته وأخذت بالأسباب، فطلاقة القدرة الإلهية بإمكانها إيقاف مسببات الأسباب أو تحويلها فى اتجاه آخر عكس كل ما تريد او تتمنى. والإنسان الراضى القانع المتصالح مع الله ونفسه والآخرين، مؤمن تمام الإيمان أنه فى كل اختياراته لا يفر من قضاء الله إلا إلى قدر الله. كنت أستعد لارتداء ملابس الإحرام فى هجرة إلى الله ورسوله (قبل قارعة كورونا) حين مادت الأرض من تحت أقدامى ولولا الاستناد إلى أقرب حائط لسقطت وتحطم رأسى، ومعها هاجمتنى موجات قىء شديدة، ما كنت أفرغ من واحدة إلا لتتلوها الأخرى. اتصلوا بابنتى الطبيبة التى لاحظت ثقل لسانى أثناء الكلام، فجاءت من أقصى المدينة فزعة، ليزداد فزعها- دون أن تشعرنى- حين لم تجد نبضا فى عروقى، وحتى توقظ وعيى الذى كان يتلاشى فى تسارع كلحظات غروب يوم غائم. وعلى طريقة الأفلام الأمريكية، حين يصاب البطل بعيار نارى ويظلون يكلمونه للإبقاء على وعيه، ظلت ابنتى تحدثنى عن كلمات ومداعبات أحفادى المضحكة، لكننى لم أع من كل ما قالت إلا أسماءهم فقط: نور وعلى وزينة وكرمة وحمزة. فى انتظار سيارة الإسعاف، راحت ابنتى ترفع قدمىّ فى محاولة لتنشيط النبض ورفع ضغط الدم. وحين وضعت قدمىّ فى السيارة، زفرت بآخر موجة قىء، وكأنها كانت الكابوس الجاثم على صدرى،فأفقت واسترددت وعيى وانتهى الدوار وكنا لا نزال فى الطريق إلى المستشفى. ولحسن حظى كان ليل القاهرة قد انتصف ومن ثم قطعت سيارة الإسعاف المسافة إلى المستشفى فى دقائق معدودات. لحظة الإفاقة لم يكن يدور بخلدى سوى تلقى علاج سريع والعودة إلى المنزل لحمل الحقائب والتوجه إلى المطار لبدء رحلة هجرة العمر إلى رحاب الله بمكة المكرمة.كنت أعتقد حتى هذه اللحظات أننى أعانى من خلل ما فى المعدة، لأن الأعراض لم تكن تشى بأكثر من ذلك. فى جناح الطوارئ بالمستشفى، راح فكر الطبيب المناوب إلى بعيد حين حدثته عن الدوار المفاجئ الذى داهمنى فطلب إجراء أشعة مقطعية على المخ، ومعها طلبت ابنتى إجراء رسم قلب، إلا أن الطبيب رفض فى البداية ظنا منه أن الأمر لايستدعى ذلك فالأعراض لا تظهر أى علاقة بالقلب كما اعتقد هو، وتعلل بأن الطوارئ مزدحمة والضغوط عليه شديدة، وإزاء اصرار ابنتى على رسم القلب، طلب- بقرف شديد- من الممرض عمل الرسم، ليتضح منه وجود اضطراب شديد بالقلب، ليأتى طبيب مناوب آخر- لكسوف الأول بعد أن ظهر سوء تقديره لحالتى- ويجرى تحليلا لإنزيمات القلب ليجدها مرتفعة جدا وهذا علامة على وجود جلطة أو انسداد فى أحد الشرايين. كل ذلك كان يدور دون أن أعلم عن حالتى الخطيرة شيئا فكانت قناعتى لا تزال راسخة «أعطونى دواء للمعدة، لألحق بطائرة العمرة». لذلك يكون العلاج بالصدمة فى بعض الأحيان هو خير وسيلة لإقناع المريض بدقة حالته الصحية. جاءنى مدير وحدة الطوارئ قائلا:" الوضع خطير ويمكن أن يحدث لك موت مفاجئ فى الطائرة، ولو كانت هذه الأزمة قد داهمتك وأنت على الأرض السعودية، لكان من الممكن علاجك وإكمال رحلتك إلى الله، أما ركوب الطائرة فهو جد خطير"هنا فقط استسلمت لقضاء الله وقدره ودخلت غرفة العناية المركزة"الإنعاش".
شتان بين إنعاشين
دع المقادير تجرى فى أعنتها.. ولا تبيتن إلا خالى البال ما بين غمضة عين وانتباهتها..يغير الله من حال إلى حال يا الله..منذ لحظات فقط كان المقصد بيت الله الحرام..كان الأمل هجرة إلى رحابه فى مكة المكرمة ثم إلى رسوله فى مدينته المنورة. كان الهدف إنعاش القلب والوجدان والجوارح برؤية الكعبة المشرفة والتبتل والقنوت فى رحابها ثم تكحيل العين بالوقوف أمام قبره صلى الله عليه وسلم وتسلم عليه لتتخيل أنه يرد عليك السلام، وشتان بين إنعاشين: إنعاش الرداء الأبيض الذى تتجرد فيه من كل متاع الدنيا( بشكير الإحرام) وإنعاش السرير الأبيض بغرفة العناية المركزة الذى تتحول فيه إلى رقم " الحق 21 النبض منخفض" " بسرعة إلى 15 الضغط فى الأرض".. لا تتحول فيه إلى رقم فقط بل إلى شاشة وستة أقطاب مزروعة حول صدرك ومتصلة بالشاشة، ليتم بث مباشر لكل خفقة من خفقات قلبك إلى مونيتور بغرفة الأطباء ليتم متابعة حالتك لحظيا. فى العناية المركزة ظللت أتمتم" الحمد لله الذى عافانى مما ابتلى به خلقه" لهول ما رأيت وسمعت من أنات المتوجعين وصرخات المتألمين حولى. استيقظت فى احد الايام على صوت نحيب هادر". طلبت الممرض المناوب" يا عمار..فى إيه ؟" رد: عادى مريضة ماتت" لاحظ الممرض تعجبى من رده البارد، فقال" يا أستاذنا لو تألمنا تفاعلا مع كل مريض لقى وجه ربه، لن نتفرغ لإنقاذ الباقين على قيد الحياة" وأضاف: دراما الموت والحياة فى غرف العناية تفوق خيال أقوى الروائيين..قليل من يدخل الإنعاش على قدميه، وقليل أيضا من يخرج على قدميه..لا تلمنى على رد فعلى على المتوفاة، فأنا صاحب قلب مثلكم، ولكن علمتنى الحياة عبر هذا العمل أن يكون حزننا على من لقوا ربهم دافعا لإكمال رسالتنا فى محاولة إنقاذ الباقين.نحن نعالج والشافى هو الله".
وما أدراك ما القسطرة
خرجت من الجهاد الأصغر(غرفة الإنعاش) إلى الجهاد الأكبر(قسطرة تشخيصية وعلاجية فى آن واحد) كان يجب معرفة سبب جلطة القلب وعلاجها، فكل ما تم بالإنعاش هو علاجات مؤقتة كمسيلات للدم لمنع المزيد من الجلطات ومخفضات للضغط. اكتشفت أن قلبى أصبح "ملطشة" القلوب، رغم أنى لم أحس بأى آلام به حتى وقت اشتداد الأزمة، وخطورة مثل هذه الأزمات القلبية حاليا أنها أصبحت تأتى بأعراض مراوغة تجعل بعض الأطباء يذهبون بفكرهم بعيدا عن أن ما يعانيه المريض هو أزمة فى القلب، وقد تسبب الكثير من العلاجات الخاطئة لمرضى القلب وتشخيصه على أنه مجرد اضطرابات فى المعدة، تسبب ذلك فى تدهور حالة الكثيرين. أحمد الله أن ألهم ابنتى الطبيبة إلى الإدراك الفورى لما أعانيه. أصبح قلبى ملطشة القلوب رغم أننى لم أدخن يوما، وأعزف منذ الصغر عن تناول كل ما هو سمين، لكن لعن الله الكوليسترول الضار الذى تسبب فى جعل قلبى"ملطشة القلوب" مع كل التقدير لأشهر أغنية هذا العام للملحن والمطرب مصطفى شوقى التى جاء مطلعها مشابها لحالتى تماما " على فين العزم إن شاالله..وإيه اللى قطعلك نومه..ده لولا الستر من الله..ماكانتش قامت لك قومه" إلا أن باقى الأغنية لا يشبهنى فهو يقول عن قلبه"يا ملطشة القلوب يا جلاب المصايب" لأن قلبى ولله الحمد لم يكن يوما ولن يكون أبدا"جلاب المصايب". المهم أن القسطرة كشفت إلى أى مدى أصبح قلبى ملطشة القلوب، فقد وجدوا شريانا رئيسيا مسدودا بنسبة ٧٠٪ وهو ما استلزم تركيب دعامة، كما وجدوا انسدادا فى شريان آخر صغير، فضلوا عدم الاقتراب منه تجنبا لأى مضاعفات أو مخاطر.
لا تعالجوا أنفسكم
حتى لا تكون قلوبكم ملطشة،تجنبوا أن تعالجوا أنفسكم بأنفسكم، فقد استفدت من هذا الابتلاء فى درس علمتنا إياه الحياة لكننا نتغافل عنه كثيرا وهو سؤال المتخصصين وأهل الذكر، إذا ألمّ بنا عارض،فنفس هذه الأزمة التى ضربتنى قبل سويعات من توجهى لأداء العمرة، كانت قد داهمتنى قبلها بعشرة أيام، وبعد أن انتهت موجات القىء يومها، أفقت من الدوار واستيقظت فى اليوم التالى سليما وعالجت نفسى على أنه اضطراب فى المعدة وهو لم يكن كذلك. ونبهتنى ابنتى - بعد تجاوز المحنة - بضرورة أن اكشف لها إذا عانيت من أى عارض حتى لو كان بسيطا. كانت المفاجأة الثانية للأطباء عند النظر لحالتى أننى لم أقرب التدخين فى حياتى يوما، وقالوا إن عدم تعرضك وقت الأزمة لأى آلام فى الصدر مرجعه أنك غير مدخن. وأبسط شيىء يفعله الإنسان لتجنب مشاكل القلب والأزمات بشكل عام هو ممارسة أرخص وأبسط رياضة فى الكون وهى المشى لنصف ساعة يوميا فهى كفيلة بضبط السكر والضغط والكوليسترول وهو الثالوث المرعب للإنسان الذى يتسبب فيه الثلاثى الأبيض الأكثر رعبا : السكر،الملح،الدقيق. وقاكم الله كل سوء وحفظ قلوبكم من تلطيش الجلطات والذبحات.
التراحم الاجبارى
إذا كان العالم قد شهد خلال الأيام المرعبة لانتشار جائحة كورونا، عمليات سطو مسلح تقوم بها حكومات يمكن أن نسميها "مسجلة خطر سرقات" حين قامت بسرقة معدات طبية للوقاية من فيروس كورونا مثل تركيا التى استولت على طائرة قادمة من الصين بمعدات طبية متجهة لإسبانيا عبارة عن أجهزة التنفس ومعدات أخرى لعلاج مصابى كورونا. كما قامت السلطات الفرنسية بشراء الملايين من الكمامات من شركات صينية لكنها لم تحصل عليها لأنه بعد تحميل الطائرة بالكمية المطلوبة كان من المفروض أن تنطلق نحو فرنسا، إلا أن أمريكا زايدت على الشحنة ودفعت لها ثمنا أكبر لتتجه الطائرة مباشرة إلى واشنطن.ونفس الشيىء فعلته أمريكا مع ألمانيا فقد اتهمت برلين واشنطن "بالقرصنة " بعد تحويل مسار شحنة من الكمامات الموجهة للشرطة الألمانية إلى الولايات المتحدة بعد دفع سعر أعلى. وفى حادثة أخرى تعرضت باخرة محملة بالكحول الطبى للسرقة، خلال توجهها إلى الساحل التونسي. وإذا كان من الطبيعى أن يخرج هذا السلوك من القراصنة والعصابات فلا يصح أن يخرج من دول تعلن فى كل ساعة احترامها للقوانين وتشريعات حقوق الدول والإنسان. ومع ذلك أتوقع بعد أن تهدأ قارعة كورونا، أنه سيهدأ معها سلوكيات هذه الدول لأنها ستعى تماما ما كانوا يعلمونه فى مدارس الغرب فى خمسينيات القرن الماضى وهو أن" صحة جارك من صحتك" فلا يمكنك أن تكتفى بحماية أبناء بلدك فقط من الوباء دون أن تحمى سابع جار من جيرانك من الدول، فمن كان يتصور أن فيروسا يظهر فى سوق للأحياء المائية فى أقصى بقاع الارض فى مدينة ووهان بالصين يمكن أن يلف الكون كله ويصيب شعوب 210 دول. سيظهر نوع من التكافل والتراحم الإجبارى بين الدول بعد هدوء العاصفة لأنه ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة