يسرى الجندى
يسرى الجندى


يوميات الأخبار

شكسبير جسر إلى نجيب محفوظ وواقعنا

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 04 يونيو 2020 - 06:14 م

 

فالمسرح الإيطالى والفرنسى لم يثمرا شيئاً ذا بال ولم يجدا أى امتداد حقيقى وفشلت بالفعل حركتها وذلك لأنهما ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد الكلاسية.

النظر إلى حقيقة اليقظة فى مسرح عصر النهضة يوضح أننا بإزاء موقف مفتوح لم يتشكل على نحو نهائى وتعتمل فيه أشواق غامضة ومتناقضة يمثلها ما أشرنا إليه. فالنهضة فى المسرح مبدئياً ارتبطت بحركة الاحياء وما أحدثته من رجوع إلى التقاليد الكلاسيكية - كما -عرفوها ولكن هذا الرجوع بدا شكلياً وغير مؤثر، بل معوقا لتفاعل آخر، هو ماتحقق فى المسرح حينها. فالتقاليد الكلاسيكية انما تفترض حالة من الثبات، وهو عكس مايميز الواقع كما نقول، ولذا فإن الواقع بغليانه رَفَضَ هذه التقاليد بما حققت أو رفَضَها وحقق شيئاً آخر. فقد بدأت اليقظة بالمسرح الإيطالى ثم الفرنسي ثم الأسبانى وانتهت إلى المسرح الإنجليزى لتصل إلى هذه النتيجة.
 فالمسرح الإيطالى والفرنسى لم يثمرا شيئاً ذا بال ولم يجدا أى امتداد حقيقى وفشلت بالفعل حركتها وذلك لأنهما ارتبطا ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد الكلاسية، وإذ ننتقل لأسبانيا نجد أن الأمر يختلف. فبقدر ما كان يتسم به بناء المسرح من حرية حيث بنى على نظام الفناء المكشوف بقدر ما كانت المسرحية تمثل هذا الإنطلاق وتستند إلى نفس الحيوية التى يتميز بها الواقع حولها فى هذا الوقت، وكذلك نرى ثمرة واضحة وتفاعلاً حقاً. لقد أخرج لنا المسرح الأسباني((لوب دى فيجا وكالدرون )) ثم حشدا من ذوى المواهب استمروا بحركة المسرح فى تفاعل لفترة طويلة.
 ثم أتت فى النهاية حركة المسرح الإنجليزى وجمعت بين مايمثله المسرح الإيطالى والفرنسى من جهة والمسرح الأسبانى من جهة أخرى، اتجاه نحو التقاليد الكلاسية واتجاه نحو الواقع المتوفر تمثله حركة المسرح الشعبى، ولقد دارت المعركة بين الطرفين ونال المسرح الشعبى من الهجوم قدراً بالغاً من قبل أتباع الكلاسية ولكنه سرعان مانمت حركة المسرح الشعبى وتنحى الإتجاه الكلاسى، وحدثت عملية مد هائلة بطاقة من الكتاب الشباب بدأت واضحة بفتى فى الثانيةَ والعشرين من عمره
- روبرت جرين- وانتهت إلى شكسبير وبهذا المعنى يبدو ثمة موقف مفتوح يجمع كافة العناصر التى أشرنا إليها، يمثله وضع المسرح على هذا النحو.
>>>
 شكسبير إذَنْ خرج من هذه الحركة، وهى ان قلنا انها النتاج الحقيقى لموقف مفتوح وغير محدد فلسنا نريد أن نصل إلى انه موقف يمكن أن ينتج مباشرة مسرحاً تراچيدياً، انه فقط مسرح يعبر عن طبيعة الموقف، ولكنه فى الواقع لا يجد من الموقف ما يساعد على تشكيل تجربة تراچيدية. ان كفة الضرورة فيه راجحة كما نقول ولذا فإن الموقف رغم قابليته للتفاعل فهو بشكل مبدئى لا يؤدى إلى تجربة تراچيديا، وانما يمكن أن يعكس فى حيوية ملامح التوتر القائم وملامح الخطورة كما يمكن أن نلاحظ فى انتاج مارلو، لذلك فنحن لانستطيع أن نقول أن شكسبير مجرد امتداد لحركة المسرح الشعبى وانما نقول أن هناك علاقة بينهما أقرب إلى صفقة أراد أن يصل شكسبير معها إلى تحقيق تجربة تراچيدية متحايلاً على الموقف.
 تلك على ما نعتقد هى الحقيقة التى على أساسها نرى المنطلق الذى بدأ به شكسبير تحقيق تراچيديا بأبعادها الكاملة وسط هذا وعلى أبواب عصرنا نحن وذلك مع تأكيد واضح لكل ما يمثله الموقف حينما يرجّحان كفة الضرورة من خطر.. وهذا مايعنى موضوعياً الاستمرار المحتوم لحركة التاريخ وجعل التناقض بين المطلب الشمولى وحركة الضرورة مجرد تناقض ثانوى.. ثم يسقط ذلك فى الخلفية العدمية فى نهاية الأمر كما سنوضح.
 وباختصار نقول أن شكسبير قبل من المسرح الشعبى كل شيء بالتقريب -ليخضع كل شيءبالتالى لتجاوز الموقف وتجسيد رؤياه التراچيدية، والمنطوية على ملامح الموقف فى وقت واحد، وما ينبّئ به لنا. وبالنظر إلى ما قبله شكسبير بشكل أساسى من المسرح الشعبى، وما قدمه ليتجاوز الواقع - ونعنى بذلك مبدئياً استعصاءه على قيام مواضعات تصل الجمهور بالرؤيا - فنحن نجد قبوله الميلودراما ثم الموضوعات ذات الإطار الروائى الفضفاض، ثم مقتضيات المبنى المسرحى وأسلوب العرض فى تأثيرهما على النص المكتوب اننا نجده يخضع الجوانب الميلودرامية والإطار الروائى ليجعلهما جانباً من المواضعات التى تصله بالجمهور ويحقق من خلالها الرؤية التراچيدية، وهو يخضعهما لصياغة محكمة كثيفة من الدراما، ثم هما فى النهاية يخضعان عناصرهما لإيقاع الرؤية، ثم يمتد حله لمشكلة المواضعات إلى مبنى المسرح وطريقة العرض فيه، فمبنى المسرح كان أقرب إلى حانة وأما المنصة فقد كانت عبارة عن منصة مكشوفة ثم مسرح داخلى من جزءين علوى وسفلى وكلها تفتقد المناظر، وهى تحمل بوضعها ذلك علاقة لا متناهية بينهما وبين المتفرج يقوم خيال المتفرّج بالدور الإيجابى فى هذه العلاقة، كانت تتخذ مبدئياً نوعاً من التجريد، يمنحه خيال المتفرّج الحياة..
 فواجهة المسرح ترمز إلى القلعة والعرش وقوس النصر والمذبح والقبر، ثم يمثل المسرح على نحو ما أشرنا العالم مصغراً فلم تكن تسميته بمسرح الكرة الأرضية Thr Globe بمجرد اسم بل كانت تعنى هذه العلاقة، وإلى جانب ارتباط هذه بالنص فى اشتماله على الميلودراما والإطار الروائى الذى يجد حرية فى الزمان والمكان - فإن ثمة تأثيراً آخر وهو على طبيعة الشعر فالشعر هو الذى يقوم بمساندة المتفرج فى عمله التخيلى مع العرض ولذا فإنه كان يتسم بنوع من الاستقلال والغنائية والتزويق البلاغى المصطنع ليؤدى دوره مضموناً وواضحاً مع خيال المتفرج، ويقبل شكسبير هذا كمواضعات ويتم الخلق لديه فى إطار هذا ولكن مع إخضاعه فى النهاية للدراما كما صاغها ولإيقاع رؤياه ونسيجها، ورغم أن الشعر لديه فى أكثر من عمل ظل يحمل نفس السمة البلاغية إلا أنه أخضعه لتجربته الخاصة وجعله يتآزر مع باقى المقومات للتجسيد فى الوقت الذى يحظى بنفس المكانة التى يحظى بها فى المسرح الشعبى ويؤدى نفس المهمة للعرض.
 وإذ نشير إلى خضوع هذا لمشكلة المواضعات فعلينا أن ندرك أنها تنطوى على دلالة أساسية. ان جوانب الميلودراما والإطار التاريخى بشكله الروائى وتفاصيله التى نراها بمسرح شكسبير، انما تحمل دلالة على الواقع نفسه الذى يريد شكسبير أن يتجاوزه، وتشير إلى سطوته من جهة وشدة توتره التى ستتجلى من خلالها ثورية شكسبير من جهة أخرى، لقد كان التحام الميلودراما والإطار الروائى التاريخى بتفاصيله فى الرؤية التحاماً حقيقياً وصادقاً كما حققه شكسبير انما يعكس معنى جوهرياً مع حل مشكلة المواضعات، اذ هو دلالة صادقة فى ذاتها على جذب للخارج بخطورته الماثلة فى واقع عصره، وبمعنى عام إيماء إلى حركة متوازية بين الإنسان والواقع. ولذا فما سنلاحظه من مستويات متعددة كل منها يحيل إلى الآخر خلال بناء كثيف ومعقد انما نتج عن الجانبين معاً حل مشكلة المواضعات بتلك الصفقة مع المسرح الشعبى فى الوقت نفسه ما يمثله ذلك من احتضان أزمة الواقع غير المتوازن وغير المتسق بالنسبة لمطلب الإنسان ويمكن أن يتمثل ذلك فى مشكلة المواضعات بشكل مباشر، فليست الميلودراما اذن وليس الإطار القصصى بتشبعه وإلتوائه وفظاظته وغرابته فى أكثر الأحيان إلا وجهاً
- وهو يبدو مباشراً أحياناً -لعالم الضرورة والقوة كما طرحه عصر النهضة فى أحد جانبيه والذى أصبح الحركة الرئيسية تماماً فيما بعد...
>>>
 إن ما نجده فى الحقيقة هو عدم اتساق بالفعل بين التجربة البشرية العامة فى تراچيديات شكسبير وبين الرؤية التراچيدية كما يعرضها - وذلك قول حاسم فى أزمة الواقع. اننا كما سنلاحظ فى المثال الذى سنسوقه عن التجسيد الشكسبيرى والأزمة معاً، ان ثمة انفصالا فى التجربة الإنسانية بين وعى فردى وواقع إنسانى عام، بعكس ما نرى فى التجربة اليونانية حيث الرؤية متصلة جذرياً بالمجتمع والوضع فى مجمله، وحيث البطل مجرد بؤرة للرؤية، واختلافه عن الآخرين ليس فى جوهر ارتباطهم جميعاً. لدى شكسبير نلحظ للوهلة الأولى الانفصال بين شخص واحد هو البطل وبين الجميع، انه يتميز تميزاً شديداً عن الآخرين وتحدده شدة بالغة فى المعاناة تفترق به عن الباقين تماماً وبذلك يبدو البطل بمثابة عملية تجاوز للواقع من قبل شكسبير ولنا فيبدو هذا الافتراق هو المنطلق المبدئى نحو تحقيق تجربة الوعى التراچيدية وبدءا من هذا نجد أننا بإزاء تجربة تتسم بعنف شديد وتعقد شديد، فالإلتحام يتخذ ضراوة صدورا عن هذا التفاوت، وصدورا عنه أيضاً نلمس أن معركة الشر ليست كما تبدو فى التراچيديا اليونانية لقاء طبيعياً بتجربة الإنسان الحتمية فى مأساويتها - فى الإطار الجديد للتجربة الإنسانية-وتجاوزها، بل انه لقاء عنيف يحمل فى ذاته شيئاً من الغرابة، ثم ان التفاوت نفسه يؤكد عليه بطريقة عنيفة، فهو قد يبدأ ببطل أحمق أو شرير - عكس ذلك القدر من الجلال الذى يحيط أبطال التراچيديا اليونانية مبدئياً ودون
تطرف- ثم هو يمضى لينتزع لهم ما يميزهم عن الآخرين بصوت مسموع وحدة خلال تجسيد الرؤية، وفى حالة من الإدهاش لا نجد ما يماثلها فى التجربة اليونانية وبشكل عام نجد أن هذا التفاوت يؤدى إلى مواجهتنا بثورية بالغة، هى فى الحقيقة ثورية الرجل الذى يحس بشيء غير عادى حوله، بل يحس بالخطر.
 فالحقيقة الأوسع مما قلنا عن الصفقة بينه وبين المسرح الشعبى هى أن البدء لديه أساسه صفقة مع عصره نفسه فهو يحتضن واقعه المفتوح دون التعرض المباشر له - للسياسة وللفردية، بمعناها المتصل بحركة التاريخ الذى مهد للثورة البورجوازية وللرأسمالية وملامح سطوة الضرورة
بشكل عام - يحتضن واقعه هو ويتجاوزه تأثراً يشير خلال لجاج عظيم إلى وجه لإنسان مهدد بالغرق..وكان هذا كله مبعثاً لخصوبة بالغة لم تتيسّر للتجربة اليونانية لأنها ثمرة جديدة للخطر، وموقف ثائر ذو وعى هائل على أبواب عالم غامض مُريب...
 ونحن إذ نشير إلى مثال للتجسيد التراچيدى لدى شكسبير فنحن نود أن نستخلص بشكل تلقائى شيئين،أولهما التأكيد على الجوهر التراچيدى والافتراضات الأساسية التى طرحتها التجربة اليونانية وثانيهما تبين أزمة الواقع كما بدت أمام شكسبير تمهيداً لأن نراها كما تطورت وشكّلَت أزمة معلقة أمام الإنسان والتراچيديا ثم اننا إذ نستفيض فى هذه المحاولة فلأنها فى النهاية لها صلة بواقعنا من بعض الجوانب على نحو ما سنصل.
وإذ نختار هاملت هذا المثال، فهو أوضح تجسيدا لذلك فيما نعتقد، ثم هو أقرب إلى أزمتنا مع التراچيديا بشكل غريب ثم لنلاحظ أننا سنلتقى به فعلاً فى النهاية لدينا نحن فى واقعنا العربى الراهن، خارج أزمة التراچيديا المعاصرة فى أوروبا...

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة