ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: تحذيرات "السيسي" من قلب مواقع الجيش الرابع

ياسر رزق

الأحد، 21 يونيو 2020 - 07:49 م

مصر العفيَّة تحدثت عن نفسها حول التدخل المرتقب غرباً
وأطلقت الرسالة الأخيرة جنوباً.. وطلب إبراء الذمة أمام المجتمع الدولى

كان الطقس حاراً، وكان المشهد ملتهباً.
كان الرئيس السيسى هادئاً حاسماً، وكان حماس الناس صاخباً مزلزلاً.
رسائل تلغرافية قاطعة وجهها الرئيس السيسى للقاصى والدانى من موقع اصطفاف الفرقة 21 المدرعة، وضعت أموراً مفصلية فى نصابها، وأزالت غيوماً وبددت تساؤلات حول مواقف آن لها أن تستبين تحت رائعة شمس النهار..!
إنها مرحلة فارقة على حد تعبير الرئيس أمس الأول على طريق صون أمن مصر والأمن القومى العربى، مثلما كان يوم اصطفاف الفرقة التاسعة المدرعة منذ سبع سنوات مضت، مرحلة فارقة على طريق ثورة 30 يونيو، حينما أفصح السيسى بوضوح بأن الجيش رهن إرادة الشعب.
لحسن حظى أنى حضرت المشهدين، مشهد اصطفاف الفرقة 21 المدرعة أمس الأول أمام القائد الأعلى الرئيس السيسى فى سيدى برانى، حيث نطاق المنطقة الغربية العسكرية، أو الجيش الرابع المصرى، ومشهد تفتيش حرب الفرقة التاسعة المدرعة يوم 11 مايو 2013 أمام القائد العام الفريق أول السيسى فى دهشور، حيث نطاق المنطقة المركزية العسكرية، حامية أمن قلب مصر وحاضنة الاحتياطى الاستراتيجى للجيش المصرى.
< < <
على مسافة مائة كيلومتر تقريباً من حدود مصر الغربية مع ليبيا الشقيقة، اصطف رجال الجيش الرابع المصرى بقاعدة برانى العسكرية، ممثلين برجال الفرقة الحادية والعشرين المدرعة ذات اللواءين المدرعين واللواء المشاة الميكانيكى، ومعها عناصر الدعم وأبرزها وحدات قوات خاصة من الصاعقة والمظلات.
تفقد الرئيس السيسى القوات من عربة قيادة، فى إشارة واضحة للجميع، على جاهزية الجيش المصرى لتنفيذ أى مهام على الاتجاه الاستراتيجى الغربى.
أولى الرسائل التلغرافية التى أرسلها الرئيس، كانت أمام عناصر من القوات الخاصة وطيارى سلاح الجو المصرى رأس حربة الجيش المصرى، حينما توقف وخاطبهم داعيا إلى الاستعداد لتنفيذ أى مهام داخل الحدود أو خارجها، إذا لزم الأمر.
لعل السيسى كان يذكرهم بيمين الولاء عند التخرج من كلياتهم العسكرية، بالدفاع عن البلاد وحماية أمنها داخل وخارج الجمهورية.
ولعل قلوب الرجال كانت تهتف، مثلما كانت تود حناجرهم: جاهزون يا فندم.
كان الرئيس واضحا فى قوله بأن الجيش المصرى قوى، وكان متواضعاً فى تصنيفه له بأنه من أقوى جيوش المنطقة، ذلك أن الحقيقة أنه من أقوى جيوش العالم، وكان محقاً فى وصفه له بأنه جيش رشيد يحمى ولا يهدد، يصون ولا يعتدى.
< < <
أمام 6 آلاف مقاتل من رجال الجيش الرابع المصرى، مصطفين بجوار ما يزيد على 1100 مدرعة ومركبة ومعدة قتال ذاتية الحركة، أضاء الرئيس السيسى إشارة حمراء، ولعله أخرج البطاقة الحمراء، للغزاة والمرتزقة وميليشيات الإرهاب، من يريدون الاستيلاء على مقدرات الشعب الليبى وتفتيت وحدة أرضه وتهديد الأمن القومى المصرى، لاستعادة نفوذ مضى زمانه.
ولا شك أن العملاء الخانعين فى طرابلس والغزاة الواهمين الطامعين فى أنقرة وأتباعهم من المرتزقة وعناصر الميليشيات استمعوا بإنصات لتحذير الرئيس السيسى من أن تجاوز الخط الواصل بين سرت والجفرة، هو اختراق لخط أحمر، أى بوضوح هو إعلان حرب..!
مدينة سرت الليبية تقع على مسافة 900 كيلومتر من الحدود المصرية الليبية، وهى من أهم المواقع الاستراتيجية على الطريق إلى الحدود، وهى أيضا مفتاح الدخول إلى منطقة الهلال النفطى فى شرق ليبيا.
أما منطقة الجفرة جنوب سرت، فهى تضم قاعدة جوية بالغة الأهمية، ويشكل سقوطها فى أيدى الغزاة والعملاء والذيول، تهديداً صريحاً مباشراً للدولة المصرية وأمنها القومى، لن تسمح مصر بحدوثه تحت أى ظرف وبأى ثمن..!
ولقد أشرت فى مقالى هنا منذ ثمانية أيام، إلى ذلك الخط الأحمر، وقلت بالنص: «وأتصور أن هناك خطاً وهمياً مرسوماً، متماهياً مع خط طول معين فوق الخريطة الليبية، إذا تجاوزته الميليشيات العميلة الإرهابية وداعموها الأتراك، فسوف يكون ذلك هو الاشارة لدفن أطماع الأغا وأوهامه إزاء مصر ونظام الحكم فيها»..!
لم أكن أقرأ الطالع، وإنما أزعم أننى أطالع المقروء.
< < <
منذ زمن لم أسمع عبارة الأمن القومى العربى، لا فى مصر ولا على امتداد عواصم الأمة..!
ربما كانت تتردد كطرق عصا على أجوف الأشجار، فى سنوات ما قبل الربيع العربى، بالتحديد فى الأعوام التى تلت كارثة غزو الكويت، حينما انهارت فكرة الأمن العربى المشترك.
ثم توقف الحديث عنها تماماً، بعد عام 2011، عندما لم يعد هناك أمن قومى واهتز الأمن الوطنى فى داخل الدول، بل وسقط فى بعضها، وخرجت من قبور التاريخ أوهام إمبراطورية الفرس وتخاريف دولة آل عثمان، تعربد على امتداد الأرض العربية من قطر المحتلة ذات النظام العميل، إلى اليمن الذى بات تعيساً، إلى قلبى العروبة المكلومين وقطبى الأمة العراق وسوريا، إلى ليبيا المهددة بالانقسام إلى ثلاثة كيانات، وليست تونس الخضراء ببعيدة ما دام على رأس سلطتها التشريعية الإخوانى الغنوشى.
يوم أمس الأول، سمعت مجدداً عبارة أن أمن مصر القومى جزء لا يتجزأ من الأمن القومى العربى. وكان ذلك على لسان القائد السيسى حجر العثرة أمام أوهام العائدين من قبور التاريخ فى أنقرة وطهران، وأطماع آخرين فى هذه المنطقة تسقط بين أيديهم ثمار تطيب لهم، دونما أن يبذروا وأن يفلحوا وأن يحصدوا، فى سنين هذا العقد العربى العجاف..!
< < <
منذ شهور، تحدث الرئيس السيسى بأحد الأمثال غير الذائعة، لكنه صار فيما بعد كأنه مثل نحتته ذهنية الرئيس!
أعجب الناس أيما اعجاب بالمثل القائل: «العفى.. محدش ياكل لقمته».. أى أن القوى لا أحد يخطف قُوتَه أو طعامه.
مصر القوية التى استعيدت بعد ثورة 30 يونيو، وأعادت بناء دعائم قوتها فى جمهورية السيسى لا أحد يستطيع أن يعتدى على أراضيها أو مصالحها أو مقدرات شعبها.
ومصر العفية، التى تتمدد بقوتها الرشيدة الرادعة ذات التقاليد والقيم الراسخة، هى التى رأيناها تتحدث بلسان السيسى، تعلن عن المصير الواحد لشعبى مصر وليبيا والأمن الواحد للبلدين الشقيقين، وتؤكد أن أمن مصر القومى هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومى العربى.
لذا لم يكن غريباً أن نسمع من الرياض وأبوظبى والمنامة تلك الأصداء المرحبة لكلمات الرئيس، والتى تعيد إلى الأذهان عبارته الشهيرة: «مسافة السكة»، فى اشارته لاستعداد مصر للدفاع عن دول الخليج العربية الشقيقة والحليفة ضد أى عدوان، وتؤكد أنها ليست مجرد عبارة عاطفية، وإنما هى مقولة صادقة المبنى والمعنى..!
وربما قد ارتعدت من إحياء فكرة الأمن القومى العربى الواحد، فرائص من يعربدون فى تخوم وأراضى الدول العربية دون رادع.
< < <
منذ مساء أمس الأول.. اشتعلت المدن الليبية، بهجة إزاء الموقف المصرى، وتأييداً لعبارات القائد السيسى، إذ خرج أبناء الشعب وجماهير القبائل تدعو مصر إلى إنقاذ الوطن الليبى من مؤامرة التقسيم ولصوص الأوطان وناهبى ثروات الشعوب.
فلقد انصت الكل إلى انذار الرئيس من تجاوز خط «سرت- الجفرة»، وإلى تحذيره لمن يعتقد انه يستطيع بقوة السلاح أن يحقق أطماعه، وتشديده على أن هؤلاء لن يمروا شرقاً ولا غرباً.
واهتزت جنبات المدن الليبية لتأكيدات السيسى على أن أى تدخل مباشر من الدولة المصرية باتت تتوافر له الشرعية الدولية سواء فى إطار ميثاق الأمم المتحدة والحق الشرعى فى الدفاع عن النفس، أو بناء على طلب السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة فى ليبيا وهى مجلس النواب.
هذا التدخل المصرى حين يتم، ستكون له أهداف خمسة، تتلخص فى حماية وتأمين الحدود الغربية للدولة بعمقها الاستراتيجى غرباً من تهديدات الميليشيات الإرهابية والمرتزقة، وسرعة دعم استعادة الأمن والاستقرار على الساحة الليبية، وحقن دماء الأشقاء الليبيين شرقاً وغرباً، ومنع أى طرف من تجاوز الأوضاع الحالية، ووقف إطلاق النار فوراً، ثم إطلاق مفاوضات عملية التسوية السياسية الشاملة تحت رعاية الأمم المتحدة وفقا لمخرجات مؤتمر برلين وتطبيقاً لمبادرة إعلان القاهرة، وحين يتم التدخل المصرى سيكون فى مقدمته أبناء القبائل الليبية، وحين تنتهى أسبابه -كما قال الرئيس- ستخرج القوات المصرية فوراً، فمصر لم تكن أبداً غازية ولا طامعة ولا مصلحة لها إلا أمن واستقرار ليبيا.
ولعل تنبيهات الرئيس توقظ من يظنون أن حلم مصر تردد وأن صبرها ضعف، أو من يتصورون أن عدم تدخلها فى شئون الدول انعزال أو انكفاء على الذات.
وقد يكون تحرك الأسود البواسل، دفاعاً عن عرينهم وعرين الأمة، بشارة انتفاضة دماء فى العروق العربية من شمال الهلال الخصيب إلى الجنوب العربى فى يمن الحكمة.
< < <
ربما لا يحمل لنا التاريخ فى صفحاته، واقعة مماثلة لتلك الحال التى نعيشها، حين يتهدد الأمن المصرى من الاتجاهات الأربعة، فى الشمال الشرقى حيث بقايا ميليشيات الإرهاب وفلولها فى شمال سيناء، وفى الشمال حيث حقول الغاز المصرية فى البحر المتوسط التى ظن الأوغاد أنها لقمة سائغة وتلقوا صفعة وسط الأمواج، وفى الغرب حيث ليبيا الشقيقة والتهديدات التى ظلت تأتى عبر أراضيها من المرتزقة وميليشيات الإرهاب طيلة ٧ سنوات وعلى امتداد ١٢٠٠ كيلومتر هى طول الحدود المشتركة، وفى الجنوب حيث انطلى الزور على عُمى البصيرة، وظن حكامهم أن بمقدورهم تزوير التاريخ وتزييف الجغرافيا، ووضع سد ذى صنابير تمنع مياه النيل عن التدفق إلى مصر حين يشاءون..!
هل وصلت الرسالة إلى حكام إثيوبيا من موقع الجيش الرابع المصرى، على لسان السيسى، بأن جيش مصر جاهز للتدخل، وسيتدخل حتما إذا تجاوز الطامعون والمرتزقة خط الأمن المصرى الأحمر وهو خط «سرت- الجفرة»؟
ماذا إذن لو تجاوز حكام إثيوبيا خط الموت، إذا ملأوا السد، دونما توافق، وبإرادة منفردة أحادية افتئاتاً على حقوق الشعبين المصرى والسودانى، خرقاً لإعلان المبادئ الثلاثى الموقع منذ خمس سنوات مضت؟!.. أليس القائمون على أمور هذا البلد الإفريقى يقامرون بحاضر ومقدرات الشعب الإثيوبى وهم يحاولون دون وازع من مصلحة أو ضمير قطع شريان الحياة عن شعب مصر؟!
< < <
آخر الرسائل التلغرافية التى أرسلها السيسى من موقع الجيش الرابع الميدانى المصرى، كانت موجهة إلى الشعب الإثيوبى الصديق، وقال بوضوح مثلما قال لهم فى كلمته أمام البرلمان الإثيوبى منذ سنوات: «إننا نقدر حقكم فى التنمية، مثلما يجب أن تقدروا حق مصر فى الحياة، وفقا لمبدأ لا ضرر ولا ضرار».
ودعا الرئيس الحكومة الإثيوبية إلى التحرك بقوة من أجل إنهاء المفاوضات والوصول لاتفاق من أجل إبراز إمكاناتنا كدول عاقلة رشيدة فى التعامل مع أزماتها والتوصل لحل يحقق مصلحة الجميع.
ولاجدال أن الطلب المصرى الذى قدمته وزارة الخارجية لمجلس الأمن التابع للأم المتحدة لدعوته للانعقاد من أجل التدخل فى أزمة سد النهضة، هو فى رأيى إخلاء طرف من مسببات الأزمة أو بالأدق إبراء ذمة أمام المجتمع الدولى مما لابد أن يحدث لو استمر حكام إثيوبيا فى غيهم مدفوعين بصخب أوضاع سياسية داخلية عمياء، أو تحريض من خصوم وأعداء لا يبغون صالح مصر ولا الشعب الإثيوبى، وبدأوا فى ملء السد دونما اتفاق فى مطلع يوليو.
المشاورات المصرية بدأها وزير الخارجية سامح شكرى مع نظيره الفرنسى چان إيف لودريان، وتواصلت خلال الساعات الأخيرة بغية انعقاد مجلس الأمن لاتخاذ قرار يدعو الأطراف لاستمرار التفاوض وعدم اتخاذ إجراءات أحادية الجانب تضفى مزيداً من التوتر وتسكب الوقود على نيران تلتهب..!
لا تنقطع الجهود الدبلوماسية والسياسية لكافة مؤسسات الدولة، فالعمل دائم فى تناول القضية بكافة أوجهها والاتصالات مستمرة بالمجتمع الدولى للتنسيق إزاء استئناف المفاوضات بروح إيجابية بعيدا عن محاولات فرض الأمر الواقع والافتئات على الحقوق وقلب أبسط قواعد المنطق.
وليس سراً أن المكالمة الأخيرة بين الرئيس السيسى والرئيس الأمريكى دونالد ترامب تركزت فى معظمها على موضوع سد النهضة، وبدا منها استجابة الجانب الأمريكى وتفهمه واحترامه لمساعى مصر الرامية إلى التوصل لاتفاق، وفقا للوثيقة الأمريكية الجاهزة والعادلة والتى تقوم على مراعاة الحقوق والمصالح المشتركة وعلاقات الولايات المتحدة الوثيقة مع البلدين.
< < <
يخطئ من يظن أن رسالة السيسى من قلب مواقع الجيش الرابع كانت موجهة إلى الجبهة الغربية وحدها، مثلما يخطئ من يظن أن حلم مصر تردد وأن صبرها ضعف، ومثلما يخطئ أيضا من يظن أن المسافة عائق وأن غياب الاتصال الجغرافى المباشر مانع، يحولان دون حماية وتأمين مداد الحياة إلى البلد الذى جاء قبل أن يأتى التاريخ..!
وقد يأتى الرد -إذا ظل الرشد غائباً - من حيث لا اتجاه..!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة