د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

الرحمة بتقليل الاحتمالات

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 25 يونيو 2020 - 06:17 م

والحق سبحانه لم يقل ذلك، بل أمر بالتدبر والتدبير، وثبت عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أنتم أدرى بأمور دنياكم.

 من رحمة الله بنا
السبت :
من رحمة الله بنا أن ذكر لنا من الأشياء التى يتسع فيها الاحتمال ما يكون من الوضوح والبيان ما يجعل عقولنا فى منأى عن التوسع فى الاحتمالات، وهذا التوسع يسبب صداعا فى الرأس لا يعالجه طب الدنيا، ومن عاشه حقا انفجر عقله، وخرج من طبيعته، وربما ارتكب من الفواحش مالا يعلم به إلا الله خصوصا إذا توقف عقله عند احتمال يهزه، كالذى تتأخر عنه زوجته، فيتوقف عقله عند احتمال أنها كانت فى سرير رجل أجنبى، والذى يجعله يتوقف عند هذا الاحتمال قولها : ما لكشى دعوة، حين يسألها أين كنت، فيكون هذا جوابها المثير المرعب، وقد تحدث الكارثة المبنية على وهم، وهى منه بريئة، لكنها الغبية التى لم تصرح له بما كان سببا فى تأخيرها وببينة، تجعله لا يتوسع فى الاحتمالات، إنها كما أسميها ( كلكيعة ) أى حجر عثرة فى طريق التواصل والتراحم بين الناس، فإن كنت على ثقة أنك تريد دوام العلاقة بينك وبين أحد ممن تربطك بهم علاقة ما فاحرص على ألا يشت عقله، ولا تجد لذة فى تخبطه، وضرب رأسه فى حائط ليس من طوب وحجارة، وإنما مكوناته شك وريب، وظنون، وكلام كثير يعجن بعضه فى بعض، والمسألة أهون من ذلك بكثير، ألا ترى أن من رحمة الله بنا أنه بين لنا أقسامنا فى صنفين، لا فى ألف صنف، فقال :" إما شاكرا وإما كفورا " وقال فى مصيرنا : فريق فى الجنة وفريق فى السعير " لم يتركنا لألف احتمال، وغنما أتانا بالتعبير الجامع المانع الذى يحيطنا علما، بما نحن عليه، فى الدنيا، وما سوف نكون عليه فى الآخرة، وفى سورة أخرى يقول :" شقى وسعيد " وقد يكون التفصيل وهو أيضا قليل، كتفصيل أحوال المؤمنين بأنهم مغفور لهم، وأحوال الكافرين بأنهم فى جهنم خالدون فيها، وذكر لنا ربنا صنفا ثالثا، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ولم يترك لنا احتمالات متعددة، تجعلنا فى حيرة من أمرنا، ماذا يفعل الله بهم ؟ فكان الجواب المزيل لكل احتمال فى قوله سبحانه :" عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم " والتعبير بعسى الدالة على عمق الرجاء، وتذييل الآية بقوله تعالى :" إن الله غفور رحيم " يؤكد معنى الرجاء العميق الذى حملته ( عسى) فانقطع كل احتمال، وما أجمل أن تنقطع الاحتمالات المدمرة، وما أعظم أن تكثر الاحتمالات التى لا تحمل إلا الخير، بأن تظن فى الناس الخير لا الشر، وأن تلتمس لأخيك عذرا، وأن تبحث عن وجه فريد من أوجه الخير فى كلمة كما قال الشافعى رحمه الله : لو قال لى إنسان كلمة فيها ألف معنى للشر، ومعنى واحد للخير لحملتها على وجه الخير، وليس كل إنسان مثل الشافعى تحضره معانى الكلمة متزاحمة غير راحمة، فيها ألف معنى للشر، ومعنى واحد للخير، ويكون عنده الاستعداد النفسى لحملها على هذا الوجه الفريد النادر الذى يبدو غريبا لندرته، لكنه ليس غريبا على من وطن نفسه على احتمال الخير ؛ فما أكثر الذين لا يحملون معنى من المعانى على أى وجه من وجوه الخير، وكأنهم وطنوا أنفسهم على الشر، وما يؤدى إليه من احتمالات، فهم لا يبحثون عن ذلك المعنى الفريد الغريب الذى هو الخير، ومن ثم فهم يهلكون أنفسهم من حيث لا يشعرون، بل من حيث يشعرون أنهم نابهون، وأنهم الأذكياء الذين يفهمون الشريد من المعانى، وغيرهم أغبياء بليدون لا يصلون إلى شيء مما يصلون هم إليه، وهؤلاء كم أوقعوا أبرياء فى شر أعمالهم، وزجوا بأمثالهم فى متاهات، حيث صوروا لهم الشر الذى لم يتفكروا فيه، وأفهموهم أن من قال لهم كلمة فيها احتمال خير أنهم عن الشر غافلون، وأن هذا الاحتمال الخير من سلامتهم، ونقاء سريرتهم، فأفهموهم أن عليهم أن يبادورا الشر بمثله، ومن ثم خرج المثل القائل : اتغدى بيه قبل ما يتعشى بيك " أى عجل بالشر قبل أن يأتيك، وعجل بالفتك بأخيك قبل أن يفتك بك، فهو حتما سيتعشى بك، وينام على ملء بطنه من لحمك ودمك، فلا تعطه تلك الفرصة، وتناوله أنت على غدائك قبل أن يلتهمك أنت على عشائه، وغاب عن هؤلاء وهؤلاء قول الله ربنا :" فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين "، ومن رغب فى التبين كان عليه أن يضع احتمال الخير على مائدة التفكر، وألا يسلم نفسه وعقله ووجدانه للشر وحده، ومن ثم كان على الطرف الآخر أن يبين، فهذه الإبانة قاطعة لكثير من الاحتمالات التى لا تحمل فى طياتها الخير الواضح، ومن ثم كانت الاحتمالات، التى يكثر فيها الشر، ويقل فيها الخير، الذى لا يبحث عنه إلا مثل الإمام الشافعى رحمه الله، وقد جاء شاعر كبير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، وقال :
بلغنا السماء مجدنا وفخارنا
وإنا لنبغى فوق ذلك مظهرا
فما كان من النبى صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قال له سائلا:
إلى أين ؟
فأجابه بقوله :
إلى الجنة يا رسول الله
فقال عليه الصلاة والسلام : فنعم إذن
كان على النبى صلى الله عليه وسلم أن يسأل من يتطلع إلى ما فوق السماء التى بلغها هو وقومه مجدا وفخارا ؛ حتى لا ينصرف الذهن إلى تكفير الرجل، فلما أجابه بقوله : إلى الجنة ؛ بشره النبى صلى الله عليه و آله وسلم بها، وهكذا على المرء أن يسأل عن كلكيعة الاحتمالات حتى يبينها له من يخاطبه بالمبهمات التى لا يجد لها تفسيرا إلا فى السوء، فإذا فكت تلك الكلكيعة سقطت الاحتمالات الضارة، واستقام الفكر على سوية فيها مصلحة الجميع
هذه صفية
الأحد:
ونحن قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقف مع امرأة، وقد مر به الصحابة رضوان الله عليهم، وهم لا يعرفونها ؛ فاستوقفهم صلى الله عليه وآله وسلم، حتى رجعوا إليه ؛ فقال لهم : هذه صفية ؛ أى زوجته صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا : سبحان الله يا رسول الله، أى كيف تقول لنا ذلك، وهل يخطر ببال أحدنا أن يظن فيك السوء، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأنت صاحب الرسالة، والمبعوث رحمة للعالمين، تقف مع الرجل، وتقف مع المرأة، ومع كل إنسان أرسلك الله إليه ؛ فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم فى العروق، والشيطان هنا أى الوساوس، التى قطعها النبى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لهم : هذه صفية زوجتى، سقطت الاحتمالات التى لم تكن لترتفع، لأنه رسول الله، لكنه يعلم الأمة كيف يسقطون تلك الوساوس فيما بينهم، لأنهم ليسوا ملائكة، ولا أنبياء معصومين، ومن ثم تتطرق الوساوس، وتكثر الاحتمالات، من زوجة إن أتى بها احتمال، إلى صاحبة، وإلى عشيقة، وربما إلى رجل تنكر فى صورة امرأة، وغير ذلك، كل ذلك يسقط بقول الواقف معها لمن مر به : هذه فلانة، يسقط بجملة يسيرة احتمالات عاصفة مدمرة تجرى فيه مجرى الدم فى عروقه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أى أن تلك الوساوس لا تهدأ، والموضوع له أبعاد أخرى غير هذه النقطة، أو غير هذا الموقف اليسير، ومن أهم أبعاده حيرة من لا يعلم، ولذا ورد عن الفاروق عمر رضى الله عنه أنه كان يقول لمن يقول له : لا أدرى : لا دريت، لم يكن يرضيه أن يقول من يسأله عن طريق، أو عن شيء فى الطريق : لا أدرى، وقد علقت على هذا من قديم فى تعقيبى على القول الشائع : من قال لا أدرى فقد أفتى، وقلت : هذا مؤقت، حتى يدرى المفتى الذى أجاب مستفتيه بلا أدرى، لكن عليه أن يدرى، ويستدعى من استفتاه حتى يفتيه بما درى، ولم يكن حين سأله يدرى، أما أن يقول فى كل مرة : لا أدرى فهذا غير معهود فى أكابر العلماء، سأل رجل الشافعى عن الإجماع الذى هو من مصادر التشريع الإسلامى، أين هو فى كتاب الله، فلم يفته فى الحال، واعتكف على المصحف حتى وجده، وخرج فاستدعى الرجل الذى سأله، وقال له : إنه قول الله تعالى :" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " ففرح الرجل بذلك فرحا شديدا، ودعا له بخير، ورجع إلى ديار قومه ليزف لهم البشرى، ويخبرهم بعلم الرجل كما أخبر الإمام مالك الناس بالمدينة عن علم أبى حنيفة، بعد أن زاره، فقال لهم : جئتكم من عند رجل لو أراد أن يثبت لكم أن عمود المسجد هذا من ذهب لفعل، وتلك شهادة إمام فى إمام، ولا شك أن العلم من بعد الجهل يعين المرء على الوصول إلى الاحتمال الصحيح الذى ينجيه من وطأة الاحتمالات المهلكة ، ولا يخفى أن هناك صنفا من الناس لا يرهق نفسه فى تفكير، وإنما ينام ملء جفونه بعيدا عن التفكر فى أى احتمال، فهو من القائلين : من تفكر تعكر، أو من السادة القائلين بلسان الحق سبحانه وتعالى غير الحق، حيث قالوا : لا تدبر لك أمرا؛ فأولو التدبير هلكى، لا تدبر لك أمرا نحن أولى بك منكا !
والحق سبحانه لم يقل ذلك، بل أمر بالتدبر والتدبير، وثبت عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أنتم أدرى بأمور دنياكم.
من الرحمة المغيبة
الاثنين:
ولطالما عرف الناس الرحمة متمثلة فى عون المحتاج، وقضاء الدين عن المدين، وإنظار المعسرين، ومد يد العون لكل محتاج طعاما أو شرابا، أو أى شيء تقام عليه حياته، ونستطيع أن نقول : شاع معنى الرحمة فى الأمور المادية، ولكن من الرحمة المغيبة أن تقلل الاحتمالات عند من تخاطبه، فتحكى له صحيح مرادك، وتشرح له ما خفى عليه، وتقيد له المطلق، وهو من واقع اسمه مطلق كالريح المرسلة، كيف يفهمه، وعند أى احتمال يتوقف، ويفكر، ويتخذ ما شاء من تدابير، أو من مواقف، أو ربما نفعك أنت شخصيا حيث أوقفته على حقيقة أمرك، إنك بذلك لا تدعو إلى إلغاء عقله أو خموله كما يقول كبار العلماء فى سياقات : جاءت مطلقة إعمالا للذهن، فهذه نقرة، وتلك نقرة أخرى، فأنت حين تسوق أسلوبا يدعو إلى إعمال الفكر تكون بمثابة المربى الذى يستثمر عقل من يربيه لكى يصبح يوما ما ذا شأن، ولكن ثم ماذا بعد أن يصبح ذا شأن أتسلمه بعد ذلك إلى متاهات الاحتمالات، وأنت قادر على تقليلها إن لم تكن قادرا على تحديدها ابتداء، حتى ترى منه إنجازا لما ربيته عليه، فبدل أن يفكر فى غياهب الاحتمالات يفكر فى حل المشكلة التى بينتها له بما أوتى من مقتضيات العقل والعلم الذى تكون فيه، فإن كثيرا من مآسينا فى خسارة عقول أهل العقل منا أننا نرهق عقولهم فى غير المطلوب، فهم بدل أن يفكروا فى حل مآسينا نجعلهم يسبحون فى بحر بلا شاطيء، ويحاربون بغير جنود، ولا ميدان، وكم سمعنا من يقول : والله لا أعرف مراد فلان، ووالله لا أعرف إن كان فلان فى خير أم فى شر

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة