عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

العدوان الأيديولوجى فى زمن ما بعد كورونا

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 29 يونيو 2020 - 08:28 م

عبدالله البقالى

لم تكن الظروف الصعبة التى اجتازها العالم خلال الأربعة أشهر الماضية، ولازال منشغلا بتداعياتها، تسمح بالتفكير خارج دائرة مواجهة الوضع الجديد السائد الذى تسببت فيه أزمة طارئة، تكاد تكون غير مسبوقة فى تاريخ البشرية، والمتمثّلة فى انتشار فيروس كوفيد 19 المستجد، ذلك، وإن كان العالم قد عاش أزمات صحية خطيرة فى تاريخه الحديث، لكن الأزمة العالمية الطارئة هذه المرة نزلت على البشرية بتداعيات اقتصادية ونفسية واجتماعية وسياسية تجاوزت بكثير ما ترتب عن الأزمات العالمية السابقة، ولعل السرعة الفائقة لانتشار المعلومة فى الزمن الحديث يفسر جزءا مهما من التأثيرات الكبيرة التى طبعت الأزمة العالمية المستجدة.
لقد سارعت الغالبية الساحقة من دول العالم إلى إحكام إغلاق أبواب بيوتها على نفسها، وانعزلت بصفة غير مسبوقة عن بقية العالم، وانقطعت جميع أحبال التواصل بين البشرية، وواجهت منظومات قيم العالم المعاصر، التى اجتهد العلماء المختصون والخبراء فى إبراز مظاهر قوتها، انهيارا سريعا وشاملا، ولم تجد جميع حكومات العالم غير التعويل على قدراتها وإمكانياتها للتصدى للزحف الخطير والسريع للوباء، حيث عجزت الهياكل والبنيات الصحية فى الغالبية الساحقة من الدول، عن استيعاب الحاجيات الهائلة فى الطلب الطبى والنفسى، وعاد الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية بصفتها الحاضنة الوحيدة والأكثر جدية للانتظارات المعبر عنها فيما يتعلق بالحماية الصحية والاجتماعية.
الآن، وقد بدأت العاصفة تهدأ فى مختلف أصقاع المعمورة وإن كان القلق والخوف لايزالان يطرحان خوفا مما قد تحمله الأزمنة القريبة القادمة الآن، وقد انطلقت الحكومات فى البحث عن أسرع السبل للعودة التدريجية إلى الأوضاع شبه الطبيعية، فقد برزت انشغالات وهواجس جديدة خاصة بزمن ما بعد كورونا، وترتبط أساسا بمجالات الفكر والثقافة والتعليم والفن العلوم. من هذه القضايا التى ألقت بها جائحة كورونا كحجارة كبيرة فى بركة انشغالات الرأى العام العالمى غير الراكدة أصلا، ما يتعلق بالنموذج التنموى الجديد الذى بمقدوره أن يستجيب لمتطلبات زمن الأزمات الصحية الطارئة التى تطال تداعياتها، الاقتصاد والسياسة والحياة الفردية والجماعية على حد سواء. هذا ما قد يفسر، أو قد يبرر، ما كانت حكومة استراليا سباقة إلى الجهر به وبداية تفعيل سياسات عمومية تندرج فى هذا السياق. فلقد بادرت السلطة التنفيذية فى هذا القطر المترامى فى نهاية خريطة العالم بالإعلان عن خطط لإعادة النظر فى بنية التعليم ومناهجه، تستند إلى ربط بنى التعليم بالحاجات الجديدة التى أبانت عنها جائحة كورونا، وأعلنت فى هذا الصدد عن مضاعفة الرسوم المالية الجامعية لطلاب العلوم الإنسانية والآداب فى محاولة منها على إجبار الطلاب إلى اختيار اختصاصات دراسية أخرى تكون مفيدة أكثر، وقادرة على ضمان وجود وظائف فى مجالات علمية، مثل الرياضيات والعلوم. وبموجب هذا الاقتراح سترفع كلفة دراسة تخصصات مثل التاريخ أوالدراسات الثقافية بما يصل إلى 113 بالمائة، فى حين ستصبح تخصصات دراسية وتكوينية أخرى مثل التمريض وتكنولوجيا المعلومات أكثر إغراء للراغبين فيها من الطلاب، لأنها ستكون أقل كلفة. وبرر وزير التعليم فى الحكومة الأسترالية السيد دان تيهان ذلك بالقول « إن الحكومة تريد أن توجه الشباب نحو وظائف المستقبل لتعزيز الانتعاش الاقتصادى للبلاد بعد تداعيات جائحة كورونا».
و الأكيد أن مواجهة تداعيات جائحة كورونا بكل هذه الانفعالية الناتجة عن ضغوطات الأزمة، تطرح إشكاليات كبيرة على عالمنا المعاصر، وخصوصا ما يتعلق بقدرته على مواجهة هذه التداعيات، لكن بما يحفظ للحياة الإنسانية طبيعتها وخصوصيتها، ولأن التصرف مع هذه التداعيات باندفاع وانفعال يهدد بتجريد الفرد من إنسانيته، ويحوله إلى إنسان آلى يفقده الشعور بالفرح والحزن والسعادة، ويعدم فيه التفاعل مع الحياة بالفكر والإدراك والمعرفة والذوق. إن الانشغالات المستجدة بعد زمن كورونا تدفع الكثير من المسؤولين وصناع القرار والأوساط الاقتصادية اللاهثة وراء الاستثمار المالى لمأساة كورونا إلى شن «عدوان أيديولوجى» على الحياة الإنسانية، بحيث يتحقق الانتصار لأيديولوجية الليبرالية الموغلة فى التوحش، بل إنها «الحرب الثقافية المعاصرة» التى ستخوض الإنسانية غمارها فى زمن ما بعد كورونا. حرب ستكون وقودها القيم الإنسانية النبيلة، وحطبها الفكر الإنسانى والمعرفى.حرب تستخدم خلالها القوى الاقتصادية الانتهازية جميع أسلحة الدمار الشامل لمحو الفن والآداب والشعر والفلسفة وكل العلوم التى تبحث فى المجالات الإنسانية لفرض بدائل يكون هدفها الوحيد استثمار الإنسان، بصيغة الفرد لمراكمة الأرباح المالية والمصالح الاقتصادية البحثة، هدفها تعليب الإنسان ليقتصر دوره فى الحياة على الإنتاج الاقتصادى فى أسرع وقت بأقل تكلفة ممكنة.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة