يسرى الجندى
يسرى الجندى


يوميات الأخبار

محاولات عدمية للواقعية

يسري الجندي

الخميس، 02 يوليه 2020 - 06:43 م

 

رؤياه تنتهى كما نؤكد إلى الخواءوبدرجة من الانفعال الصادق النقى دون أدنى ضجيج أو طنطنة.

(تشيكوف - سترندبرج- بيكيت )
 تبدأ محاولة تشيكوف فى الخلق الفنى من الحركة الدائرية
المكثفة. وتحقيق ذلك يتم بدءاً من إلغاء الحدث والموضوع بالمفهوم التقليدى، حيث يبدو العمل، كتراكم دائرى أو تراكم فى اتصال دائرى يمضى بنا نحو بناء وجدانى حاد هو الرؤيا العدمية.  و(سترندبرج) يتخذ أسلوباً يشبه أسلوب الخلق فى الموسيقى الكلاسيكية، فهو يحدد منذ البداية مادة الرؤيا الأساسية -ناسجاً حولها وبنفس الحركة الدائرية ترديداً وجدانياً يزداد كثافة أو بمعنى آخر..يتخذ من البدايات مادة يتم تشكيلها خلال العمل بكامله وهو تشكيل يتجه نحو الامتلاء الكامل بأبعاد الرؤيا العدمية. ثم تأتى محاولة (بيكيت) لتنطلق أيضاً من نفس افتراض "ابسن" للرؤيا اللاتراچيدية، وليحقق ببنائه الذى توصّل إليه التقاءً خطيراً بأزمة المسرح تبعاً لفارق هام بينه وبين محاولات كل من (تشيكوف- وسترندبرج) ونلاحظ أن هناك محاولات أُخرى لدى غيرهم ولكنها امتداد لنفس المحاولة مثلما أن (بيكيت) امتداد لـ (تشيكوف وسترندبرج) ومثلما أنهم جميعاً امتداد للرؤيا اللاتراچيدية لدى "ابسن "مع اعتبار أن الفارق بينهم يلقى ضوءاً على الأزمة.
 تشيكوف يقوم بمحاولة تجسيد رؤياه بدءاً من العقبة التى دعمها ابسن، نعنى ذلك التواطؤ الذى تُمثله الواقعية وما يمتد منها فى إطار ما حدده ابسن عن المستوى النفسى والاجتماعى فى المسرح الواقعى، فتصفية المذهب الرومانسى جاءت على يد (( هبل ))بنظرياته التى ساعدت ابسن على تدعيم الاتجاه.. ثم نجد فى روسيا محاولة سبقت ابسن وشاركت أيضاً فى تدعيم هذا الاتجاه - تلبية لنفس حركة الواقع - وهى محاولة ( ستروفسكى - وتورچنيف ) التى أكدت أمام ابسن ارتباط هذا الاتجاه بالواقع واحتضان المسرح له. إذن وعلى نحو يُشبه تلك الصفقة بين شكسبير والمسرح الشعبى..تمت صفقة مشابهة بين تشيكوف ومواضعات الواقعية ليصل إلى تجربته الخاصة فى الوقت نفسه الذى تبدو فيه صلته الواضحة بهذه المواضعات.
>>>
 إن تشيكوف يتناول الواقع، بل إنه يتناول بوضوح حركة التاريخ فى أحد منعطفاتها الحادة.. وهو من جهة أُخرى يتناول موضوعات الحياة اليومية. وهما قُطبان فى مقومات الإحباط المحيطة بالمجتمع، فبالنسبة لحركة التاريخ يتمثل ذلك فى ولوجه إلى عالم تلك الطبقة المنهارة والذى يجسد بحس عميق تصدعاً روحياً هائلاً من خلالها.. تصدعاً محيقاً بجوهر الكيان الإنساني- متخطياً التصدّع الموضوعى الاجتماعى الذى يمثله انهيار تلك الطبقة البرجوازية على أنقاضها أو لنقل أنه يحيل من هذا الأساس الموضوعى إلى رؤياه الأشمل.
 - وبالطبع فى ذلك مايغري بالقول أنه يصور واقعاً منهاراً لطبقة ما، وذلك لأنه يجسد رؤياه من خلال إحباط الواقع ومقوماته فعلا كما يمكن أن نقول عن طبيعة الإحالة الممكنة بين الإحباط الموضوعى لطبقة وصلة ذلك بالإحباط الحقيقى للإنسان فهو إذ يتناول حركة التاريخ تبدو لنا متصلة بشكل ما بإحباط عام يحيط بالإنسان أمام حركة تفوق مطلبه الأصلى. وهى فى النهاية الرؤيا الساكنة التى لاتحدثنا عن واقع ينهار وآخر تلوح بشائره فذلك إنما يدخل ضمن موضوعات المسرح
الاجتماعى النفسى ومهمته.. إننا مع تشيكوف أمام رؤيا تعرض لنا اختناق الفاعلية، والتحديات الحقة التى عليها أن تتحرك بنا ولكنها تستحيل - مع تواطؤ محيق بها - إلى نغمة إخفاق كثيفة لايخفى التفاؤل الحزين الاستسلام العدمى وراءها.
 إننا إزاء ترديد متكرر لشخصيات ومواقف وأفعال وكلمات فى مسرحياته ككل وتلك اللغة ذات الإيقاع الفذ المستعصى على التحديد والتى تسهم فى الدخول بنا مع باقى المقومات إلى ذلك الضباب الذى ينسج الرؤيا ويخلصها فى الوقت نفسه من مخاطر الأصداء الاجتماعية والمستوى النفسى لعذابات شخصياته وهو ما نمضي خلاله نحو الانطباع الشامل لتلك الرؤيا الأسيانة التى لايزيدها التفاؤل الساحر الخادع الحزين إلا شحوباً.. رؤياه تنتهى كما نؤكد إلى الخواءوبدرجة من الانفعال الصادق النقى دون أدنى ضجيج أو طنطنة ولا جدال فى أن هذا الرجل أكثر من أى فنان نعرفه.
>>>
 تبدو عملية الخلق لديه صدى مباشراً حاراً لمعاناته الخالصة وما يؤكد ذلك فى البداية هو ذلك الشكل الغريب الذى حققه ثم ذلك الصدى الروحى المترامى الذى يتركه وهو فى النهاية صدى يفيض بالأسى والسكون والتعرض لأعماله هو مسألة لم تجد بعدْ من يتصدى لها دون أن تشبه محاولته تلك كما يقول أحد النقاد: تمزيق فقرة موسيقية فى صلب النصوص الموسيقية التي كتبها بتهوفن..ولذلك فقد كان الأقرب إلى الصدق دائماً بالنسبة لتشيكوف حتى الآن هو النقد الانطباعي.. وبشكل عام نجد أن مأساة أبطاله ليس مردها إلى حركة خارجية معاكسة تهزأ بهم.. وإنما مردها الحياة المعاصرة بكل بشائر العداء، وحركة التاريخ، وروسيا الجديدة ونفى الإرادة والحرية فى مدخل أيام مُريبة كحدس عام. وثمة دلالات اتخذت صورة مباشرة رغم ارتباطها الأكيد بالنسيج الرقيق لرؤياه وذلك حديثه عن الطبيعة التى تقهر والغابات التى تزول..ثم العلاقات التى تذبل وتشذ ثم العذاب العقيم بين الفرد والآخرين ثم الإحساس بالنفى، النفى داخل الذات، النفى داخل الريف الروسى، النفى داخل روسيا، النفى داخل العالم..ترديد يتّخذ شكلاً مباشراً ولكنه يصب فى البناء الرحب المترامى، ويذوب فى نغمة الواحد المتماسك فى رهافة، والذى يؤدى بنا إلى إحساس حقيقى بما يضمره عصرنا من عداء للإنسان.. وبالعراء.
>>>
ولكن سترندبرج يخوض الأزمة فى أوجها وهو لذلك ولطبيعته الخاصة يحاصر فى ذاتيته. وكان بذلك متناولا للأزمة من جانبها المواجه لتشيكوف. فتشيكوف تناول رؤياه من خلال حركة الواقع.. والآخر جسّد رؤياه من خلال الأزمة المزدوجة للتمرّد الفردى كما أشرنا إليها فى المقدمة، التأزم الفردى المزدوج الذى يعيش الاستغراق ويتمرّد عليه فى الوقت نفسه فالنظر إلى وضعه الخاص من البداية - وكما يَرِد عنه فى بحث (لاريك بنتلى) يبدو معه كيف أن رؤياه لابد أن تكوّن تجسيداً لهذا التأزم الفردى المزدوج الذى نشير إليه (لقد شبّ سترندبرج فى بيت مُتديّن، ولكنه ثار كغيره من أبناء عصره على الورع العائلى المعتاد تحت تأثير تعاليم دافيد استراوس وأرنست رينان، وانضم إلى جماعة الآخرين بمذهب الوضعية الذى أسسه ((أوجست كونت)) الفيلسوف الفرنسى الرياضى المادى.. وتقلب سترندبرج بعد ذلك فى أحضان شتى النزاعات الفكرية التى شاعت فى تلك الفترة من الزمن إن لم يكن قد تقلّب فيها جميعاً، ضمن حزب الشباب الحر المتطرف إلى التحرر السياسى، إلى عبادة البطولة إلى نزعة فاشستية تحتقر العامة من الناس إلى نزعة مُلِحّة للاشتغال بالبحوث العلمية البحتة، إلى الجنون إلى نزعة أدبية كاثوليكية على مذهب (هوسمان)وأخيراً إلى نزعة من النزعات المُتسامية المركبة التى تجمع بين العالم وبين الباحث عن أسرار الغيب تحت لواء (( سويدنبورج )).. لقد عاش ((سترندبرج)) فى ظل سائر وجوه التصالحية الحديثة وسائر وجوه الانهزامية الحديثة سواء كانت سياسية أو مُعارضة للسياسة وسواء كانت دينية أو غير دينية، وقد وضعنا أمام تأكيد لتناقض نشب فى أعماق هذا الفنان، وهو التناقض بين التمرّد على الواقع وفى الوقت نفسه الاستغراق فيه والتواطؤ معه بشكل حتمى، وذلك مايجمع لديه بين شبيه كيركيجارد وشبيه لماركس كل فى أقصى تطرفه، وما يجمع بين كل تلك النزعات المُتناقضة.. وعلى ذلك فإن مجموعة إنتاجه الضخم يتكشف جانب منها عن تواطؤ مع الواقع الحضارى بكل مقوماته المعادية.
>>>
- ومن أبرز جوانب التواطؤ لديه مؤازرته للنزعة الفاشية بشكل عنيف - وجانب آخر من أعماله يكشف عن التمرّد وأزمة القيم المطروحة كلية من الموقف حيث نحس لديه بالجزع الواضح فى تلمسها مع غضب الضياع والإحساس بالالتباس الشديد فى كل مايجرى حول الفرد. وهو إذ يعيش هذا التأزّم المزدوج على نحو يبدو فيه نموذجاً واضحاً له فإنه ينتهى مع تمزّقه إلى الحقيقة المؤكّدة عن عقم هذا التأزّم، وسقوط جانبى التواطؤ والتمرّد فى حركة الواقع المحتوم، ولذا يصل إلى نفس الرؤيا العدمية فى أعمال مُعيّنة ليست بالكثيرة، ويتركّز ذلك فى المرحلة التى يعرفونها (بمسرحيات الأحلام) ففيها هذا التجسيد لرؤيا محددة من البداية..متكاملة غير تراچيدية وفيها يحقق البناء على نحو ما أشرنا مادة الرؤيا المحددة من البداية، يتم تشكيلها خلال العمل بكامله فى حركة دائرية تحقق حالة من الإمتلاء بأبعاد الرؤيا كاملةً.
ومسرحية (سوناتا والأشباح) هى أبرز مثال فى مجموعة مسرحية الأحلام. إن مادة المسرحية الأولية هى حالة من الخيانة المتبادلة بين مجموعة أزواج وينسج الحلم الذى ابتدعه وكما يصف هو حيث الشخوص تنقسم وتتكاثر وتختفى وتتجمّد وتبهت وتتضح معالمها ولكن شعوراً واحداً يسيطر عليها جميعاً..شعور الحالم.  فالخيانة المتبادلة بين الجميع تتخذ فى النهاية صورة جُرم عام يشترك فيه الجميع ومن خلال أسلوب الحلم هذا تنتفى كما يقول هو التناقضات والقوانين ونوازع الضمير والإدانة والإعفاء، مؤكداً بهذا النسيج على السقوط الكامل، وانتفاء الحركة. والإجماع فى الجُرم على هذا النحو هو حالة تجمّد، وحالة تواطؤ على إلغاء المتناقضات والضمير والإدانة إن الأمر باختصار هو نفس التأكيد العدمى.
 وثمة صورة رئيسية فى هذه المسرحية وتتكرر دائماً فى مسرحيات الرؤيا لديه وفى غيرها.. صورة الدائن والمدين، وطبيعة العلاقة بينهما. إن هذه العلاقة تقوم على غير أساس..على وهم..وهى تؤدى إلى إشتراك كليهما فى الإثم والتسليم بذلك تقول إحدى الشخصيات في (سوناتا والأشباح) لهومل - الشخصية الرئيسية -: (أنت قتلت القنصل، خنقته بالديون، وهأنت الآن ماضِ فى سرقة التلميذ بإيهامك إياه أن لك ديناً على أبيه الذى لم يقترض منك ملّيماً فى حياته) وكما توضح المسرحية كان ذلك باعثاً للاندفاع فى إثم مشترك من كليهما و"هومل" هذا بدوره يكون الطرف المدين فى علاقة أخرى حيث تبدو أمامنا حلقة مغلقة مثلما أن التهم التى يوجهها كل منهم للآخر يتكشف لنا أنهم اقترفوها جميعاً.
و«للحديث بقية»

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة