ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

الأيدى غير المكتوفة..!

ياسر رزق

السبت، 18 يوليه 2020 - 07:18 م

مضى زمن استراتيجية القنفذ، الذى ينكمش محتضنا حبات الجوز ويتقلص نافراً أشواكه
هذا أوان التمطع لاستباق التهديدات، ووقت التمدد للدفاع عن المجال الحيوى للبلاد

منذ زمن بعيد، لم أسمع عبارة «لن نقف مكتوفى الأيدى». قبل ثلاثة أيام سمعتها بلسان الرئيس السيسى وهو يتحدث لشيوخ وعواقل القبائل الليبية هنا فى مصر.
كانت أيدينا مكتوفة بالتزامات السياسة، أو مقيدة باعتبارات السلاح.
فى أحيان، كانت قصيرة عنينة تعجز عن بلوغ ما تريد، هذا إن أرادت!
وفى أحيان أخرى، كانت الحناجر تقول، بينما كانت العيون كليلة، والأيادى مغلولة بالأصفاد.
ما كان السيسى لينطق هذه العبارة، إلا لو كان يعنيها، وما كان ليقولها إلا لو كانت أياديه (أيادينا) واصلة، وقبضتنا ضاربة.
مضى زمن استراتيجية القنفذ، الذى ينكمش محتضنا حبات الجوز ويتقلص نافراً أشواكه.
لا تليق هى بمصر ثورة يونيو، ولا بجيشها الجسور فضلا عن أنها لم تعد مجدية.
هذا أوان التمطع، لاستباق تحول أى تهديد للأمن المصرى والعربى والإقليمى إلى خطر حالٍّ ومحدق، وهذا أوان التمدد، للدفاع عن المجال الحيوى للبلاد وحدودها الجيوسياسية ومصالحها القومية وغايتها العليا.
منذ أربعة أعوام، سمعت الرئيس السيسى يقول: «أدبيات السياسة الخارجية المصرية فى العهود السابقة، ليست ملزمة لنا».
ترجمة تلك العبارة، هى استقلال القرار الوطنى، وهى القدرة على أن تقول بفم ملىء: «لن نقف مكتوفى الأيدى».
ما كان ممكنا أن نرسم خطوطاً حمراء، وأن نرعد بالتحذير، وأن نرسل رسائل السلام مع القوة، والدبلوماسية مع السلاح، لولا أننا نمتلك أقوى جيش فى هذا الإقليم وفى هذه القارة.
واقرأ شفتى الرئيس وهو يتحدث بثقة وفخر عن الجيش المصرى أمام شيوخ القبائل الليبية.
< < <
فى هذه الأجواء.. تختلط الأوراق وتصطخب الأصوات.
إذا قيل: ليبيا، قالوا: وأين إثيوبيا أليس منها يأتى التهديد الوجودى؟!
وإذا قيل: إثيوبيا، قالوا: وأين ليبيا، أليس منها الخطر الأكثر إلحاحاً والماثل على الأبواب؟!
إذا قيل لن نهمل ليبيا ولن نغفل عن إثيوبيا، أعطونا هم دروساً فى فن الحرب وتكتيكات القتال!
إذا قيل إنها الدبلوماسية، قالوا: وأين السلاح هل هو للتخزين؟!
وإذا قيل إنه السلاح، قالوا: ولماذا نغلق أبواب الدبلوماسية؟!
سيئو القصد والطوية، لن يرضوا عنك حتى لو اتبعت ملتهم الإخوانية..!
أما حسنو النية، فهم قلقون ومعهم حق، وهم شغوفون وعندهم مبرر.
لكن لا القلق ولا الشغف، عذر لنكون بأيدينا عونا لأعداء الوطن فى حربهم النفسية ضد الشعب.
من قبل أزمة الكورونا بسنوات اختفى جنرالات المقاهى من مقاعدهم، وأطل علينا جنرالات الفضاء الإلكترونى، يفتون فى الاستراتيجية والعسكرية، ويرسمون السياسات ويضعون الخطط، ويكادون يطالبون بقيادة تشكيلات القتال من على لوحة مفاتيح أجهزة الكمبيوتر، وكأنهم يلعبون واحدة من لعبات الحروب مع خصوم افتراضيين على الإنترنت..!
هذا الوقت بالذات أوان الكف عن هواية ممارسة حرف الآخرين والسطو على اختصاصاتهم بغير علم ولا دراية ولا وعى..!
هذا وقت التوحد واصطفاف الكتلة الوطنية ذات القلوب الفلولاذية خلف القائد الأعلى للجيوش المصرية الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى نثق فى إخلاصه ووطنيته الجياشة، مثلما نثق فى سداد رأيه وصحة رؤيته وصواب قراره وسلامة توقيته.
< < <
خلال السنوات السبع الماضية ومنذ انفجار ثورة الشعب فى ٣٠ يونيو، شاهدنا تراشقاً عنيفاً بين مجموعتين من العوام وبين مجموعتين من المفكرين، مجموعة هنا وهناك تتبنى فكرة المؤامرة على إطلاقها، وأخرى هنا وهناك تجهد نفسها فى نفى الفكرة وإلقاء كل نقيصة على معارضيها..!
إطلالة من أعلى فوق مسار الأحداث تكشف أن ثمة مؤامرة واضحة المعالم على مصر، لا يصح إنكارها، برغم أنه ليس من الحكمة ولا من المنطق تفسير كل حدث أو حادثة بأنه نتاج مؤامرة مرسومة سابقة التجهيز ومتفق على تنفيذ فصولها ومحددة لها شخوص الأبطال وأصحاب الأدوار الثانوية والدوبليرات.
لسنا مصابين إذن بهوس المؤامرة ولا بجنون الارتياب، إذا قلنا إن المهمة الرئيسية للقوى الدولية والإقليمية التى تسلطت وتسلقت على انتفاضات الشعوب العربية ضد الفساد والاستبداد فيما يعرف بالربيع العربى، كانت هى قنص مصر.
فمصر مثلما وصفها الرئيس الأمريكى الأسبق جورج دبليو بوش هى بشعبها ذى الكبرياء محرك الشرق الأوسط، إذا تحركت يساراً سار خلفها العالم العربى، وإذا تحولت يميناً انتقل وراءها العرب، إذا سالمت سالموا وإذا حاربت حاربوا.
- المراد وهو إعادة رسم خارطة المنطقة وحدودها وتقسيم بلدانها كقالب الكعك لن يتحقق إلا إذا ضربت مصر أو تقوقعت أو استكانت.
وإذا كانت مصر نجت من تلك المؤامرة، التى ارتضى الإخوان أن يكونوا أدوات تنفيذها، فإن ثورة ٣٠ يونيو بكل صراحة لم تقض على المؤامرة وإنما عطلت مخطط تنفيذها إلى حين.
يبدو أن هذا الحين قد آن أوانه بفتح جميع جبهات التهديد على مصر من  كل الاتجاهات وإطلاق المخاطر لتقرع أبواب مصر مما وراء الجنوب ومن الغرب مثلما ظلت تطرق باب الوادى من أرض شمال سيناء على مدار سبع سنوات، قبل أن يتم تحجيم الخطر واحتواء التهديد فى الاتجاه الشمالى الشرقى.
ربما تكون حصافة القيادة المصرية قد فوتت الفرصة على من يريدون قنص مصر وقصقصة أجنحة جيوشها، حينما أحجمت عن الخوض فى مستنقعات الحرب التى أريد لها أن تنقاد إليها فى سوريا واليمن وكذلك ليبيا قبل الغزو العثمانى.
لكن الواضح أن المشهد الراهن لصورة المخاطر التى تحدق بالمجال الحيوى لمصر ومصالحها الحيوية، أشبه بهجوم مضاد يستهدف تصفية نتائج ثورة ٣٠ يونيو المظفرة المتمثلة فى خنق فكرة سيادة جماعة الإخوان على أنظمة الحكم فى الإقليم، واستعادة الزخم لفكرة الدولة الوطنية وإحياء مبدأ الأمن القومى العربى الذى مات سريرياً منذ ٣٠ عاماً على أقل تقدير..!
يبدو لمن يدقق النظر بعض الشىء فى تواكب الغزو التركى للأراضى الليبية مع تعمد إثيوبيا إفشال المفاوضات الخاصة بملء وتشغيل سد النهضة، ويبدو لمن يمعن التفكر فى ترافق إشارات الاستفزاز الآتية من أنقرة وأديس أبابا، والتنسيق العلنى بين العاصمتين ضد مصر، أن ثمة خطة يجرى تنفيذ افتتاحيتها بأدوار يرسمها حامل العرائس ومحركها، للدمى ذات الخيوط، مع السماح فى بعض الأحيان بمشهد «صولو» لواحدة منها يستدر تصفيق أتباعها ومريديها..!
< < <
إطلاق التهديدات المباشرة من أعنتها فى توقيتات متزامنة ضد مصر، يرجح فكرة المؤامرة، ولعل هناك ما يدبر الآن على غزة، وفى شمال سيناء لتكتمل دائرة حلقة التهديدات.
وحتى بافتراض أن المصادفات السياسية أرجح من فكرة المؤامرة، فإن التقاء مرامى وأهداف القوى الإقليمية والدولية إزاء اضطرار مصر إلى ولوج ما ليس منه بد فى ليبيا وتجاه إثيوبيا من أعمال الحرب الدبلوقتالية، هو فى رأىى المتواضع نسج غير مقصود لخيوط مؤامرة متكاملة!
ودعونى أعرض منظورى لتلك المرامى والأهداف والمصالح إقليميا ودوليا:
ــ تركيا: أطلقت مبدأ العثمانية الإخوانية على لسان إردوغان وأعلنت قولاً بوضوح عزمها على التوسع على حساب جيرانها وغير جيرانها فى الشرق الأوسط وأوروبا، ثم عملاً باحتلالها أجزاء من العراق وسوريا وغرب ليبيا بما فيها العاصمة.
ولا تخفى تركيا رغبتها فى إسقاط النظام المصرى منذ نجاح ثورة ٣٠ يونيو فى إقصاء الإخوان عن الحكم، لأنها ترى فيه حجر عثرة أمام بسط نفوذها بالسياسة والسلاح فى الهلال العربى الخصيب وشمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط.
يلجأ النظام التركى إلى سياسة حافة الهاوية، متوهما أن مصر سوف تتراجع من على شفا حفرة الحرب. ومن ثم سوف تهتز -فى ظن إردوغان- ثقة المصريين بقيادتهم وتنتعش أوهام أتباع جماعة الإخوان مجدداً وتدخل مصر فى دوامة اضطرابات، فينتكس مشروعها الوطنى النهضوى، وتنشط ميليشيات الإرهاب فى شمال سيناء وتتدفق من الحدود الغربية.
وأحسب أن حماقة المتسلط التركى إردوغان ورعونته، سوف تعميانه عن أن «نصيبين» جديدة تنتظر قواته على أرض أحرار ليبيا، ومن بعدها سيتصدع بنيان الوهم العثمانى، لتتكالب عليه القوى والجيران.
ــ إيران: ينظر الملالى فى قم إلى مصر على أنها العقبة الكئود أمام إحياء إمبراطورية فارس الشيعية الصفوية، وبسط سيطرة طهران على دول الخليج العربية غير المستسلمة لإرادتها أمام نزعتهم التى لا تخفى لملء الفراغ الاستراتيجى من حدود إيران الغربية إلى ساحل شرق المتوسط وحتى الحدود اللبنانية الإسرائيلية وتحويل الهلال الخصيب إلى هلال شيعى، وترويض المملكة العربية السعودية وصولا إلى السيطرة على مضيق باب المندب من خلال وجودها المباشر راعية لجماعة الحوثى فى اليمن.
ومن ثم فإن انشغال مصر فى معركة سياسية/ عسكرية على جبهتين من شأنه أن يخرج أوهام فارس الجديدة من نطاق السراب إلى حيز الممكن..!
ــ قطر: أتفه من أن أبدد عليها قطرة أو قطرات من مداد قلمى وحبر المطبعة..!
ــ إسرائيل: تعيش الدولة العبرية على مدار 10 سنوات مضت، أروع أيامها منذ انقسام مملكتى يهوذا وإسرائيل.
فأعداؤها العرب يقتل بعضهم بعضاً، وخصومها -أو هكذا يقولون- الذين يدينون بالإسلام يعملون القتل والتخريب فى البلدان العربية حرباً وتآمراً، لكن لسوء حظها فإن عدوها الأكبر فى الماضى والحاضر والمستقبل الذى تحشد له قوتها الضاربة على حدوده وهو مصر، استطاع أن ينجو من فخ الربيع العربى بأقل جراح ممكنة، واستطاع أن يبنى قواته المسلحة لتتفوق مرات عديدة على ما كانت عليه إبان حرب أكتوبر.
لذا تتوق إسرائيل إلى انشغال مصر بمعركة غير مباشرة أو مباشرة مع تركيا تستنزف مواردها ولعلها تستنزف قوتها العسكرية وتركيزها الدبلوماسى، عساها تنفذ مخططها لأسرلة الضفة الغربية بكاملها فى غمرة انصراف الذهنية السياسية والعسكرية المصرية نحو جبهات أخرى.
أما سد النهضة.. فإن بصمات إسرائيل عليه لا تخفى كفكرة وتصميم وتشييد واستخدام يراد منه وضع محبس على شريان حياة المصريين يغلق ويفتح بوحى من إسرائيل.
ــ إثيوبيا: تحكمها عقد التاريخ وأحقاد الدونية وأوهام إعادة إحياء إمبراطورية «منليك الأول» ذات أواصر المصاهرة والنسب مع سليمان ملك إسرائيل..!
يسارع النظام الإثيوبى فى مساعيه لملء وتشغيل سد النهضة، دونما اتفاق يعقده، مستظلاً بحماية من قوى إقليمية تحرضه وجهات داخل قوى كبرى تعضده، ومثيراً لنعرات عنصرية يجب ألا تصدر عن مستضيف مقر الاتحاد الإفريقى (الذى وضعت بذرته مصر).
يخرق النظام الإثيوبى تعهداته فى إعلان المبادئ ويحنث حاكم إثيوبيا بقسمه، فى تصرفات لا يقترفها شرفاء.
ولعل النظام الإثيوبى يدرك قبل فوات الأوان، انه إذا استمرأ التعنت وتعمد الإضرار بمصر، فلن ينعم بتنمية ولا أمن ولا أمان ولا وحدة أرض..!
ــ الولايات المتحدة: ظنى أن مراكز الحكم الأمريكية خارج المكتب البيضاوى ترغب فى أن تنال أظافر مصر من وجه إردوغان فينكمش ريشه الطاووسى وأن تنال أسنان تركيا من ذراع مصر فلا تطول أكثر مما ينبغى.
وظنى أن رخاوة القبضة الأمريكية على عنق إثيوبيا، مرجعها ضيق المؤسسة الصناعية العسكرية الأمريكية من صفقات السلاح غير الأمريكية التى حصلت وتحصل عليها مصر ومن موقف القيادة المصرية «غير المتعاون» فى ملف ضم إسرائيل لأراضى الضفة الغربية وتمسكها بالحقوق الفلسطينية المشروعة وعلى رأسها إقامة الدولة المستقلة.
ــ روسيا: أمهر لاعبى الترابيز على الساحة الدولية. فهى مع تركيا باعتبارها المتحكمة فى المضايق المؤدية من البحر الأسود إلى البحر المتوسط، وبوصفها صاحبة التأثير التاريخى والمعنوى على معظم دول آسيا الوسطى أو ما يعرف بالعالم التركى وهو الحديقة الخلفية للإمبراطورية الروسية، وأيضا أملا فى أن تكون تركيا إردوغان شوكة فى خاصرة التحالف الغربى، مثلما جعل الغرب من أوكرانيا شوكة فى خاصرة روسيا.
هى أيضا مع مصر بوصفها حائط الصد الرئيسى ضد التطرف ونمو السرطان الإخوانى فى قصور الحكم ومراكز السلطة بالعالم الإسلامى، وهى مع مصر كحليف سياسى وداعم طبيعى للجيش السورى والدولة الوطنية العربية فى ليبيا، وأيضا كمشترٍ رئيسى للسلاح الروسى.
تجيد روسيا اللعب على كل الأحبال فى كل العصور وتستفيد من كل الأطراف..!
ــ الاتحاد الأوروبى: لا توجد سياسة خارجية أوروبية موحدة، اللهم إلا عبارات دبلوماسية لا تبارح أوراق البيانات الرسمية، فكل دولة من القوى الأوروبية الكبرى لها مصالحها الخاصة، ويبدو أن أزمة كورونا وتبعاتها وصراعات شركات النفط قد أدخلت الاتحاد الأوروبى إلى حالة الموت السريرى مثله مثل حلف الأطلنطى -على حد وصف الرئيس الفرنسى ماكرون.
ــ الدول العربية: بعض النظم العربية ينظر تجاه إيران كرها أو انتظارا للأوامر، وبعضها ينظر تجاه المرشد الدولى للإخوان فى أنقرة ركوعاً وخنوعاً.
بعضها يتمنى ألا تنهض مصر، وبعضها يتمنى ألا تفشل مصر.
وأخشى أن أقول إن معظمها لا يمانع فى أن تعود مصر لعصر الترنح وأيام التشرنق.
غير أنى أستطيع الزعم بأن الغالبية الكاسحة للشعوب العربية تنظر هذه الأيام إلى مصر بحنين وأمل ورجاء.
< < <
أيدى مصر لم تعد مكتوفة، وذراعها صارت طولى وضربتها أصبحت قاضية.
صورة المشهد الإقليمى والدولى وتشابكات المصالح وتعقيداتها واضحة أمام ناظرى قائد البلاد.
خريطة الصراع بكل خطوطها وسيناريوهاته حاضرة فى ذهن القائد الأعلى للجيوش المصرية وقادة قواتنا المسلحة.
هذا وقت عسير ربما لم يعشه أحد من الأجيال المعاصرة.
لكنه أوان الشجعان الأحرار الأقوياء.
إذا كنا نريد مصر الشامخة الأبية العظمى، فلابد أن نتهيأ لما ليس منه بد ولا مفر من تضحيات بالعرق والدم والدموع..!

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة