ياسر رزق
ياسر رزق


ورقة وقلم

ياسر رزق يكتب: الأيدي غير المكتوفة..!

ياسر رزق

السبت، 18 يوليه 2020 - 07:23 م

«مضى زمن إستراتيجية القنفذ، الذي ينكمش محتضنا حبات الجوز ويتقلص نافراً أشواكه

هذا أوان التمطع لاستباق التهديدات، ووقت التمدد للدفاع عن المجال الحيوي للبلاد»

منذ زمن بعيد، لم أسمع عبارة «لن نقف مكتوفي الأيدي». قبل ثلاثة أيام سمعتها بلسان الرئيس السيسي وهو يتحدث لشيوخ وعواقل القبائل الليبية هنا في مصر.

كانت أيدينا مكتوفة بالتزامات السياسة، أو مقيدة باعتبارات السلاح.

في أحيان، كانت قصيرة عنينة تعجز عن بلوغ ما تريد، هذا إن أرادت!

وفى أحيان أخرى، كانت الحناجر تقول، بينما كانت العيون كليلة، والأيادي مغلولة بالأصفاد.

ما كان السيسي لينطق هذه العبارة، إلا لو كان يعنيها، وما كان ليقولها إلا لو كانت أياديه (أيادينا) واصلة، وقبضتنا ضاربة.

مضى زمن إستراتيجية القنفذ، الذي ينكمش محتضنا حبات الجوز ويتقلص نافراً أشواكه.

لا تليق هى بمصر ثورة يونيو، ولا بجيشها الجسور فضلا عن أنها لم تعد مجدية.

هذا أوان التمطع، لاستباق تحول أي تهديد للأمن المصري والعربي والإقليمي إلى خطر حالٍّ ومحدق، وهذا أوان التمدد، للدفاع عن المجال الحيوي للبلاد وحدودها الجيوسياسية ومصالحها القومية وغايتها العليا.

منذ أربعة أعوام، سمعت الرئيس السيسي يقول: «أدبيات السياسة الخارجية المصرية في العهود السابقة، ليست ملزمة لنا».

ترجمة تلك العبارة، هى استقلال القرار الوطني، وهى القدرة على أن تقول بفم مليء: «لن نقف مكتوفي الأيدي».

ما كان ممكنا أن نرسم خطوطاً حمراء، وأن نرعد بالتحذير، وأن نرسل رسائل السلام مع القوة، والدبلوماسية مع السلاح، لولا أننا نمتلك أقوى جيش في هذا الإقليم وفى هذه القارة.

واقرأ شفتي الرئيس وهو يتحدث بثقة وفخر عن الجيش المصري أمام شيوخ القبائل الليبية.

< < <

في هذه الأجواء.. تختلط الأوراق وتصطخب الأصوات.

إذا قيل: ليبيا، قالوا: وأين إثيوبيا أليس منها يأتي التهديد الوجودي؟!

وإذا قيل: إثيوبيا، قالوا: وأين ليبيا، أليس منها الخطر الأكثر إلحاحاً والماثل على الأبواب؟!

إذا قيل لن نهمل ليبيا ولن نغفل عن إثيوبيا، أعطونا هم دروساً في فن الحرب وتكتيكات القتال!

إذا قيل إنها الدبلوماسية، قالوا: وأين السلاح هل هو للتخزين؟!

وإذا قيل إنه السلاح، قالوا: ولماذا نغلق أبواب الدبلوماسية؟!

سيئو القصد والطوية، لن يرضوا عنك حتى لو اتبعت ملتهم الإخوانية..!

أما حسنو النية، فهم قلقون ومعهم حق، وهم شغوفون وعندهم مبرر.

لكن لا القلق ولا الشغف، عذر لنكون بأيدينا عونا لأعداء الوطن في حربهم النفسية ضد الشعب.

من قبل أزمة الكورونا بسنوات اختفى جنرالات المقاهي من مقاعدهم، وأطل علينا جنرالات الفضاء الإلكتروني، يفتون في الاستراتيجية والعسكرية، ويرسمون السياسات ويضعون الخطط، ويكادون يطالبون بقيادة تشكيلات القتال من على لوحة مفاتيح أجهزة الكمبيوتر، وكأنهم يلعبون واحدة من لعبات الحروب مع خصوم افتراضيين على الإنترنت..!

هذا الوقت بالذات أوان الكف عن هواية ممارسة حرف الآخرين والسطو على اختصاصاتهم بغير علم ولا دراية ولا وعي..!

هذا وقت التوحد واصطفاف الكتلة الوطنية ذات القلوب الفولاذية خلف القائد الأعلى للجيوش المصرية الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي نثق في إخلاصه ووطنيته الجياشة، مثلما نثق في سداد رأيه وصحة رؤيته وصواب قراره وسلامة توقيته.

< < <

خلال السنوات السبع الماضية ومنذ انفجار ثورة الشعب في ٣٠ يونيو، شاهدنا تراشقاً عنيفاً بين مجموعتين من العوام وبين مجموعتين من المفكرين، مجموعة هنا وهناك تتبنى فكرة المؤامرة على إطلاقها، وأخرى هنا وهناك تجهد نفسها في نفى الفكرة وإلقاء كل نقيصة على معارضيها..!

إطلالة من أعلى فوق مسار الأحداث تكشف أن ثمة مؤامرة واضحة المعالم على مصر، لا يصح إنكارها، برغم أنه ليس من الحكمة ولا من المنطق تفسير كل حدث أو حادثة بأنه نتاج مؤامرة مرسومة سابقة التجهيز ومتفق على تنفيذ فصولها ومحددة لها شخوص الأبطال وأصحاب الأدوار الثانوية والدوبليرات.

لسنا مصابين إذن بهوس المؤامرة ولا بجنون الارتياب، إذا قلنا إن المهمة الرئيسية للقوى الدولية والإقليمية التي تسلطت وتسلقت على انتفاضات الشعوب العربية ضد الفساد والاستبداد فيما يعرف بالربيع العربي، كانت هى قنص مصر.

فمصر مثلما وصفها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش هى بشعبها ذي الكبرياء محرك الشرق الأوسط، إذا تحركت يساراً سار خلفها العالم العربي، وإذا تحولت يميناً انتقل وراءها العرب، إذا سالمت سالموا وإذا حاربت حاربوا.

- المراد وهو إعادة رسم خارطة المنطقة وحدودها وتقسيم بلدانها كقالب الكعك لن يتحقق إلا إذا ضربت مصر أو تقوقعت أو استكانت.

وإذا كانت مصر نجت من تلك المؤامرة، التي ارتضى الإخوان أن يكونوا أدوات تنفيذها، فإن ثورة ٣٠ يونيو بكل صراحة لم تقض على المؤامرة وإنما عطلت مخطط تنفيذها إلى حين.

يبدو أن هذا الحين قد آن أوانه بفتح جميع جبهات التهديد على مصر من  كل الاتجاهات وإطلاق المخاطر لتقرع أبواب مصر مما وراء الجنوب ومن الغرب مثلما ظلت تطرق باب الوادي من أرض شمال سيناء على مدار سبع سنوات، قبل أن يتم تحجيم الخطر واحتواء التهديد في الاتجاه الشمالي الشرقي.

ربما تكون حصافة القيادة المصرية قد فوتت الفرصة على من يريدون قنص مصر وقصقصة أجنحة جيوشها، حينما أحجمت عن الخوض في مستنقعات الحرب التي أريد لها أن تنقاد إليها في سوريا واليمن وكذلك ليبيا قبل الغزو العثماني.

لكن الواضح أن المشهد الراهن لصورة المخاطر التي تحدق بالمجال الحيوي لمصر ومصالحها الحيوية، أشبه بهجوم مضاد يستهدف تصفية نتائج ثورة ٣٠ يونيو المظفرة المتمثلة في خنق فكرة سيادة جماعة الإخوان على أنظمة الحكم في الإقليم، واستعادة الزخم لفكرة الدولة الوطنية وإحياء مبدأ الأمن القومي العربي الذي مات سريرياً منذ ٣٠ عاماً على أقل تقدير..!

يبدو لمن يدقق النظر بعض الشيء في تواكب الغزو التركي للأراضي الليبية مع تعمد إثيوبيا إفشال المفاوضات الخاصة بملء وتشغيل سد النهضة، ويبدو لمن يمعن التفكر في ترافق إشارات الاستفزاز الآتية من أنقرة وأديس أبابا، والتنسيق العلني بين العاصمتين ضد مصر، أن ثمة خطة يجرى تنفيذ افتتاحيتها بأدوار يرسمها حامل العرائس ومحركها، للدمى ذات الخيوط، مع السماح في بعض الأحيان بمشهد «صولو» لواحدة منها يستدر تصفيق أتباعها ومريديها..!

< < <

إطلاق التهديدات المباشرة من أعنتها في توقيتات متزامنة ضد مصر، يرجح فكرة المؤامرة، ولعل هناك ما يدبر الآن على غزة، وفى شمال سيناء لتكتمل دائرة حلقة التهديدات.

وحتى بافتراض أن المصادفات السياسية أرجح من فكرة المؤامرة، فإن التقاء مرامي وأهداف القوى الإقليمية والدولية إزاء اضطرار مصر إلى ولوج ما ليس منه بد في ليبيا وتجاه إثيوبيا من أعمال الحرب الدبلوقتالية، هو في رأيي المتواضع نسج غير مقصود لخيوط مؤامرة متكاملة!

ودعوني أعرض منظوري لتلك المرامي والأهداف والمصالح إقليميا ودوليا:

ــ تركيا: أطلقت مبدأ العثمانية الإخوانية على لسان إردوغان وأعلنت قولاً بوضوح عزمها على التوسع على حساب جيرانها وغير جيرانها في الشرق الأوسط وأوروبا، ثم عملاً باحتلالها أجزاء من العراق وسوريا وغرب ليبيا بما فيها العاصمة.

ولا تخفي تركيا رغبتها في إسقاط النظام المصري منذ نجاح ثورة ٣٠ يونيو في إقصاء الإخوان عن الحكم، لأنها ترى فيه حجر عثرة أمام بسط نفوذها بالسياسة والسلاح في الهلال العربي الخصيب وشمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط.

يلجأ النظام التركي إلى سياسة حافة الهاوية، متوهما أن مصر سوف تتراجع من على شفا حفرة الحرب. ومن ثم سوف تهتز - في ظن إردوغان- ثقة المصريين بقيادتهم وتنتعش أوهام أتباع جماعة الإخوان مجدداً وتدخل مصر في دوامة اضطرابات، فينتكس مشروعها الوطني النهضوي، وتنشط ميليشيات الإرهاب في شمال سيناء وتتدفق من الحدود الغربية.

وأحسب أن حماقة المتسلط التركي إردوغان ورعونته، سوف تعميانه عن أن «نصيبين» جديدة تنتظر قواته على أرض أحرار ليبيا، ومن بعدها سيتصدع بنيان الوهم العثماني، لتتكالب عليه القوى والجيران.

ــ إيران: ينظر الملالي في قم إلى مصر على أنها العقبة الكئود أمام إحياء إمبراطورية فارس الشيعية الصفوية، وبسط سيطرة طهران على دول الخليج العربية غير المستسلمة لإرادتها أمام نزعتهم التي لا تخفى لملء الفراغ الاستراتيجي من حدود إيران الغربية إلى ساحل شرق المتوسط وحتى الحدود اللبنانية الإسرائيلية وتحويل الهلال الخصيب إلى هلال شيعي، وترويض المملكة العربية السعودية وصولا إلى السيطرة على مضيق باب المندب من خلال وجودها المباشر راعية لجماعة الحوثي في اليمن.

ومن ثم فإن انشغال مصر في معركة سياسية/ عسكرية على جبهتين من شأنه أن يخرج أوهام فارس الجديدة من نطاق السراب إلى حيز الممكن..!

ــ قطر: أتفه من أن أبدد عليها قطرة أو قطرات من مداد قلمي وحبر المطبعة..!

ــ إسرائيل: تعيش الدولة العبرية على مدار 10 سنوات مضت، أروع أيامها منذ انقسام مملكتي يهوذا وإسرائيل.

فأعداؤها العرب يقتل بعضهم بعضاً، وخصومها -أو هكذا يقولون- الذين يدينون بالإسلام يعملون القتل والتخريب في البلدان العربية حرباً وتآمراً، لكن لسوء حظها فإن عدوها الأكبر في الماضي والحاضر والمستقبل الذي تحشد له قوتها الضاربة على حدوده وهو مصر، استطاع أن ينجو من فخ الربيع العربي بأقل جراح ممكنة، واستطاع أن يبني قواته المسلحة لتتفوق مرات عديدة على ما كانت عليه إبان حرب أكتوبر.

لذا تتوق إسرائيل إلى انشغال مصر بمعركة غير مباشرة أو مباشرة مع تركيا تستنزف مواردها ولعلها تستنزف قوتها العسكرية وتركيزها الدبلوماسي، عساها تنفذ مخططها لأسرلة الضفة الغربية بكاملها في غمرة انصراف الذهنية السياسية والعسكرية المصرية نحو جبهات أخرى.

أما سد النهضة.. فإن بصمات إسرائيل عليه لا تخفى كفكرة وتصميم وتشييد واستخدام يراد منه وضع محبس على شريان حياة المصريين يغلق ويفتح بوحي من إسرائيل.

ــ إثيوبيا: تحكمها عقد التاريخ وأحقاد الدونية وأوهام إعادة إحياء إمبراطورية «منليك الأول» ذات أواصر المصاهرة والنسب مع سليمان ملك إسرائيل..!

يسارع النظام الإثيوبي في مساعيه لملء وتشغيل سد النهضة، دونما اتفاق يعقده، مستظلاً بحماية من قوى إقليمية تحرضه وجهات داخل قوى كبرى تعضده، ومثيراً لنعرات عنصرية يجب ألا تصدر عن مستضيف مقر الاتحاد الإفريقي (الذي وضعت بذرته مصر).
يخرق النظام الإثيوبي تعهداته في إعلان المبادئ ويحنث حاكم إثيوبيا بقسمه، في تصرفات لا يقترفها شرفاء.

ولعل النظام الإثيوبي يدرك قبل فوات الأوان، انه إذا استمرأ التعنت وتعمد الإضرار بمصر، فلن ينعم بتنمية ولا أمن ولا أمان ولا وحدة أرض..!

ــ الولايات المتحدة: ظني أن مراكز الحكم الأمريكية خارج المكتب البيضاوي ترغب في أن تنال أظافر مصر من وجه إردوغان فينكمش ريشه الطاووسي وأن تنال أسنان تركيا من ذراع مصر فلا تطول أكثر مما ينبغي. 

وظني أن رخاوة القبضة الأمريكية على عنق إثيوبيا، مرجعها ضيق المؤسسة الصناعية العسكرية الأمريكية من صفقات السلاح غير الأمريكية التي حصلت وتحصل عليها مصر ومن موقف القيادة المصرية «غير المتعاون» في ملف ضم إسرائيل لأراضى الضفة الغربية وتمسكها بالحقوق الفلسطينية المشروعة وعلى رأسها إقامة الدولة المستقلة.

ــ روسيا: أمهر لاعبي الترابيز على الساحة الدولية. فهى مع تركيا باعتبارها المتحكمة في المضايق المؤدية من البحر الأسود إلى البحر المتوسط، وبوصفها صاحبة التأثير التاريخي والمعنوي على معظم دول آسيا الوسطى أو ما يعرف بالعالم التركي وهو الحديقة الخلفية للإمبراطورية الروسية، وأيضا أملا في أن تكون تركيا إردوغان شوكة في خاصرة التحالف الغربي، مثلما جعل الغرب من أوكرانيا شوكة في خاصرة روسيا.

هى أيضا مع مصر بوصفها حائط الصد الرئيسي ضد التطرف ونمو السرطان الإخواني في قصور الحكم ومراكز السلطة بالعالم الإسلامي، وهى مع مصر كحليف سياسي وداعم طبيعي للجيش السوري والدولة الوطنية العربية في ليبيا، وأيضا كمشترٍ رئيسي للسلاح الروسي.

تجيد روسيا اللعب على كل الأحبال في كل العصور وتستفيد من كل الأطراف..!

ــ الاتحاد الأوروبي: لا توجد سياسة خارجية أوروبية موحدة، اللهم إلا عبارات دبلوماسية لا تبارح أوراق البيانات الرسمية، فكل دولة من القوى الأوروبية الكبرى لها مصالحها الخاصة، ويبدو أن أزمة كورونا وتبعاتها وصراعات شركات النفط قد أدخلت الاتحاد الأوروبي إلى حالة الموت السريري مثله مثل حلف الأطلنطي -على حد وصف الرئيس الفرنسي ماكرون.
ــ الدول العربية: بعض النظم العربية ينظر تجاه إيران كرها أو انتظارا للأوامر، وبعضها ينظر تجاه المرشد الدولي للإخوان في أنقرة ركوعاً وخنوعاً.

بعضها يتمنى ألا تنهض مصر، وبعضها يتمنى ألا تفشل مصر.

وأخشى أن أقول إن معظمها لا يمانع في أن تعود مصر لعصر الترنح وأيام التشرنق.

غير أنى أستطيع الزعم بأن الغالبية الكاسحة للشعوب العربية تنظر هذه الأيام إلى مصر بحنين وأمل ورجاء.

< < <

أيدي مصر لم تعد مكتوفة، وذراعها صارت طولى وضربتها أصبحت قاضية.

صورة المشهد الإقليمي والدولي وتشابكات المصالح وتعقيداتها واضحة أمام ناظري قائد البلاد.

خريطة الصراع بكل خطوطها وسيناريوهاته حاضرة في ذهن القائد الأعلى للجيوش المصرية وقادة قواتنا المسلحة.

هذا وقت عسير ربما لم يعشه أحد من الأجيال المعاصرة.

لكنه أوان الشجعان الأحرار الأقوياء.

إذا كنا نريد مصر الشامخة الأبية العظمى، فلابد أن نتهيأ لما ليس منه بد ولا مفر من تضحيات بالعرق والدم والدموع..!
 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة