د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

أم المبهمات

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 23 يوليه 2020 - 05:42 م

ونحن يجب أن نكون من أولى الألباب، لأن العقل مناط التكليف، ومن مقتضى ذلك أن نطلق على الشر الذى نراه بأعيننا شرا أنه خير، لما وراءه من خير عظيم.

 «مـــــــا»
السبت:
تعرف اللغة العربية كلمات، تسمى المبهمات، أى التى يندرج تحتها مالا يحصى من الأشياء المبهمة، غير المعروفة، مثل " كل " ويحددها ويقربها من المعلومات ما يأتى بعدها من مضاف إليه، كما فى قولك " كل الناس يعرفون الحق، وكل المدارس تعنى بالتربية مع التعليم، وكل الشوارع نظيفة، وهكذا بعض، وغيرهما، لكن ( ما ) أم هذه المبهمات، حين تقول : سرنى ما سرك، لا أحد يعلم ما سرك إلا من تخاطبه، وربما لا يحصى مخاطبك ما سرك، وربما لا يعلمه فيك، المهم أنك قلت له : إن سرك وجود خير عند فلان فقد سرنى كذلك، وإن سرك وجود نعمة لديك فقد سرنى كذلك، وهلم جرا، وفيها اختصار، وعموم غير تفصيل، وتحقيق للمراد بأقل الحروف، وفى التنزيل الحكيم :" فقال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير " جاء التعبير بما، دلالة على أن موسى عليه السلام، ومن يدعو بدعائه هذا فقير إلى كل شيء فيه خير - ولا يأتى من الله تعالى إلا الخير - ينزله الله إليه، قل أو كثر، كبر أو صغر، كان خيرا شكلا ومعنى، أو معنى لكنه جاء فى ثوب الشر، وقد قال الله عز وجل :" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " وقد وفقت فى إطلاق هذه العبارة، التى أرى أن تبيانها واجب، ذلك بأن الخير قد يأتى فى ثوب الخير قشيبا جديدا، يسر العين والنفس، ويحقق المصلحة، وينتقل به الإنسان من مستوى إلى مستوى، ومن حال إلى حال أحسن من الحال التى كان عليها، صحة بعد علة، وغنى بعد فقر، أو غنى يضاف إلى غنى، فلا غنى لمخلوق عن مزيد فضل ربه، جاء فى الصحيح أن أيوب عليه السلام كان يغتسل فنزلت عليه فراشات من ذهب، فترك الغسل، وأخذ يحثوها بثوبه، ويجمعها فيه ؛ فقال الله له : ألم أغنك ؟ فقال : يارب لا غنى لى عن مزيد فضلك، ومن ثم نقول بقوله : يارب، لا غنى لنا عن مزيد فضلك، ولا يقولن قائل بقول الذين يزعمون أن الزهد فى عطاء الله من الدين، ألف لا، فالله تبارك اسمه يقول :" واسألوا الله من فضله " وفضل الله عظيم، والله سبحانه واسع عليم، إنما يكون الزهد من الدين إذا زهدت فيما عند الناس، فهذا سبيل حبهم لك إن أردت أن يحبوك، قالها الحكيم الجاهلى منذ ألوف السنين، ازهد فيما عند الناس يحبك الناس، لكن أن تقبل راحتيك ظهرا وبطنا، وتقول لله عز وجل :( كده نعمة أوى ) فهذا دليل جهلك بمراد الله تبارك وتعالى، فعطاء الله كما قال غير مجذوذ، أى غير مقطوع، ولو أنه عز وجل أعطى كل سائل مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيئا، وعلينا أن نقول كما قال عليه السلام، ونحن موقنون أننا بالفعل فقراء إلى خير ينزله الله تعالى إليه، من أول الخير إلى مالا نهاية له، فلا نهاية لخير عند الله، ولا زهد لعبد فيه، إنما يزهد فيه من لا علم، وقد قال هذه العبارة موسى عليه السلام وهو فى حال اغتراب، وخوف، حين خرج من مصر إلى مدين، كان بوسعه أن يقول ما يقوله الناس فى تلك الحالة، فالناس فى مثل هذه الحالة لا يعبرون بمبهمات فضلا عن أمها، أى يسألون الله مسكنا يؤويهم، ولقمة تطعمهم، وأحدا من خلق الله يعينهم، حتى تنكشف الكربة، ويزول الخطب، لكن الرجل الرسول يعى ما يقول، والله عز وجل يعلمنا من خلاله، أى من خلال ما قال، كيف يكون سؤاله، وبم يكون ؟ إنه يعلمنا التوسع فى الطلب بما يناسب الحال، وبما يناسب ما بعد الحال، بخلاف ما لو قصدت شخصا ما من البشر، فإنك تسأله ما يناسب حالك، وما أنت فى حاجة إليه الآن، وفى ضميرك أشياء أخرى تود أن تسأله إياها، لكنك تعى قول الناس : لا يطلب كل شيء فى آن، وإنما يطلب الشيء فى أوانه، بدليل أنك ترى الرجل يقول للرجل : حين كنت أسألك كذا استحييت أن أسألك ما أنا سائلك إياه الآن حتى لا أثقل عليك، أو انتظرت حتى تفيق مما كنت عليه من كذا وكذا، أما وقد كشف الله عنك البأس فيطيب لى أن أسألك الآن، وما هكذا يكون الحال مع الله تعالى ذى الجلال، فالله واسع، والله لا يعجزه شيء فى الأرض ولا فى السماء، ومن ثم فنحن نسأله بما أم المبهمات، بل نسأله عز وجل بما نعلم، وما لا نعلم، ولذا جاء فى دعاء المسلمين : اللهم إنى أستغفرك لما أعلم، ومالا أعلم، ولما أنت أعلم به منى، فقد يفعل العبد ذنبا، وينساه، ويذكر غيره، فحين يقول ذلك إنما يقول يارب، أنا وارد نسيانى، وأنت محال ان تنسى ؛ فاغفر لى ذنبى الذى أذكره، واغفر لى ذنبى الذى أنسيته، واغفر لى ما أعتقد أنه ليس ذنبا، وهو عندك يارب ذنب، وهكذا تكون ثمرات الدعاء بما أم المبهمات، وهو إن خفى على الناس جميعا فمحال أن يخفى على الله عز وجل الذى لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا فى السماء، وأعود فأقول : قد يأتى الخير فى باطن شر ظاهر، كما فى صور من الابتلاء الذى شكله من لفظه مصيبة فى قبض غال، وفراق حبيب، ونقص مال وزرع، ومرض، ووراء ذلك الخير الكثير، فما من شوكة تصيب العبد إلا كفر الله بها من خطاياه، كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأى شيء يكفر الله به من خطاياك يعد خيرا، وإن جاء فى ثوب شر، وكم من أشياء تأتى فى غير ثوبها، فلا يحكم أحد بحقيقتها إلا من رزق الحكمة، وصدق الله العظيم حيث يقول : " يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ، ونحن يجب أن نكون من أولى الألباب، لأن العقل مناط التكليف، ومن مقتضى ذلك أن نطلق على الشر الذى نراه بأعيننا شرا أنه خير، لما وراءه من خير عظيم.
 وأما الغلام
الأحد:
ويحدثنا القرآن الكريم فى سورة الكهف عن خير جاء فى ثوب الشر، حيث قتل غلام صغير، ولا شك أن أبويه مؤمنين كانا أو غير مؤمنين يتألمان لفراقه، لكن الفرق أن المؤمنين يعلمان أن وراء هذا الألم أملا إن لم يظهر فى أول يوم من فراقه فسوف يظهر بعد حين، حين يعوضهما الله بخير منه، ألا ترى إلى قوله تعالى :" وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما " هذه قصة التفسير التى لم يحتملها موسى عليه السلام حين رأى مشهد قتله، فقال لصاحبه الذى قتله :" أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا " وقد جاء التفسير بأن فى قتل الغلام خيرا لأبويه المؤمنين، الأمر الذى يجعلنا نقول فيما أصبح ظاهرة شائعة أمام من يهتم بالخطاب الدينى، ويطلع على حال المتدينين الذين يزعمون أن المؤمن يجب أن يسلم من أى ابتلاء، وإلا فما جدوى تدينه، وصلاته، وصيامه، ونفقته فى سبيل الله، غير ناظر إلى هذا التعبير :" وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين " أى أن المؤمن يبتلى بفقد ولده، لا لكى يضره الله، وإنما لكى يرحمه من مستقبل لا يعلمه، لكن الله يعلمه، فهو يعلم أن ولده هذا سوف يكبر، ويشتد ساعده، ويعين والديه عند الكبر، ويكون عصا لهما يتوكأ عليها كلاهما، ويحقق الله لهما الخير على يديه، وأنه سيكون مؤمنا، وسيعبد الله حق عبادته من بعدهما، وما أكثر الآمال المبنية على الولد الصغير، ينسجها خيال والديه الطامعين فيه لا ينظران إلى مستقبل مبهم لا يعلمه الا لمن اعطاهما ذلك الولد وهوسبحانه يعلم انه سيكون كافرا،بينما يتطلعان إلى إيمانه،ويعلم سبحانه وتعالى أنه سيكون مرهقا لهما،وهما يتطلعان إلى أنه سيمحوعنهما كل إرهاق،ولأن علمه تعالى لا يخطىء فقد فعل ما فيه الخير لهما ؛فأمر عبده أن يقتله،وصرح لنا فى القرآن أنه أراد أن يبدلهما خيرا منه،فقتل الولد خير جاء مرتديا ثوب الشر،والمؤمن لا تغيب عنه آيات ربه،فإذا ابتلى بما ابتلى به هذان الوالدان المؤمنان،واعتقد أن الله تعالى ما قبض ولده الذى يؤمل فيه الخير،وإنما قبض ولدا كان سيرهقه،ولا يعينه، ولا يحمل عنه تبعة من تبعات الحياة،وأنه سيبدله خيرا منه كان هذا الاعتقاد مهونا له آلامه على فراقه ناقلا إياه من حالة الهم والغم والفقد إلى حالة الاستبشار بما سيكون فى المستقبل من خير كثير ترتب على ذلك الابتلاء ؛ومن ثم جاء فى الحديث الشريف أن على المسلم أن يدعو الله عند المصائب بقوله :اللهم أجرنى فى مصيبتى،واخلفنى خيرا منها،بلغ هذا الدعاء أم سلمة رضى الله عنها حين مات زوجها أبو سلمة،حتى قالت فى نفسها :ومن ذا الذى يكون خيرا من أبى سلمة،ولم تصرح بذلك،إنما كان مجرد خاطر عرض ببالها من حسن ظنها أن زوجها ليس فى الرجال رجل خيرمنه،فلما قالت الدعاء،وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أن الله عز وجل أبدلها خيرا من أبى سلمة،ومن رجال الدنيا جميعا.
على طريق التدبر
الاثنين:
ولا ينبغى أن يفهم من حديث حتى الشوكة يشاكها المسلم يكفر الله بها من خطاياه أن يسعى المسلم إلى تحصيل شوكة يشك بها جلده، ويقول :إنما أفعل ذلك حتى يكفر الله من ذنوبى،ولو فعل ذلك لارتكب ذنبا إنما تكون الشوكة مكفرة من ذنوب العبد إذا لم يكن له يد فيها ولم يترك السبيل الخالى من الأشواك،ويتعمد المشى فوق الأشواق ويظن حين يرى الدماء تسيل من قدميه أن الله يكفر بذلك من خطاياه وقد سمعنا فى طفولتنا أن أحد رجالات الأزهر الشريف انتقل من قريته بمحافظة البحيرة قاصدا القاهرة،وبينما هو فى الطريق استوقفه فلاح وخرج إليه ووقف أمامه، وأخذ يسأله والشيخ يجيبه،حتى فاته الأتوبيس الذى كان يتطلع أن يسافر فيه إلى القاهرة وضايق ذلك الشيخ،وآلمه لأنه أضطر أن يركب الأتوبيس الذى بعده أى بعد حوالى ساعتين فيقعد ينتظره فى المحطة ودماؤه تغلى،ويتذكر أسئلة الفلاح، ويقول حبكت يا إبن كذا أن تسألنى هذه الأسئلة جميعا ولا ترى أثر تعجلى بالسفر،وكأنك تزعم أنى منطلق إلى نزهة،وركب الأتوبيس وهو ينفخ،وكانت المفاجأة أنه رأى الأتوبيس الأول الذى كان ينوى ركوبه محطما على جانب الطريق فأخذ يقول :الحمد لله الذى نجانى وشكر الله للفلاح الذى عطلنى،حتى نجوت من هذه الكارثة وصدق القائل:كل تأخيرة وفيها خيرة
، ولا ينبغى أن يفهم هذا الموقف كما هو الحال فى حديث الشوكة أى لا يقولن قائل وهو عازم على السفر لمن هم على جانبى الطريق :عطلونى عطلونى حتى أتأخر،وأنجو من الخطر فما الذى يعلمه أن كل اتوبيس أو قطار تم الحجز فيهما سوف يحطمان،وأن ما بعدهما هو الوحيد الذى ستكتب له السلامة،بل عليه أن يحرص على موعده تاركا الغيب لله،فإن عرض له ما يؤخره فليقل :وراء ذلك الخير،سواء تحطم ما قبله أم سلم.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة