حمود بن سالم السيابى
حمود بن سالم السيابى


بأقلام الأشقاء

مصر تودع نبيلا يجنِّح بمعطفه الأبيض نحو السماء

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 29 يوليه 2020 - 06:20 م

من «الغيط» الأصيل الذى ينهض مع الفجر ليؤذن وتنهض معه الديكة وجواميس الساقية والأكف المخضبة بطمى الحقول وصافرات قطارات الصباح خرج محمد مشالى.
وكان من الطبيعى أن تحمله درجاته العالية فى الثانوية إلى كليات القمة، وقد تاقت نفسه للحقوق ليدافع عن المظلومين وتمنَّى أبوه أن يعلق المعطف الأبيض على وتد البيت ليعالج «الغلابة» فتعانق النبل والنبل.
وحين دخل القصر العينى لم يحمل للمدينة الجامعية برنيطة من «شيكوريل» ولا تلألأت بدلته «بكرفيتة» موقعة من «بيير كاردان» ولا قلَّدَ «كاجوال» عبد الحليم حافظ لأجل أن يسقط نجمة مصرية من أفقها الأرستقراطى، أو يزايد على «متعنطز» من بقايا الباشوات، بل حمل إلى غرفته الصغيرة رائحة أمه وفتيلة قنديل بيته الريفى ومشاهد انكسار قلب كهل أمام «التمرجى» لعجزه عن تحمُّل سعر الكشف، وبكاء عجوز مقهورة بين مرضها وثمن الأدوية فى «الروشتة» وتوجع شاب رتعت «البلهارسيا» فى يفاعة العمر.
وكلما جلس محمد مشالى بجانب أبناء وبنات الكبار فى المدرجات الذين تبرق الساعات فى معاصمهم وتتأرجح دلايات الذهب من الأعناق ليؤدى امتحان نهاية العام ثار «الغيط» فى ملابسه بمآذنه وصافرات قطاراته وبعبق «البلَّاص» المتخثر جبنا و'مِشَّاً» و«السَّبَتْ» الذى يئن «مشلتتا ووزا وبطا» فى محطات التوديع والاستقبال.
وفى احتفال التخرج لم يكن «ببَّاه» ولا «مَمَّاه» فى الصفوف الأولى للقاعة بل كان وحده فى القاعة يمثل نفسه وأمانى أبيه فى أن يراه طبيبا وقد كان.
كما لم تتناثر الوعود والوشوشات ولا هدايا التخرج من مفاتيح لعيادات خاصة إلى مفاتيح لسيارات فيات حمراء.
وحين غادر قاعة التخرج لم تشده لافتات البنايات التى تتلألا بالأهلة والصلبان الحمراء، ولا استجاب للمحلات المزدانة بلافتات ثعابين تتلوى حول الكؤوس لتنفث الترياق.
وفى قطار العودة إلى الغيط كانت أصوات العواجيز والفقراء والمتوجعين والمنكسرين أمام ثمن الكشف وروشتة الدواء رفيقة المشاوير وقد علتْ على هدير القطار وصخب العائدين الذين سيسقطون عمّا قريب فى أحضان الوصول.
وكان أبوه فى المحطة يستقبله وقد امتشق «شومة» تطاوله والنخل السامق بامتداد الدرب فى مشاهد الوصول يلوح بالسعفات.
ومنذ افتتاح العيادة فى طنطا لحين انتزاع لافتتها من الجدار كان محمد مشالى يقيس نجاحاته بعدد من عالج بتراب الفلوس وباتساع من أسكت أنينهم بزجاجة دواء اشتراها بنفسه، بل وذهب ليشرف على التزام مرضاه بمواعيد الجرعات.
وليس بمستغرب أن يعود من عيادته كل مساء على طرف عربة «كارو» ليجالس حزمة برسيم و«بلَّاص» تحويجة العمر.
وقد ا ندهش بمناظر المتسابقين لتوصيله، أو الذين يتراكضون لمصافحة أكف الرحمة وتقبيل الزعيم النبيل للإنسانية، فكلهم استكانوا لسماعته يوما فانكشف على كل الأسرار.
وكلهم فتحوا أفواههم لمقياس الحمى فتكرَّستْ فى ذاكرته حرارة الأجساد.
وكلهم سلموه الأرسغ ليحيط نبضها بعدد الثوانى.
وحين يغمد محمد مشالى حقنته ويخلع معطفه ويطوى سماعته ويدلق آخر زجاجات الدواء فإن صفحة نبيلة فى الطب ستطوى، وأن «الغلابة» سيفرشون أهدابهم لنعشه رغم أنف كورونا، وسيتزاحمون فى «صوان» العزاء يتقدمهم أطباء مصر منذ إله الشفاء فى مصر الفرعونية إلى السير مجدى يعقوب، فمصر لا تشيِّع طبيباً يموت، بل نبيلا يجنح بمعطفه الأبيض إلى السماء.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة