في المسافة الزمنية مابين مقالي للأخبار الأربعاء قبل الماضي «من شبه الدولة إلي الدولة الراسخة» حتي يومنا هذا، مرت في النهر مياه كثيرة. فقد أحدث المقال حراكاً ثقافياً واسعاً حول المفاهيم والمصطلحات ومدي إمكان تنزيلها علي الواقع السياسي في بلادنا وقبولها كرؤية رئاسية، إذ تلقيت العديد من المكالمات وغيرها من التعليقات علي البريد الإلكتروني من مفكرين وكتاب وسياسيين ومثقفين يجمعهم الهم العام، تراوحت مابين النقد والاستحسان والتساؤل، ومابين شد وجذب وحوار عشت الأسبوع الذي تصادف أن تلقيت فيه المغلف الأنيق الذي أنتظره كل شهر من إصدارات «المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة» كما عودنا المفكر الكبير أستاذ العلوم السياسية د. عبد المنعم سعيد مدير المركز بمطبوعاته ودراساته العلمية رفيعة المستوي عن حالة مصر والإقليم والعالم، وموضوعاته التي تعد إضافة علمية لا غني عنها لكل الكتاب والدارسين والباحثين في عالمنا العربي، وهي كما يقول د. عبدالمنعم سعيد في تصدير خطابه المصاحب، دوريات أكاديمية تهدف إلي تحليل التحولات الرئيسية ذات الطابع الاستراتيجي في النطاقات المشار إليها: مصر والإقليم والعالم. وقد تأسس المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة في نوفمبر 2012، بهدف رصد وتحليل وتقدير التحولات الكبري التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في مرحلة مابعد الثورات العربية في إطار تقديم خدمة أكاديمية واستشارية لجمهور واسع من مؤسسات صنع القرار وقادة الرأي العام ووسائل الإعلام والسياسيين والباحثين والدارسين. وهو جهد ضخم ومقدر لعله يسد عجزاً في آلياتنا العلمية ومؤسساتنا السياسية والعامة، لتواكب مثيلاتها في الدول المتقدمة في عالم يموج بالتحولات والتغيرات المتسارعة. ولقد وجدت في مطبوعات «حالة مصر» موضوعين جديرين بالتوقف أمامهما، كما وقعت فيهما علي ضالتي التي يمكن أن أعزز بها دفوعي أمام أطروحات المفكر السياسي المناضل أ. حمدي مرسي أحد رجالات الحرس الوطني القديم، الذي هو وهم علي النقيض تماماً ممن عالجنا مواقفهم في مقال سابق وأسميناهم «كلاب الحراسة الجدد» المقال الذي جر علينا كثيراً من المتاعب مع الإعلام حيث لم يُفهم عنوان المقال باعتباره الاصطلاحي ربما لضعف البنية الفكرية والمهنية لكثيرين ممن يتصدرون واجهات الشاشة الفضية. الموضوعان هما: «المجتمع المدني الافتراضي في مصر- الخريطة والدور» دراسة للباحثة د. هدي جمال الدين، أما الموضوع الثاني: «الدور التنموي للمؤسسة العسكرية في مصر- تسييس متعمد» للباحث د. محمد عبدالله يونس.
ولعل نقاشنا لأطروحات أ. حمدي مرسي تغطي وتشمل كثيراً مما قيل أو كتب حول مقالي الأسبوع الماضي، ذلك أنه في رؤيته كما آخرين، يتوقف كثيراً عند مدي علمية ودقة مقولة «شبه الدولة» إذ في تصوره الفارق كبير بين مقومات وجود الدولة وبين أداء مؤسساتها من كفاءة أو ضعف وسياساتها من نجاح أو فشل. فالدولة المصرية حافظت علي مقومات وجودها لم تهتز أو تتغير منذ فجر التاريخ حتي يومنا هذا، حيث احتفظت بحدودها ووحدة إقليمها وشعبها ومركزية نظامها الإداري وبيروقراطيتها ومحورية دورها عبر التاريخ دونما انقطاع رغم مامرت به من تجارب مد وجزر واحتلال واستعمار. أما ان تكون السياسات العامة للدولة في مرحلة تاريخية ناجحة أو فاشلة، فهذا أمر آخر، لايمس وجودها ولايصمها بمقولة شبه الدولة التي يصعب أن تمر علينا دون أن تمس قناعاتنا وانتماءاتنا الوطنية وضميرنا الجمعي العام.وقد تعرض سيادته كما آخرون غيره لمفهوم الدولة الحديثة في القانون وعلوم السياسة، وأخذنا الحوار إلي منحي أراه حاكماً فيما ذهبت إليه في مقالي، وهو ربما لب الخطاب في الفلسفة المادية التاريخية حيث البناء الفوقي للدولة هو انعكاس وناتج للبناء التحتي للمجتمع. البناء الفوقي يمثل مؤسسات الدولة والقوانين ومنظومة القيم والأخلاق والسياسات العامة وتوجهاتها نحو المصالح الطبقية والاجتماعية لفئات المجتمع، بينما البناء التحتي هو انعكاس لمجموع علاقات المجتمع الإقتصادية وعلاقات الإنتاج. وفي تقديري أن علاقات الإنتاج في المجتمع ربما أشمل مما عنته الفلسفة المادية في توجهاتها ورؤيتها الماركسية، التي حصرتها في الاقتصاد والصراع الطبقي، بينما أميل أكثر إلي رؤية الفلسفة المثالية في هذه النقطة تحديداً وربما الليبرالية التي أراها من منظور يعتبر كل مناشط وتفاعلات الناس في الدولة هي علاقات إنتاج بشكل أو آخر، فالحب والزواج والإبداع والثقافة والتعليم والبحث العلمي والصناعة والزراعة وحتي السياسة علاقات إنتاج. من هنا رأيت وكتبت منذ سنوات عن تحلل الفوارق المصطنعة مابين التوجهات الإشتراكية والليبرالية، وكتبت عن الطريق الثالث، ليس بمفهوم أستاذ العلوم السياسية الأمريكية «أنتوني جيدنز» ولا رؤية توني بلير الذي طغت في عهده علي حزب العمال البريطاني مسحة رأسمالية، وناقشت في مقالاتي التي حاورت فيها أفكار فرانسيس فوكوياما بعد أزمة الرأسمالية في «ليمان براذرز» 2008 واضطرار الرأسمالية لاتخاذ تدابير دولة لإقالة عثرة الاقتصاد تتسم بمسحة اشتراكية سمحت بتدخل البنوك المركزية والفيدرالية في الدول الغربية الرأسمالية في شئون الاقتصاد والشركات والبورصات، الأمر الذي ماكانت تسمح به قواعدها الاقتصادية من قبل.
وفي تصوري أن سيولة البناء التحتي في الدولة المصرية ربما هو ماجعلني أقول بما قال به الرئيس السيسي عن «شبه الدولة»، التي قصدنا بها وظيفية المؤسسات FUNCTIONALISM أكثر مما قصد بها حمدي مرسي بنية الدولة وهياكل مؤسساتها STRUCTURALISM. بالفعل لدينا هياكل دولة تبدو مؤسسية في الشكل والتكوين، لكنها أيضاً تبدو سائلة رخوة في الأداء والكفاءة، وهو نفسه سبب التناقض الحاكم لعلاقات الناس بحكوماتنا المتعاقبة وتدني مستوي الخدمات وعدم وضوح الانحيازات والخيارات في بلادنا، بما يدفع الناس للإحباط والنظام للأزمة والرئيس لمر الشكوي.
ولمن كتبوا لي أو ناقشوني عن تاريخ مصر الدولة والحضارة، أتفق معهم وأزيد أننا دولة ليس منذ أن وحد مينا القطرين ولكن قبلها عندما كنا مملكة الشمال ومملكة الجنوب قبل الميلاد بعدة قرون طويلة، وأقرأوا معي كتاب «وصف مصر» للحملة الفرنسية 1802، و»المسألة المصرية» لصبحي وحيدة 1950، و»شخصية مصر» لجمال حمدان 1967، و»موسوعة مصر القديمة» لسليم حسن في السبعينيات، و»فجر الضمير» لجيمس هنري برستيد في ثلاثينيات القرن العشرين. ولعل الدراستين القيمتين للمركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية بالقاهرة عن «حالة مصر» تشيران إلي أن ضعف بنية وكفاءة الفاعلين الأساسيين في السياسة المصرية ومجالنا العام من أحزاب ونخب وإعلام ومؤسسات دولة وشخصيات إعتبارية وعامة دفعت بظاهرتين لتصدر المشهد العام في الدولة، هما المجتمع المدني البديل أوالافتراضي الذي يسكن فضاءنا الإلكتروني، ثم دخول مؤسستنا العسكرية إلي مجال التنمية في مصر لابقصد التدخل في الحكم والسياسة، بل لتعويض نواقص القدرة والكفاءة في مؤسسات الدولة والمجتمع. وفي النهاية هي مهمة الرئيس ومسئوليته بأن يعيد للدولة كفاءتها وللمجتمع المدني احترامه واعتباره، ليأخذه من حالة «الفنتازيا» وعالم الأشباه والمجتمع البديل إلي عالم الواقع والمجال العام الفاعل الناشط، لنتحول من شبه الدولة إلي الدولة الراسخة.