عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

كورونا وخطر القومية الطبية

بوابة أخبار اليوم

السبت، 08 أغسطس 2020 - 06:57 م

 

عبدالله البقالى

يقتصر المشهد فى الوقت الراهن على جزء من الصورة التى تؤشر إلى أن الحرب الضروس التى تدور رحاها بين كبريات شركات صناعة الأدوية فى العالم المملوكة للاستثمارات الكبيرة فى الاقتصاديات العظمي، تقتصر فقط على ما يمثل رهانا وتحديا لهذه الشركات، والمتمثل أساسا فى السبق فى اكتشاف اللقاح المضاد لفيروس كوفيد19 المستجد، أى أن الجزء البارز من الصورة حتى الآن يقتصر على الجوانب المالية والاستثمارية من اكتشاف اللقاح، ولا أحد يفكر أبعد من أنفه فى هذا الصدد. والحال أن العالم سيعيش زمنا عسيرا ستتعرض فيه قيم إنسانية كثيرة إلى امتحان صعب وخطير. إن العالم، فى ضوء ما يجرى ويحدث، سيواجه تحديا كبيرا يهم قيم العدل والمساواة بين البشر الذى يعيش فيه، بغض النظر عن لونه أو دينه أو غناه أو فقره، أو موقعه الجغرافى.
فمسألة اكتشاف اللقاح الذى سيخلص البشرية من هذا العدو الفتاك أصبحت مسألة وقت، إذ إن الإعلان عن اكتشاف المصل يمكن أن يتم فى أية لحظة من لحظات هذا الزمن القاسي، الذى يعيشه العالم لتبقى أكبر منطقة ظل والتباس تهم قضية تدبير وتوزيع اللقاح فى العالم بأسره. فالمؤكد حتى الآن أن التجارب العالمية الخاصة بصناعة وتوزيع الأدوية فى زمن الأزمات المستجدة تؤشر على الافتقاد إلى قواعد دولية واضحة تحقق العدل والمساواة بين الجميع، وتحرر المنتوج الطبى من جميع مظاهر الاحتكار والتمييز فى الاستهداف. وفى غياب هذه القواعد فإن الحسم يبقى متروكا لقواعد السوق العالمية التى تعطى الأولوية فى التسويق إلى عوامل ومعطيات مجردة من البعد الإنساني. إن غياب قواعد دولية واضحة لضمان التوزيع العادل للقاح المنتظر اكتشافه يهدد بإطلاق أيادى الجهات القوية فى التعامل فى شأن التوزيع طبقا لقواعد معينة تخدم مصالحها الاقتصادية الضيقة. فالواضح حتى الآن أن شعوبا معينة محصنة فى اقتصاديات قوية، هى التى ستستفيد فى المرحلة الأولى من اللقاح، ويتعلق الأمر بشعوب غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والصين وكندا واليابان، أولا لأن الأمر يتعلق بالدول الحاضنة لهذا السباق المحموم نحو اكتشاف المصل، وثانيا لأنها شعوبا قادرة على الدفع أكثر بحكم أوضاع الرخاء الاقتصادى والمالى الذى تعيشه، وبعدما تستنفذ هذه الشعوب المحظوظة حاجاتها من اللقاحات، يمكن آنذاك التفكير فى سواها.و الأدهى من ذلك يعبر الخبراء والمتخصصون فى هذا الصدد عن مخاوفهم من أن تلتجئ بعض من هذه الشركات أو كثير منها إلى أساليب التحايل لضمان أعلى معدلات الأرباح، كأن تتعمد تخفيض كميات الإنتاج بشكل متعمد للحفاظ على قيمة الأسعار المرتفعة، تماما كما يحدث حينما تلتجئ بعض الشركات إلى إتلاف المنتوج للإبقاء على الأسعار فى أعلى معدلاتها. ولعل التحيط من هذه المخاطر المحدقة بالبشرية هو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى التأكيد فى تصريح صحفى له على أن «اللقاح ضد فيروس كوفيد19 يعتبر منفعة عامة» بمعنى أن قضية اللقاح المضاد لهذا الفيروس يجب أن تتخلص من الاعتبارات التجارية والاقتصادية التى تجعل منه منتوجا إنسانيا قبل أن يكون منتوجا تجاريا يحصر فى دائرة الربح الضيقة.
ومثير حقا فى هذا الصدد أن تحرص منظمة الصحة العالمية على حصر الشركات المرخص لها بإنتاج هذا اللقاح، والتى توجد جميعها فى دول عظمى تساهم بالنصيب الأوفر فى تمويل هذه المنظمة، مما يلغى بشكل غريب قاعدة المنافسة الحرة التى تفسح المجال أمام المبادرات الخاصة، وتسمح للشركات التى ترى فى مقدورها خوض هذا السباق بأن تجرب حظها فى هذا الشأن، وكأن الأمر مدبر بشكل محكم يعطى الأفضلية فى هذا الصدد لشركات بعينها. وقد يكون هذا الانشغال هو الذى دفع بعض الخبراء وفى مقدمتهم السيدة إيلينا كيكبوش الخبيرة لدى منظمة الصحة العالمية إلى المطالبة بإنشاء وكالة دولية تتكلف بتدبير ملف اللقاح المضاد للفيروس اللعين، حيث اعتبرت أن الوكالة سيكون بمقدورها توزيع اللقاحات بشكل عادل. ولعل هذه المبادرة الوازنة ستمكن من تحقيق وتفعيل مبدإ التضامن الدولى الذى يقى اللقاح من هواجس الربح والاستثمار.
إن الأمر لا يقتصر على كل هذه المخاطر، بل إننا أمام خطر جديد ينزع عن الطب والصيدلة وصناعة الأدوية هويتها الإنسانية، ويحولها إلى مجرد منتوج تجارى صرف أو خدمة تجارية محظة. إن البشرية هذه المرة أمام تحدٍ مستجد يتمثل فى ربط المنتوج الطبى بالهوية الوطنية أو القومية، الذى يجعل الانتماء للوطن أو إلى القوم قاعدة أساسية ورئيسية للاستفادة من اللقاح المنتظر، إن العالم يواجه اليوم ما يمكن أن نسميه (خطر القومية الطبية) التى تحول منتوجا طبيا إنسانيا إلى إيديولوجيا تخدم أهدافا وطنية أو قومية معينة، تعطى الأفضلية للذين ينتمون إلى الوطن أو إلى القوم، أو الذين باستطاعتهم الدفع أكثر.
نعم، لا محيد عن قواعد عامة تتكلف بتدبير التوزيع العادل، قد لا تعتمد على العامل الجغرافى فقط، ولا على هاجس الربح، بل يجب أن يتعلق الأمر بقواعد إنسانية قبل أى اعتبار، كأن تعطى الأفضلية والأسبقية للأشخاص فى وضعية هشاشة الذين يعتبرون أكثر عرضة للوباء، ومن قبيل الأشخاص المسنين، والمصابين بأمراض مزمنة والسيدات الحوامل، بغض النظر عن المكان الذى يوجدون فيه.
فهل ينجح العالم فى هذا الامتحان الإنسانى العسير؟ لا نملك جوابا جاهزا ومقنعا فى هذا الصدد، وإن كانت المؤشرات الأولية تذهب بالخيال بعيدا فى هذا الشأن، وكل ما يمكن أن نؤكده فى هذه اللحظة أن الإنسانية ستتعرض إلى اختبار حقيقي، صعب وخطير، وسيكون صالحا كعنوان بارز للنظام العالمى الذى سيخرج من رحم هذه الأزمة الطارئة التى هزت أركان العالم.

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة