في مايو عام ١٩١٦ أي قبل ١٠٠ سنة بالتمام والكمال اتفقت بريطانيا وفرنسا علي توزيع ميراث الرجل المريض «الدولة العثمانية»، الذي كان الجميع يعلم علم اليقين أنه يحتضر، إلا الامبراطور المغرور نفسه.
في ذلك الشهر قبل قرن كامل اجتمعت الدولتان العظمييان، ممثلتين في الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، والبريطاني مارك سايكس لتمزقا جسد العرب، وينهش كل طرف ما يريد من بلدانه.
كل هذا تم برعاية وموافقة روسية، وغيبوبة عربية كاملة، ولم يتم الكشف عن الاتفاقية السرية سوي بعد قيام الثورة البلشفية، التي فضحت هذا النهب الاستعماري، لكن لم يتغير في الأمر شيء، فلصوص الأوطان لا يخشون الفضيحة!
وعندما أرادت بريطانيا تصفية وجودها العسكري في فلسطين بحكم تلك الاتفاقية المخزية، اسلمتنا إلي مأساة جديدة لا نزال نعيش فصولها إلي اليوم.. فقد انهت انتدابها في ١٤ مايو ١٩٤٨، لتقوم بعد ساعات أقذر دولة عرفها التاريخ، دولة بدأت باغتصاب، ونمت بالارهاب، وتوسعت بالقتل.. في ذلك اليوم الأسود قامت اسرائيل.
واليوم عندما نتأمل المشهد الذي تعيشه المنطقة، ربما سنجد نفس الذئاب الذين كانوا يجلسون قبل مائة عام علي مائدة المنطقة يلتهمون لحمها ويمصمصون عظامها، مايزالون يتحلقون حول نفس المائدة، تبدلت الوجوه، ولم تتغير الأطماع.. كبر الذئب الصغير «اسرائيل» الذي أتت به القوي الاستعمارية وصار وحشا مفترسا يطمع في التهام المنطقة كلها، وتراجع اللص العجوز «بريطانيا» مفسحا المجال لابنه القوي المتعجرف «أمريكا»، بينما يصر العجوز الآخر فرنسا علي أن يثبت وجوده علي قيد الحياة بين الحين والآخر.. وعاد الحفيد غير الشرعي للرجل المريض «تركيا» إلي المشهد، طمعا في أن يلقوا إليه بفتات ما تبقي علي المائدة، فألقي بنفسه في قلب الخطر محاولا إثبات أن له أنياب، لكن الذئاب الكبيرة تدرك جيدا أن علو صوت النباح لا يعني دائما القوة.
بعد مائة سنة علي اتفاقية «سايكس- بيكو» وأكثر من خمسين عاما علي اغتصاب فلسطين، تحاول الذئاب مجددا تقسيم ما هو مقسم، وتفتيت ما هو مفتت، وربما اكتشفنا، بعد عمر طويل إن شاء الله، أن اتفاقية عار جديدة قد تم توقيعها بأسماء مختلفة تعيد رسم خريطتنا، وتشعل الحرائق في هلالنا الخصيب، وتغرق مصر في أزماتها الداخلية، وتواصل شفط نفط الخليج حتي آخر قطرة، وتزرع جماعات الإرهاب والتخريب في أرضنا، وربما كتب شخص ما عام ٢١١٦ مقالا في مثل هذا المكان يترحم فيه علي بلاد كانت تسمي بلاد العرب، عاشت أسود أيامها في مايو!