رأيت في زيارة المستشرقة السوفييتية محاولة لإعادة الاعتبار للرجل الذي تخندق في بيته يعاني من الظلم والإحساس بالنكران

القصة كتاب غير دوري. يصدر عن نادي القصة بدعم وتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب. وقد بدا هذا التعاون مؤخراً بعد أن تعثرت المجلة عن الصدور أكثر من مرة. يرأس مجلس إدارتها وتحريرها القاص والروائي نبيل عبد الحميد، رئيس النادي. وينوب عنه محمد قطب والدكتور يسري العزب. في العدد الأخير من المجلة المدون عليه يناير 2016. مع أنني اشتريته من الأسواق مؤخراً، أي بعد صدوره بحوالي خمسة أشهر.
في هذا العدد الأخير مقال مهم كتبه الدكتور يوسف نوفل عن محمد عبد الحليم عبد الله. ويجمع بينهما - عبد الحليم عبد الله ونوفل - هذا القدر النادر من الصفاء الإنساني والقلب الأبيض الذي تم اغتساله من كل الضغائن في مجتمع أصبح يعاني من فائض الكراهية الذي نجده في كل مكان نذهب إليه. فضلاً عن أمر آخر يجمع بينهما. وهو أن كتاب: فن القصة عند عبد الحليم عبد الله، الذي كتبه يوسف نوفل، كان أول بحث ينشر عن عبد الحليم عبد الله في حياته.
لقد صدرت كتابات أخري عن عبد الحليم عبد الله بعد كتاب يوسف نوفل. كتب عنه المستشرق الفرنسي جوردان مورو. وكتب عنه عباس خضر في كتابيه: قصص أعجبتني وكتب في الميزان. وكتب الدكتور عبد القادر القط فصلاً عنه في كتابه: في الأدب المصري. أما فؤاد دوارة، فقد أفرد له فصلاً في كتابه المهم: عشرة أدباء يتحدثون، الذي تحول بمرور الوقت لشهادة ميلاد لجيل من الكتاب والأدباء المصريين. وكتب عنه يوسف الشاروني فصلاً في كتابه: دراسات في الرواية والقصة القصيرة. لكن يبقي لكتاب يوسف نوفل فضل السبق في التنبيه لأهمية عبد الحليم عبد الله، وتناول أعماله الأدبية ولفت الأنظار إليه.
عرفت الاثنين. عبد الحليم عبد الله عرفته في سنواته الأولي عندما تركت قريتي قرب منتصف ستينيات القرن الماضي وجئت إلي القاهرة. وكنت معنياً بالتعرف علي أبناء البحيرة من الأدباء والكتاب والصحفيين. باعتبار أن البحيرة هي المحافظة التي أنتمي إليها. وفيها توجد قريتي: الضهرية - مركز إيتاي البارود.
عبد الحليم عبد الله ينتمي لقرية كفر بولين مركز كوم حمادة. وحتي لقائي الأول به كان في دمنهور. حيث شاركت في ندوة أقيمت لمناقشة إحدي رواياته. وبعد انتهاء الندوة ذهبت معه إلي الفندق الذي كان يقيم به في دمنهور. ونشأت بيننا صداقة صافية لم ينهها سوي رحيله المبكر والدامي عن الدنيا بعد حادث تعرض له مع سائق تاكسي كان يقله من دمنهور إلي قريته كفر بولين.
في أيامه الأخيرة وقبل رحيله الدامي هاتفني صديق العمر المرحوم جمال الغيطاني. وقال لي إن معه مستشرقة سوفييتية - هكذا كنا نطلق علي روسيا الآن الاتحاد السوفييتي وقتها - وأنها تريد مقابلة عبد الحليم عبد الله. لأنها تعد بحثاً كبيراً عنه وترغب في ترجمة إحدي رواياته إلي اللغة الروسية.
ذهبنا إليه في بيته بحي المنيل. وأذكر أن الرجل سعد سعادة غير عادية بمجرد ما سمع من المستشرقة وصفين أضفتهما عليه. الأول: روائي الدلتا. والثاني: روائي اليتامي والأرامل. وكان الرجل في ذلك الوقت يشعر بقدر من الغبن وعدم الإنصاف وأنه ظلم ظلماً غير عادي. خصوصاً بعد معركته مع طه حسين في مجمع اللغة العربية التي خرج منها مهزوماً وضاعفت من إحساسه بسيكولوجية المظلوم.
رأيت في زيارة المستشرقة السوفييتية محاولة لإعادة الاعتبار للرجل الذي تخندق في بيته يعاني من الظلم والإحساس بالنكران. وأنها دفعت للضيق الذي يحيط به من كل مكان بحالة من الهواء الطازج والطري الذي ذكره بهواء قريته البعيدة. لكن النهاية كانت تكمن بعد هذا اللقاء بفترة قصيرة.
يكتب يوسف نوفل أن محمد عبد الحليم عبد الله ولد في العشرين من مارس سنة 1913. في قرية كفر بولين بمركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة. وكان لتلك القرية منزلة في نفسه. وظنها في طفولته آخر الدنيا كلها. ويبدو أثر الريف في شخصيته وأعماله واضحا. وقد كان الابن الأكبر لأبوين فقيرين. يمتون بصلة قربي لأقارب أغنياء. والصبي ينظر ويقارن بين الحالتين. ولهذا كان كثيراً ما يتحدث عن طفولته وعن كراهيته للفقر. وعن تعلقه بأمه التي اختطفها الموت في الثالث والعشرين من فبراير سنة 1947.
في الثلاثين من يونيو سنة 1970 لقي محمد عبد الحليم عبد الله ربه بعد حادث أليم ومروع. وكنت في ذلك الوقت مجنداً بالقوات المسلحة. ومع ذلك حرصت علي السفر إلي كفر بولين لأمشي في جنازته حتي مثواه الأخير. رحم الله عبد الحليم عبد الله وأمد في عمر وعطاء يوسف نوفل.