محمد السيد عيد
محمد السيد عيد


يوميات الأخبار

مئوية صاحب الجلالة

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 17 أغسطس 2020 - 06:36 م

بقلم/ محمد السيد عيد

حين كان جلالته يسهر فى الملاهى الليلية كان الضباط الأحرار قد كونوا تنظيماً سرياً للإطاحة به.

فى هذا العام تحل الذكرى المئوية للملك فاروق، الملك قبل الأخير من ملوك الأسرة العلوية فى مصر. وفاروق شئنا أم أبينا جزء من تاريخ مصر، حكمها ستة عشر عاماً، وولد على أرضها، ولم يعرف له وطناً سواها، ودفن أخيراً فى ثراها. لهذا سنقص أطرافاً من قصته لمن يشاء أن يعرف صفحة من تاريخ مصر الحديثة.

- البداية
دخلت الوصيفة على جناب السلطان فؤاد مسرعة وفى عينيها خوف. توقع السلطان شراً. سألها: مالك؟ قالت إن صاحبة الجلالة، نازلى هانم، زوجته، تلد. دون أن يدرى وجد نفسه يعد على أصابعه. قال للوصيفة: لكنها لم تكمل تسعة أشهر. إنها فى الشهر السادس. قالت: بل فى السابع يا مولاى. إنها ولادة مبكرة، والأطباء معها الآن.
ترك جلالته كل شيء وتوجه لجناح زوجته، وحين وصل كان صوت بكاء المولود يملأ المكان. سأل جلالته الأطباء عن حالة المولود، فطمأنوه. أحس بالسعادة، أخيراً صار له ولى عهد بعد أن تجاوز الخمسين، وكاد أن ييأس، لولا زوجته الجديدة الشابة التى حققت له الحلم. وفتحت زوجته المجهدة من الولادة عينيها وسألته: سعيد يا جناب السلطان؟
- جداً.
- ماذا ستسميه؟
- أنا أتفاءل بحرف الفاء، وقد اخترت اسمه منذ عرفت أنك حامل. سأسميه «فاروق».
وأمر جلالته بإطلاق المدافع ابتهاجاً بمولد ولى عهده، وإطلاق المساجين، كما قرر أن يكون اليوم يوم عطلة للمصالح الحكومية والبنوك.

- التتويج على الطريقة السلطانية
استدعى قائد كلية وولتش العسكرية بانجلترا الأمير فاروق إلى مكتبه. بدا على وجهه الحزن. قال له: الخبر الذى سأقوله لك ليس سعيداً، لكن يجب عليك أن تكون رابط الجأش. وظهر فى عينى الأمير القلق. جف ريقه فلم يستطع السؤال. توقع الشر. قال قائد الكلية: لقد توفى والدكم. ويجب أن تعود إلى مصر لتبدأ مرحلة أخرى من حياتك. أخلص التعازى لسموكم.
عاد فاروق لمصر ليتولى الحكم ولم يبلغ سن الرشد بعد. وتعين الأمير محمد على رئيساً لمجلس الوصاية عليه حتى يبلغ رشده. وقرر الأمير محمد على أن يكون حفل تنصيب الملك الشاب على طريقة تنصيب الخلفاء العثمانيين، أى أن يتم التنصيب فى مسجد كبير، ويقوم شيخ الأزهر بتقديم سيف رأس الأسرة العلوية: محمد على باشا، للملك الشاب، فيكون تنصيبه ليس تنصيباً مدنياً كما ينص الدستور، بل تنصيباً دينياً.
كان الوفد هو الذى يتولى الحكم، ورفض الوفد هذا الاقتراح. أصر على أن يتم التتويج فى البرلمان، وانقسمت الآراء. وقف مع التتويج بالشكل العثمانى: الأزهر، والإخوان المسلمون، وأحزاب الأقلية، وبعض المفكرين، ومنهم العقاد الذى عاش ينادى بالليبرالية. ووقف على الجانب الآخر: الوفد، وصحفه، والمفكرون المؤمنون بالحكم المدنى وضرورة احترام الدستور. وانتصر الوفد، وفشلت فكرة الولاية الدينية التى كان دعاة الخلافة يريدونها نقطة بداية لتغيير نظام الحكم فى مصر.

- الانتقام
قال على ماهر باشا لصاحب الجلالة: الوفد يجب أن يدفع ثمن معارضته لجلالتكم.
- كيف؟
- المسألة غاية فى البساطة. تعنت معهم فى كل ما يفعلونه أو يطلبونه من جلالتكم، وبهذا سيظهرون أمام الشعب فى صورة غير مرضية، وحينئذ يسهل إبعادهم. وليكن هذا درساً لهم وللآخرين الذين يمكن أن يفكروا فى معارضتك بعد هذا.
وبدأ التعنت. وبدأ الوفد يشكو. وذهب مكرم عبيد باشا سكرتير عام الوفد لمقابلة مستر كيلى، الرجل الثانى بالسفارة. قال له بكل أسى وأسف: إن الوفد يفكر فى عرض الأمر على البرلمان، وقد يطلب إقالة الملك، وتعيين غيره من أمراء الأسرة المالكة. لكن كيلى لم يفعل شيئاً. بعد هذا بدأ الملك الهجوم. وأطلق رجل من حزب مصر الفتاة الرصاص على النحاس فى نوفمبر 1937، لكن النحاس لم يصبه سوء، وتبين أن المحرض على القتل هو المستشار العسكرى للملك. وبعد هذا بشهر تقريباً أقال الملك الوفد من الحكم، ليكون عبرة لكل من يفكر فى معارضة جلالته، وبدلاً من أن يكون ملكاً دستورياً تحول إلى ديكتاتور.

- هامش 1
فى الوقت الذى كان يجرى فيه هذا كانت الكلية الحربية تفتح أبوابها لأول مرة، بعد معاهدة 36، لأبناء الشعب لدخولها، ودخلها من أبناء الطبقة الوسطى: أنور السادات ابن الكاتب بالمستشفى العسكرى، وجمال عبد الناصر ابن البوسطجى، وغيرهما. وكانوا جميعاً فى سن الملك تقريباً.

- حسابات غير دقيقة
قال جلالته لعلى باشا ماهر: ما رأيك فيما يحدث يا على باشا؟ الإنجليز منذ بدأت الحرب العالمية يضعون كل إمكانات مصر تحت تصرفهم، وقد ضقنا باحتلالهم، ألا ترى أن الأفضل لنا أن نفتح طريقاً للحوار مع هتلر. صمت على باشا لحظة، ثم قال: عدو عدوى صديقى، والاتصال بهم يعتبر موقفاً وطنياً، ومحاولة للتخلص من الإنجليز.
- كيف نتصل بهم؟
- دع هذا الأمر لى.
وبدأ التواصل مع ألمانيا، وبعد ذلك مع الإيطاليين، حلفائهم. لم يكن هذا خفياً على البريطانيين. تصرفوا بهدوء قدر الإمكان لكن بحسم، وحين توالت هزائمهم وصار موقفهم صعباً فى ميدان القتال رأوا أن الأمر لا يحتمل المناورات. واستدعى السفير البريطانى رئيس الوزراء حسين سرى باشا:
- خيراً يا جناب السفير، فيم تطلبنى؟
- أريد أن أنصحك
- وأنا أقدر نصيحتكم دائماً، بم تنصحنى يا سيادة السفير؟
- بتقديم استقالة حكومتك.
نظر حسين سرى للسفير مندهشاً. لم ترمش عينا السفير. واصل حديثه: بصراحة حكومتك ضعيفة. البلد غير مستقر. المظاهرات لا تتوقف. لابد أن يتولى الحكم حزب يثق الناس فيه، ويمكنه تحقيق الاستقرار. هز سرى باشا رأسه بالموافقة، وقدم استقالته لصاحب الجلالة.
فى صباح 4 فبراير 1942 قابل السفير رئيس الديوان الملكى، أحمد حسنين باشا، ووجه له إنذاراً: إذا لم أبلغ قبل السادسة مساءً بتكليف مصطفى النحاس باشا بتشكيل الحكومة فليتحمل جلالته تبعات ذلك.  كان التهديد واضحاً، لكن الملك رغم هذا قرر أن يناور. استدعى رؤساء الأحزاب. دعا إلى حكومة إئتلافية بدلاً من حكومة وفدية. رفض النحاس الحكومة الإئتلافية لأنه يعرف أن أحزاب الأقلية ستعوق عمله. وقبل الموعد المحدد لانتهاء المهلة كانت الدبابات البريطانية تحاصر القصر، وفى التاسعة مساءً ذهب السفير البريطانى، ومعه قائد القوات البريطانية، وبعض الضباط الإنجليز إلى القصر، وقابلوا جلالته، وقدم له السفير ورقة واحدة:
- تفضل يا صاحب الجلالة، وقع هنا من فضلك
- ماهذا؟
- وثيقة تنازلكم عن العرش.
وأمسك جلالته القلم، وكاد أن يوقع، لولا أن تدخل أحمد حسنين باشا، وتحدث إلى الملك باللغة العربية، وتغير الموقف تماماً، وافق جلالته على استدعاء النحاس، وتكليفه بتشكيل الحكومة، وطلب معتذراً أن يعطيه السفير فرصة ثانية. وكان هذا اليوم نقطة سوداء فى تاريخ بريطانيا، والوفد. لكن السبب فيه كانت تصرفات جلالته.

- هامش2
أحس الضباط الذين دخلوا الكلية الحربية عام 36 بالإهانة مما حدث، وشاركهم الكثيرون من زملائهم الإحساس نفسه، وبدأوا يفكرون كيف يمكن عدم تكرار هذا.

سهرات جلالته
كان فاروق شاباً، ولم يجد من يقول له قف، واتجه بقوة للمفاسد بلا كابح لنزواته، وتعود على قضاء سهراته فى الملاهى الليلية، خصوصاً الأوبرج والحلمية. وتصادف ذات يوم أن دخل ملهى الحلمية فوجد أربعة وزراء.
 غادر اثنان منهم المكان بمجرد رؤية جلالته. وبقى وزير الحربية أحمد عطية باشا، ووزير المالية عبد المجيد بدر باشا، همس عبد المجيد لصاحبه: المفروض أن ننصرف. سأله مستنكراً: لماذا ننصرف؟ هل جئنا لننحرف وجاء جلالته ليصلى؟ ولم ينصرف الوزيران.
فى اليوم التالى طلب جلالته من رئيس الحكومة إقالة الوزيرين، وبالفعل أقيلا. خبط الوزير كفاً بكف وهو يتساءل: هل السهر فى الملاهى الليلية حلال لجلالته حرام على الوزراء؟

- هامش 3
حين كان جلالته يسهر فى الملاهى الليلية كان الضباط الأحرار قد كونوا تنظيماً سرياً للإطاحة به.

- توريط مصر فى الحرب
وقف حيدر باشا، وزير الحربية، زنهاراً أمام جلالته. قال له جلالته: حيدر باشا، لابد أن يتحرك الجيش فوراً لفلسطين. قال الباشا: البرلمان لم يوافق بعد يا مولانا. إحمرت عينا فاروق. قال بغضب: هل يستطيع البرلمان أن يكسر أوامرى؟
وتحرك الجيش قبل موافقة البرلمان، وهزمت مصر.

- هامش أخير
الضباط من أبناء الشعب الذين دخلوا الجيش عام 36، حين تولى جلالته العرش، وزملاؤهم من الضباط الوطنيين، قاموا بالثورة على جلالته يوم 23 يوليو 1952.

- قصيدة الوداع
كما استقبل بيرم فاروق لحظة ميلاده بقصيدة ودعه عند مغادرة مصر بقصيدة. قال فيها:
مقلتش ليه سبب طردك/ حرامى كنت وطلوقه/ عامل لك من حريم الناس/ يا عايق ألف معشوقة/ تيجى لها البيت وتتسلت/ بزهرية وطقطوقة.
والطلوقة هو الثور الذى يستخدمه الفلاحون لتعشير الإناث.
وبعد خروج فاروق بأقل من عام ألغيت الملكية، وأعلنت الجمهورية، وتغير التاريخ.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة