الموضوع أكبر من وزيرة المصريين في الخارج. السفيرة نبيلة مكرم. وأخطر من أن يعالج باعتباره مشكلة أمنية. فالحكاية أخطر من هذا. إنها جرس إنذار يهدد مستقبل مصر

هذه ليست قضية السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة شئون الهجرة والمصريين في الخارج حتي أتوجه إليها بما سأكتبه. ولكنها قضية تمس جوهر الشخصية المصرية. وما جري لنا في السنوات الأخيرة. وعلينا جميعاً نحن سكان وأهل مصر أن نسأل أنفسنا ما الذي أوصلنا إلي المربع الأخير بهذه السرعة المخيفة؟ وفي وقت من المفترض أننا نبدأ عصراً جديداً نبني فيه بلادنا بالفكر والعلم والمدرسة والجامعة والمصنع.
إنني أقول لنفسي ولأهل مصر: لا أستثني منكم أحداً.
والتحقيق الذي نشرته جريدة الفجر في عدد الخميس 28/4/2016، وكتبته الصحفية سمر جابر. وعنوانه التمهيدي يقول: 20 طلبا شهرياً بالسفارات وأمام المحاكم. والعنوان الرئيسي: لجان أمنية تحسم مصير 240 طلب تنازل عن الجنسية المصرية. والعنوان الفرعي: يؤكد 750 شاباً مصرياً تنازلوا عن جنسيتهم المصرية خلال 19 شهراً فقط، منهم 90 شاباً من مدينة الأقصر.
قبل الانطلاق لجحيم القضية. أقول إن المصري إنسان ذو طبيعة خاصة. وليس في ذلك أي شوفينية مصرية. مع أن الشوفينية مطلوبة عند الكلام عن الوطن. حب المصري لوطنه يصل لحدود الفرض. أي أن غيابه مسألة صعبة إن لم تكن مستحيلة.
وقد بحثت كثيراً عن تاريخ هذا الداء لدي الشخصية المصرية. أي تنازل المصري عن جنسيته. ولنكن أكثر دقة ونقول تنازل المصري عن مصريته. لم أعثر علي أرقام تتناول فترات سابقة حتي ندرك حجم هذه الكارثة ومتي أمسكت برقابنا بهذه الصورة الخطيرة.
يقول بريخت إن الأوطان تصبح مهددة عندما ينظر أهلها للأمور غير الطبيعية علي أنها أمور طبيعية. وهو ما نفعله بأنفسنا الآن عندما نمر مرور الكرام علي حوادث خطيرة ووقائع مخيفة. ونحاول أن نري أنها من الأمور الطبيعية التي يمكن أن تحدث ولا تستلزم اهتماماً من أحد.
لقد غير المصريون حكامهم أكثر من مرة. وغيروا اسم بلادهم. وبدلوا من العاصمة. لكنهم لم يستبدلوا حب الوطن بأي حب آخر في حياتهم. حتي في أزمنة الاحتلال وفترات الاستعباد. فإن المصري لم يتراجع بداخله حبه لبلده ودفاعه عنها. فما الذي جري فعلاً حتي نفاجأ بما يجري لمن يطلبون التنازل عن مصريتهم؟ هل يعقل أن عشرين مصرياً يطلبون التنازل عن الجنسية المصرية كل شهر؟.
لا يُحدِّثني أحد عن المبررات. ولا الحكايات. لا يقول لي أحد إن السبب في ذلك هو حصولهم علي جنسية بلدان تمنع قوانينها ازدواج الجنسية. من حق كل دولة في العالم أن تكون لها قوانينها. وأن تنفذها كيف تشاء. ولا أحب سماع قصة هذا الشاب أو ذاك الذي تقدم بطلب إسقاط الجنسية المصرية عنه. فمصر ليست وطناً نحبه عندما نكون سعداء. ونفر منه عندما تهاجمنا التعاسة. من المعروف عن المصري أن أوقات الشدائد تزيده ارتباطاً بوطنه. وأن ظروف المحن تجعله يتحد مع الوطن. ويصحبان كلاً واحداً.
هل ما نعيشه هو إفراز ما بعد التطورات التي مرت بنا؟ أم ما هي الحكاية بالضبط؟ لا أستطيع أن أدعي أن المصريين سعداء الآن. بل أوشك أن أسأل أي مصري: هل أنت سعيد اليوم؟ وهو سؤال أعرف إجابته مسبقاً. للتعاسة أسبابها المعروفة التي يمكن للإنسان أن يعددها. ولكن السعادة تبدو إحساساً غريباً. أعرف أن البطالة تهدد الشباب. وارتفاع الأسعار يخيف الجميع. وأن من يمرون بمرحلة المراهقة فقدوا القدرة علي الحلم. وأن فائض الكراهية يملأ المجتمع المصري بصورة لم يمر بها. ولكن هل تكون هذه هي النتيجة؟!.
عرفت من تحقيق الفجر أنه بعد أن يتقدم الشاب بطلب التنازل عن الجنسية تجتمع لجنة من الأمن الوطني والأمن العام والمباحث الجناية للتعرف علي أسباب التنازل. وتقوم اللجنة بالبت في طلب التنازل خلال شهرين من تقديم الطلب. وقد تمتد المدة إلي ثلاثة أشهر أو يزيد قبل الاستجابة للطلب. وإن رُفِض الطلب من حق صاحبه اللجوء إلي القضاء ممثلاً في مجلس الدولة للحصول علي ما يريد.
بعض الحالات القليلة. ربما كان التنازل عن الجنسية. ليفلت من العقاب مثل الشاب إبن القيادي الإخواني المتورط هو ووالده في أحداث رابعة وسُجِن. وتنازل عن الجنسية لكي يهرب من مصر. وما زلت أذكر علي مضض عندما شاهدت الشاب لحظة وصوله إلي الأرض الأمريكية عندما قَبَّلَ التراب لحظة وصوله. وكأنه وصل لأرض الأحلام. أو أن وصوله كتب له شهادة ميلاد جديدة.
الموضوع أكبر من وزيرة المصريين في الخارج. السفيرة نبيلة مكرم. وأخطر من أن يعالج باعتباره مشكلة أمنية. فالحكاية أخطر من هذا. إنها جرس إنذار يهدد مستقبل مصر.