نوال مصطفى
نوال مصطفى


يوميات الأخبار

حكاية صورة أبيض وأسود

نوال مصطفى

الثلاثاء، 25 أغسطس 2020 - 05:25 م

 

وأصبح مشاهير المجتمع المصرى وكذلك الأجانب والعرب زبائن دائمين لهذا المحل الفريد الكائن بشارع قصر النيل فى وسط البلد.

 كلما التقيتها تسلل إلى أعماقى شعورعجيب، هو مزيج من الدهشة مصحوبة بالبهجة. شئ ما فى ملامح وجهها يجذبنى إلى التطلع إليها، شئ أشبه بتأملك للوحة فنية أصلية لفنان تدهشك خطوطه وألوانه، وحيرتك الداخلية حول هذا الخلق، وتلك الموهبة الفريدة التى حولت ورقة بيضاء، صماء إلى حياة يتحرك داخلها كائنات، تنطق بمعانٍ وأحاسيس مختلفة ولدت بين أطراف ريشته وباليتة ألوانه.
هكذا أرى «لوسى» صاحبة أشهر وأقدم صالون لتقليم وتهذيب الأظافر «المانيكيور والباديكيور» فى مصر، لوحة إنسانية شديدة الجمال، بطلة قصة حياة جديرة بأن تروى. كثيرون هم الأبطال الحقيقيون الذين يعيشون بيننا. أبطال لقصص تصلح أفلاما وروايات لكنهم بشر عاديون يؤثرون العيش فى هدوء وبساطة، بعيدا عن الأضواء. هؤلاء الذين يطيب لى أن أسميهم «أبطال من لحم ودم الواقع».
ولدت «لوسى» فى حى شبرا بمصر لأبوين من الأرمن، وفى سن الخامسة عشرة التقت بحب عمرها «جيمى» الذى دعاها لتعلم مهنة «المانيكيور والباديكيور» فى محل الأحذية الشهير «باتا» الذى خصص جزءا من مساحته لتقديم تلك الخدمة لزبائنه، فكرة راقية، وأداء متحضر، أن يشعر الزبون براحة قدميه أولا، ثم يشترى الحذاء المناسب له. بالطبع كانت تلك الأفكار العصرية سمة من سمات المجتمع المصرى فى خمسينيات القرن الماضى، والتى شهدت بكل أسف تراجعا مزريا تأثرا بالفكر الوهابى الذى انتشر فى مصر بداية من سبعينيات القرن الماضى انتشارا مخيفا.
تعلمت لوسى المهنة على أيدى أجانب ومصرى وحيد هو حبيبها الذى أصبح زوجها جيمى. تقول «لوسى»: جيمى كان نفسه نفتح المحل بتاعنا إحنا ونشتغل مع بعض بعد ما أحبنا الزبائن، وكانوا سواء مصريين أو أجانب يطلبوننا بالاسم.
تحقق حلم الحبيبين، جمعتهما صورة أبيض وأسود فى افتتاح محلهما الذى أصر «جيمى» أن يحمل اسمها «لوسى» فى الخامس من ديسمبر عام 1960. لم تمض إلا شهور قليلة على الافتتاح حتى ذاعت شهرة محل «لوسى» الذى أصبح ملاذا جميلا لكل من يبحث عن راحة جسمه التى تبدأ براحة القدمين. وأصبح مشاهير المجتمع المصرى وكذلك الأجانب والعرب زبائن دائمين لهذا المحل الفريد الكائن بشارع قصر النيل فى وسط البلد.
«نجيب محفوظ كان ييجى تسعة وتلت، يفضل يتمشى فى الممر لغاية ما ييجى ميعاده تسعة ونص بالدقيقة نلاقيه بيفتح الباب ويدخل. كان بيجيلنا كل خمستاشر يوم. وفضل كده طول حياته والأجانب عندنا كانوا يحبوا يتصوروا معاه. يوم ما اتضرب من الإرهابيين الأشرار كل الزبائن بكوا وكنا كلنا زعلانين جدا».
مين زبائنك تانى يا لوسى؟ ترد بحماس: محمد حسنين هيكل، على حمدى الجمال، رشدى أباظة، تحية كاريوكا، سامية جمال، نجوى فؤاد، فؤاد المهندس، عمر الشريف، أحمد رمزى. كل نجوم الزمن ده كانوا زبائن دائمين.
الجميل والمدهش أن لوسى رغم وجود عاملات وعاملين كثر يعملون عندها إلا أنها لا تزال تعمل بيديها فى مهنة تتطلب الدقة الشديدة والتركيز. رحل «جيمى» منذ زمن طويل، لكنها تعيش على ذكراه - حتى الآن - وتتابع حلمهما معا. يحمل مسئولية المحل معها إبنها «رأفت» الذى تعلم المهنة منذ طفولته المبكرة وبرع فيها كوالديه. وطور فى أساليب الأداء ليصبح امتدادا رائعا لـ «جيمى» و«لوسى».
أتأملها بعمق، فأراها أسطورة تجسد فن الحياة ومعناها، «لازم اشتغل، باصحى كل يوم الساعة خمسة وأنزل ستة صباحا، أركب عربيتى وآجى بدرى جدا على المحل، أول واحدة، وأقعد لغاية خمسة بعد العصر. بتسوقى بنفسك يا «لوسى»؟ أيوه طبعا وباسافر العين السخنة فى الأجازة وأنا اللى باسوق العربية. نظرت إلىّ فى نهاية حوارى معها نظرة نافذة وقالت: لو ما عملتش كده يبقى إيه معنى الحياة ؟ الشغل، الزبائن والناس اللى باشوفهم فى المحل كل يوم. العساكر وأمناء الشرطة اللى بيرحبوا بى كل يوم الصبح بدرى، ويساعدونى علشان أركن قدام المحل، بقوا حافظين شكلى وإسمى. هى دى الحياة. أما الموت فأنا مش بافكر فيه خالص، وقت ميعادى ربنا حينادينى. إيه فى كده يخوف أو يقلق؟

يسرا ترفع الأنقاض
فاجأتنى الفنانة القديرة يسرا بارتدائها تى شيرت ابتكره مصمم الأزياء اللبنانى العالمى زهير مراد لدعم بلده لبنان، التيشرت يدعو العالم كله للمشاركة فى الحملة التى أطلقها زهير تحت اسم «rise aches» أى إرفعوا الرماد من أنقاض التفجيرات البشعة التى وقعت فى مرفأ بيروت قبل حوالى شهر.
يسرا فنانة تدرك قيمة الفن وأهمية دورالفنان فى تبنى القضايا الحقيقية التى تمس الإنسان فى كل مكان، خاصة أبناء وطنه العربى الذى يواجه من أقصاه إلى أقصاه أسوأ حصار سياسى على مر تاريخه الحديث. الجميل أن الكثير من الفنانات والفنانين حذوا حذو يسرا وارتدوا التيشرت للمشاركة فى حملة زهير مراد الإنسانية الواسعة لجمع تبرعات وأموال تساند الشعب اللبنانى فى محنته القاسية. برافو يسرا وكل الفنانات والفنانين الذين تحمسوا لهذا العمل الإنسانى المهم.

أقر وأعترف !
لابد أن أصارحكم الآن بهذا الكلام من باب الصدق مع النفس ومن منطلق أن الاعتراف بالحق فضيلة. ليس كل الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعى شرا خالصا كما كنت أعتقد زمان. أعترف أننى كنت معادية وكارهة لهذا الانفصال والتشتت الاجتماعى الذى أطلق عليه «التواصل الاجتماعى». أرى فى تلك المواقع عالما موازيا للعالم الحقيقى افتراضيا لكنه يحمل نوايا مستترة لتوجيه البشر فى كل مكان على الأرض إلى موضوعات بعينها، منتجات بعينها، أجندات بعينها، أى إنه عالم غير برىء تماما. صفحات ومواقع مليئة بما يغرى الشباب ويلهيهم عن أشياء أهم يجب أن يمنحوها أرواحهم وعقولهم: القراءة مثلا، الاستماع إلى الموسيقى، الذهاب إلى المسرح، الارتماء فى أحضان الطبيعة خاصة فى الأجازات والويك إند. لكنى أعترف أمامكم الآن أننى كنت مخطئة، أولا لأننى وقعت فى فخ التعميم، وهذا يقود إلى استنتاجات خاطئة وخطيرة. ثانيا أننى لم أكن أرى إلا النصف الفارغ من الكوب وأتجاهل النصف الملآن. والآن تعالوا أحدثكم عن مثلين فقط من أمثلة كثيرة، إيجابية ومضيئة صادفتها أثناء تجولى فى الفضاء الافتراضى، شابتان اتخذتا من الفيسبوك منصة محترمة لهما، قدمت كل منهما من خلال منصتها المفيد والممتع والمحفز لغيرها من الشباب وحتى الكبار. هؤلاء وغيرهم كثيرون غيروا رأيى بشأن منصات التواصل الاجتماعى.. وها هما القصتان:

بوك مارك
هذا هو اسم الجروب المحترم الذى أنشأته شابة رائعة اسمها سارة ابراهيم على الفيسبوك. واضح طبعا من عنوانه إنه جروب خاص بالقراءة والكتابة، استطاعت أن تضم إليه كبار الأدباء وعتاة القراءة المحترفين فى مصر، بالإضافة إلى الجمهور المستهدف من إنشاء الجروب: مجموعة كبيرة من الشباب الذين يحلمون بدخول هذا العالم الأسطورى ويحتاجون لمن يأخذ بأياديهم فى البداية ويدلهم على الطريق. بحثت عن المعنى الدقيق للاسم باللغة العربية فوجدته يعنى «المرجعية» أو «العلامة الفارقة» bookmark.
الجروب نجح بجهد خارق من مؤسسته فى اجتذاب أكثر من 28 ألف عضو فى حوالى ستة أشهر من فبراير الماضى 2020وحتى الآن. أما التفاعل الذى يحدث بين الأعضاء فله عدة محاور: عروض كتب مختصرة ومبسطة تقدمها أدمن الجروب سارة ابراهيم بأسلوب بسيط وجذاب يناسب منصة الفيسبوك، اقتراحات بأغلفة الكتب الجديدة، ندوات لمناقشة الكاتب فى عمل ما له ويشارك فى المناقشة أعضاء الجروب بعد أن يقدم اثنان أو ثلاثة من المتحدثين قراءتهم للنص.
يقوم الأعضاء بتقديم إجابات على أسئلة الأعضاء الآخرين حول الأماكن التى يمكن أن يوجد فيها عنوان بعينه. وضعت سارة مجموعة من القواعد المهمة التى يجب أن يلتزم بها الأعضاء وأهمها الحق فى النقد لكن دون تجاوز، مع الالتزام بحدود الأدب والاحترام. كذلك ينشر الكتاب تجاربهم مع الكتابة والقراءة. برافو سارة جهد رائع أتمنى أن تستمرى وأن يصل الجروب إلى المليون قريبا إن شاء الله.

مذيعة من البيت
أكثر ما يسعدنى هى الأفكار البراقة التى تخرج من رحم المحن، تلمع بضوء شفاف فى عتمة الظروف القاسية، وتكتمل فرحتى عندما يكون صاحب هذه الفكرة شابا أو شابة. هذه هى القصة الثانية التى استطاعت أن تغير موقفى تجاه منصات التواصل الاجتماعى. إنها قصة شروق فهمى، شابة تخرجت فى كلية الإعلام قسم إذاعة وتليفزيون، تتقن الإنجليزية، لكن قبل كل هذا وبعده، إنها تملك شغفا حقيقيا وحلما كبيرا فى أن تصبح مذيعة تقدم فكرا مختلفا يناسب العصر، يخرج عن التقليدية والأفكار المكررة ويواكب تقنيات ومدارس الإعلام الجديد فى العالم كله.
تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن. فبينما كانت تستعد بأفكار جديدة واسكريبتات لبرامج تنوى تقديمها إلى القنوات التليفزيونية المعروفة، وبعد أن تحدد لها فعليا العديد من مواعيد المقابلات مع المسئولين عن البرامج فى هذه القنوات، فجأة تهب علينا، وعلى العالم كله رياح «كورونا» أو كوفيد 19 الكاسحة!!
ماذا فعلت شروق بعد أيام من الحيرة والكآبة؟ نفضت عن نفسها كل ذلك سريعا، أعلنت التحدى لهذا الكابوس العالمى المخيف. من قلب اليأس ولدت فى ذهنها فكرة براقة كلها أمل. أن تصنع لنفسها بنفسها منصة، وتقدم من خلالها أفكارها وإبداعها التليفزيونى. أعدت حلقات محورها الأمل وبث الطاقة الإيجابية خاصة عند الشباب الذى اضطر للمكوث فى البيت أياما وشهورا طويلة. أسمت برنامجها «مذيعة من البيت» وقامت هى بكل المهام: الإعداد، التصوير، الإضاءة، التقديم، المونتاج.
أسست صفحة البرنامج على الفيسبوك ووصلت الآن إلى حوالى ثمانية آلاف متابع فى ستة أشهر. حاورت أثناء الحظر الذى عاشته معظم دول العالم معيد فى أسبانيا ومخرج فى إيطاليا عن طريق موقع زووم الذى استخدمته فى إنتاج كل حلقات البرنامج. قدمت حوارات مع شباب من رواد الأعمال فى مصر حققوا نجاحات بمفردهم، وأسسوا شركاتهم. خرج من البرنامج حتى الآن 40 حلقة منشورة على الفيسبوك.
الغريب أن عروضا مغرية ماديا للعمل فى أكثر من شركة للعلاقات العامة قدمت لها، لكنها متمسكة بحلمها لا تزال، رغم إنها تموله من مالها الخاص ولم تتقاض عنه أى أجر حتى الآن. هكذا يكون الشباب الجاد صاحب الهدف. ومرحبا بالفيسبوك!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة