إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


بالشمع الأحمر

العبث بقانون الصدفة!

إيهاب الحضري

الأربعاء، 26 أغسطس 2020 - 06:58 م

 

قبل سنوات كانت المواسم محكومة بمعايير زمنية حاسمة، لكن البشر تدخلوا ليعبثوا بموازين الطبيعة، ويجعلوا حياتنا سلسلة مواسم ممتدة، نغادرها وقد نعود إليها مُسيّرين لا مُخيّرين، وفق سطوة» السوشيال ميديا» التى لا يعلو صوت على صوتها.
خلال الأسبوعين الماضيين حل موسم التين الشوكي، ليتداخل مع واقعة تحرش كبرى. لن أفتعل مقارنة متعسفة تتخذ من الأشواك عاملا مُشتركا بين الموسمين، غير أن الرابط الأكثر أهمية من وجهة نظرى، هو أننا نهزم المنطق بالضربة القاضية، فنتجاهل المسببات والنتائج، وننساق وراء مشاعر حقيقية، وأخرى مُفتعلة لمجرد ركوب الموجة السائدة. ننسى قضايا بالغة الأهمية، مقابل أخرى تتفجر بالصدفة، وعندما تتكرر الصُدف يُصبح الشك حاضرا، فى أن هناك من يهدف فقط لقياس مدى انسياقنا وراء الانفعالات المؤقتة.
تحدث الكثيرون عن واقعة بائع التين الشوكي، الذى حاولت موظفة الحى إجلاءه من الشارع بأسلوب متعسف. لا تهمنى الواقعة نفسها بقدر ما تشغلنى دلالاتها، التى لم ينتبه الكثيرون لها، لأن الجدل عادة هو الهدف وليس التحليل، لهذا لم يكن غريبا أن يتوارى البائع فى الظل سريعا، لتحتل صدارة المشهد بعد أيام، بائعة تين شوكى أخرى، استقبلتها وزيرة الثقافة وساعدتها على تحقيق حلمها بدراسة الغناء، ولولا الضجة التى أثارها فيديو البائع الأول، ربما ما انتبه أحد إلى الأخيرة.
كانت موظفة الحى تمارس مهام عملها، وتحاول إعادة الانضباط إلى الشارع، لكن السُلطة التى تملكها جعلتها تتسم بالشراسة، ربما أساء لها البائع كما قالت، لكن حتى لو فعل كان بإمكانها أن تأخذ حقها بوسائل يتيحها لها القانون وصلاحيات وظيفتها. لم تفعل ذلك، وفى غمرة انفعالها نسيت سبب المشكلة الأصلي، وبدلا من الدفاع عن المظهر الجمالى للشارع، حاولت تشويهه بإلقاء التين على الأرض، وكأن الهدف هو» تكدير» البائع بأية طريقة، وليس» إماطة أذاه عن الطريق»!
يُنسينا التعاطف المؤقت كثيرا من الأمور، فعادة ما ننتقد فرض الباعة الجائلين سطوتهم على الطرق، ونتساءل عن الدور الغائب للدولة، ومع بدء تطبيق النظام تنطلق اعتراضاتنا على عدم وضع الأبعاد الاجتماعية فى الاعتبار، ويأتى التطبيق الخاطئ للقانون، كى ينقذنا من مأزق تناقض ردود أفعالنا، ونغفل عن القضية الأساسية وننشغل بالفروع. الأمر نفسه ينطبق على الطالبة البائعة، فقد دفعتها الحاجة إلى العمل بجانب دراستها، وكان يمكن لحياتها أن تمضى فى السياق ذاته، وتظل تبكى طوال عمرها على موهبتها الضائعة، لهذا سعدنا بالتفات الوزيرة إليها، ونسينا أنه لو كانت هناك آليات مُعتمدة لاكتشاف المواهب، لما وقفت الفتاة فى انتظار صُدفة تمنحها بعض الأمل.
الصُدفة فى الحالتين كانت البطل إذن، حتى لو كانت مُفتعلة بدرجة ما، فلو لم تلتقط إحدى الكاميرات واقعة البائع، لظل إلى الآن يندب حظه، ولما اهتم البعض بمراقبة باعة» الصنف» نفسه، ومن حسن حظ الفتاة أنها لم تقم باختيار مُنتج آخر لبيعه، وإلا لبقيت موهبتها الغنائية دفينة! جعلها» التين الشوكي» تتقدم خطوة على طريق تحقيق حلمها، ونال من قام بتصويرها التفاعلات المطلوبة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصاعد سقف أحلامه بأن تتحول هذه التفاعلات ذات يوم إلى مقابل مادي.
بعيدا عن أى جدل أعترف بأننى أحب التين وإن كنتُ أكره أشواكه، وأتعاطف مع بائعيه الذين يتناسون الألم ليمنحونا حلاوته، لكنى سأظل مُتحفظا على الصُدف التى تعبث بعقولنا حتى لو أنصفتهم، لأننى موقن أن هناك من يبرعون فى التلاعب بكل القوانين، ومن بينها قانون الصدفة!

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة