د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

من الخطاب الدينى المهجور

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 27 أغسطس 2020 - 06:31 م

فمما لا شك فيه أن العلاقات سوف تزداد سوءا بين الناس بسبب تحول من تحول، لأن المعاملة بالمثل منطقية عند الأغلب من الناس.

استثمار القرآن الكريم فى حياتنا
 السبت:

إن استثمار القرآن الكريم فى حياتنا من أكبر آيات تدبره الذى أمرنا ربنا تعالى به ؛ فلا نتوقف عند النص المحدد بسياقه، والبين فى موقفه، ومن ثم قال المفسرون : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لكنى أتوقف اليوم عند جانب آخر جديد من جوانب استثمار القرآن الكريم، ألا وهو امتداد النص القرآنى من الحسى إلى المعنوى، مع مراعاة وجه الشبه الذى لا يختلف فيه اثنان من العقلاء، ومن ذلك قول الله تعالى فى سورة القصص الآية ( 31): «وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ».
أمر الله تعالى موسى أن يلقى عصاه، فلما ألقاها تحولت من عصا معروفة قطعة من الخشب إلى ثعبان يتحرك ؛ فولى خائفا ؛ فناداه ربنا أن أقبل ولا تخف؛ لأنك من الآمنين، وكان إلقاء العصا من يده عليه السلام وتحولها من عصا إلى ثعبان آية من آيات الله له، ومعجزة من معجزاته، وهو تحول حقيقى لا وهمى، وقد عرف سحرة فرعون تلك الحقيقة، ومن ثم آمنوا برب موسى وهارون ونحن أولى بالخوف من موسى عليه السلام لما نرى من تحول حقيقى، والتحول الحقيقى الذى نراه ليس تحول العصا إلى ثعبان، وإنما تحول الأخ الشقيق إلى عدو مبين، ومن تحول الزوج الذى هو منوط بالرعاية والإنفاق على أهله إلى شيء فارغ، يريد القعود فى البيت لتنفق عليه زوجته، ومن تحول الزوجة التى سكن لزوجها، وبيته، وأهله، وفيها يجد راحته ومتعته إلى قاتلة لزوجها، ومن تحول الوالدين اللذين قال الله فيهما «وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا» إلى غريبين بعيدين عن التربية والرعاية لأولادهما يسعى كل منهما إلى غايته، لا يحمل هم من أنجبه، ومن تحول الجار القريب الذى هو أقرب الناس إلى جاره، ينفعه ويغيثه، ويعينه، وينفعه إلى أبعد الناس عنه فى تلك المعانى، كل شيء تقريبا فى حياتنا قد تحول، من عطاء إلى منع، ومن صلة إلى قطيعة، ومن رحمة إلى عذاب، ومن قرب إلى ابتعاد، ومن أمان إلى رعب، ألا ترى إلى أثيوبيا كيف غاب عنها معنى الجوار، وبنت سدا يحقق لها فيما ترى منفعة، ولا يعنيها أن يموت جيرانها عطشا بمنع سدها الماء عنهم، ومن العجيب أن يطلق عليه سد النهضة، فأى نهضة تلك التى تقوم على الذاتية المحضة وليهلك من يهلك وليمت ما يموت!
ومن تلك التسمية العجيبة أقول إن من عجائب هذا التحول أن يرى من تحول نفسه على صواب وتحضر، غير ناظر حتى إلى صروف الدهر التى لا يسلم منها أحد ؛ فالجار فى حاجة إلى جاره حين يتحول الزمن من طيب إلى خبث، ومن هدوء إلى عاصفة، هل تفكر كيف يدعو جاره مستغيثا به على نوائب الزمن، وقد جار عليه قبل، وعصف به !
وليس كل الناس أبابكر رضى الله عنه الذى عدل من مقاطعة قريب له تحدث فى شرف ابنته أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، وخاض مع الخائضين فيها إلى وصله كما كان يصله قبل خوضه، وما عدل الصديق من تلقاء نفسه، وإنما بأمر ربه الذى قال فيه وفى مثله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم، وقد روى أنه رضى الله عنه قال فور نزول ذلك فى سورة النور بلى أحب أن يغفر الله لى.
فمما لا شك فيه أن العلاقات سوف تزداد سوءا بين الناس بسبب تحول من تحول، لأن المعاملة بالمثل منطقية عند الأغلب من الناس، وما أكثر ما قال الله تعالى فى كتابه الكريم «لعلكم تعقلون»، وليس من العقل والتفكر أن تتحول عن أخيك، وتسأله حين ضعفك أن ينسى ما كان منك حين تحولت عنه ؛ فلم تعطه حين كان محتاجا إلى عونك وعطائك، وقد قال تعالى: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِـي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِـي حَدِيثٍ غَيْرِه»ِ نهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ألا يقعدوا مع المشركين ساعة خوضهم فى آيات الله عز وجل، فإذا فرغوا من هذا الخوض عاد إليهم لسبب ذكره العلامة أبو السعود فى تفسيره، هو تحقيق المصلحة بيننا وبينهم، فلو أن المؤمن قعد معهم وهم يخوضون فى دينه فلن يسكت، بل سيرد عليهم أو يسكت شاعرا بالأذى الذى يترتب عليه عدم تحقيق المصلحة، وهذا سر التعبير بقوله تعالى: حتى أليس نهيه أبدا وقال عز وجل: «وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» الأنعام (108).
حيث نهى الله عن سب الكافرين لسبب أنهم سوف يسبون ربنا سبحانه وتعالى.
ما قال الله سبوهم ولا يهمنكم ذلك، فهم أهل للسباب، وإن سبونى فسوف أقطع ألسنتهم، وهو سبحانه القادر على ذلك، وعلى كل شيء، لكنه تعالى يعلمنا الأخذ فى الاعتبار ما يترتب على سلوكنا من عباده، ونحن لسنا فى تلك الحياة نعيش حرب عصابات، حتى ندخل الله عز وجل فى حربنا، وإنما هذا الدين منهج حياة، تتحقق فيه معنى السلامة بسلوكنا كما يتحقق فيها كل السلامة بنصر الله لنا إذا التقينا، ودعتنا الضرورة إلى هذا التلاقى فى ساحة القتال الذى أشار فيه ربنا تعالى إلى التحرف فيه، وما أغنانا عن هذا ومعنا الله عز وجل.
هذا من الخطاب الدينى المهجور الذى لم ينل حظه من الذيوع بين الناس الذين أشيع فيهم قل للأعور يا أعور فى عينه، وقل الحق والله معك، جهلناهم، وأعميناهم عن ذلك السبيل المنصوص عليه كتابا وسنة ألا ترى إلى الحديث الصحيح الذى قال فيه صلى الله عليه وسلم: لا يسب أحدكم والديه؛ فسأله الصحابة الأخيار : وهل يسب أحد والديه!
قال عليه الصلاة والسلام: نعم، يسب الرجل أبا الرجل؛ فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه.
وما سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال التعجبى إلا لأنهم تصوروا أن الرجل هو الذى يسب والديه مباشرة من تلقاء نفسه وهذا غير معهود، ومن ثم بين لهم النبى صلى الله عليه وسلم أن ذلك يحدث بسب آباء الآخرين، وهؤلاء الذين سمعوا سب آبائهم وأمهاتهم فردوا سبا بسب ؛ فيكون من سب آباء الناس الذين سبوا أباه سابا لسب أبيه، أى هو من سب والديه، ولعنهما بسلوكه، وما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الخطاب الدينى الذى عرفته بقولى : هو كلمة الله سبحانه وتعالى، وكلمة رسوله صلى الله عليه وسلم للمكلفين أى البالغين العاقلين من أجل تحقيق حياة طيبة زكية، ولن تكون الحياة طيبة زكية بسب الوالدين اللذين ما سبا إلا بسبب سب آباء الناس وأمهاتهم ؛ فهلا أسعفنا الناس بهذا الخطاب الدينى المهجور حتى لا يكون مهجورا فيترتب على هجره سب ولعان وسوء فى كل شىء؟
فإما نرينك... أو
الأحد:
ومن الخطاب الدينى المهجور أن الله عز وجل قد يرى -بضم الياء وكسر الراء -المظلوم بعض انتقامه ممن ظلمه على حياة عينه، وإما يتوفاه، وينتقم الله من الظالمين بعد وفاته أو يوم القيامة، قال تعالى فى الآية (77) من سورة غافر: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ».
بهذا نطق القرآن صريحا، وبين المفسرون، أى كما قال تعالى  «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار» وهو يوم القيامة.
والذائع بين الناس أن الله سينتقم من الظالمين عاجلا غير آجل، وما يوده كل مظلوم أن يرى ذلك اليوم الذى فيه يقصم الله ظهر كل ظالم فى حياته ؛ لشفى ذلك غليله، ويفرح به، قائلا: الحمد له، ومن ثم قال العوام (أشوف فيك يوم يا ظالم).
وبلغته أقول : مش شرط تشوف، فاهدأ، وابحث عن سبيل تتخلص فيه من ظلم من ظلمك إن وجدت، لكن كن على يقين أن الظالم لن يفلت من عذاب الله عز وجل، سواء أراك ذلك فى حياتك أو توفاك فلا تراه ؛ فلله حكمة أنت تؤمن بها، ولعل من ثمرتها أو محاولة قراءتها ألا تقعد منتظرا عذاب الله لمن ظلمك، فبئس هذا القعود الذى يجعلك كل يوم بل كل ساعة تقول : هل انتقم الله من فلان الذى ظلمنى ؟ فإن تأخر ألم بك إحساس بغيض يقتل فيك معنى اليقين، فقد تقول : أين انتقام الله ممن ظلمنى!
كما تقول: دعوت الله فلم يستجب لى، وقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذلك.
أما امتثالك للخطاب الدينى -المهجور -بأن تترك أمر انتقام الله له الذى أمر بذلك، وخاطب به رسوله صلى الله عليه وسلم -وكل مؤمن به ؛ فهذا يشعرك بقوة اليقين الذى يتجلى بالانصراف عنه، والنظر فيما وراءك من عمل لصالح دنياك وأخراك، غير مكر صفوك، فلو قعدت تنتظر لما عملت شيئا، وقد تموت جوعا، أو تعيش ولكن عيشة اليائس البائس، ولو رأيت وأنت على تلك الهيئة انتقام الله ممن ظلمك فلن يشفى ذلك فيك غليلا ؛ لأنك يومها ستكون فى حالة كرب وشدة، تشغلك عما ألم بمن ظلمك من عذاب.
ماذا إذا انتفى ذلك الخوف
الاثنين:
ومن العجيب أننا نرى برغم هذا التحول العجيب الذى نرى فى حياتنا انتفاء الخوف، فلا أحد يخاف من هذا التحول، بل يراه أمرا عاديا كما نقول، ولو الأمر عادى لكان عاديا عند كليم الله موسى عليه السلام، ولما خاف حين تحولت عصاه إلى ثعبان، ولما خاف ولم يعقب، فنحن أولى بالخوف من كليم الله ، فتحول العصا حية تسعى بأشد خطرا من تحول الأخ عدوا، وانتفاء الخوف يدل على جنون فينا لما يشخص بعد، أو يدل على تبلد الإحساس فينا، وهو ألعن من الجنون الرسمى كما نقول، وقد حارب الخطاب الدين المهجور مع الأسف تبلد المشاعر، وقد عالجت تلك الفكرة فى كتابى (درس الإحساس فى المثل القرآنى).
ألا ترى إلى قوله تعالى فى النهى عن الغيبة: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه».
لقد بين تعالى سوء الغيبة بمثل حسى، هو أكل لحم الأخ ميتا، وبين أن ذلك شيء مكروه عند الطباع السوية، فكما يكره الأسوياء لحوم الإخوة ميتة عليهم أن يكرهوا تلك الغيبة وهى ذكرالغائب بما يكره سماعه لو كان حاضرا.
فماذا لو قال إنسان: أنا لا أكره أكل لحم أخى ميتا أو حيا مسلوقا أو محمرا فبم يرد عليه غير أن نقول له : لقد رضيت بذلك لأنه لا دم فيك ولا شعور، والدين لا يدعو المتبلدين ولا الذين لا دم فى عروقهم ينبض بحياة، ولو كانوا موجودين فى واقع الحياة فقد جاء الدين ليخلصهم من هذا التبلد، ودرس الإحساس فى المثل القرآنى من الخطاب الدينى المهجور، حيث لم أسمعه فى خطبة جمعة، ولا فى برنامج مما يطلق عليه برنامج دينى، وهو من هذا الخطاب خال، وما كان ليخلو منه لو فقه مقدمه ومعده.
إن عودة الخطاب الدينى المهجور عودة إلى الدين الصحيح، وهو عين الخطاب الدينى الأصيل،وهو فى حاجة إلى جهد أكبر من أن يقال فيه كبير، وأخطر من أن يقال فيه خطير، فقد صرنا فى خطاب دينى بعيد عن مراد الله تعالى، أى بعيد عن الحياة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة