لست من الذين إذا ذهبوا إلى بلد آخر انبهروا ، فلقد سافرت إلى كثير من بلاد العالم وأصبح الانبهار أمرا عاديا ، وصار حزنى على أحوالنا فى مصر أمرا مكررا. ولا أعرف ماذا جرى لى هذه المرة. زاد حزنى على أحوالنا إلى درجة لم أستطع معها أن أتفاداه. كان السبب هو الشوارع التى تحركت فيها بالتاكسى أو مع أصدقاء. كذلك كانت الشواطئ. كذلك كان الطعام. وكذلك كانت المحلات والمولات. أما معرض الكتاب فلم يختلف فى إثارته للحزن من فرط النظام والخدمات والتنظيم والنظافة. لم يلفت نظرى نظافة الشوارع فهذا أمر أتوقعه وأعرفه لكن لفت نظرى اتساعها ونظام البناء فيها الذى لا يجعل اتساع العمارات عبئا على اتساع الشارع. وكذلك تقسيم الشارع إلى مناطق انتظار السيارات وممرات لا يجور فيها أحد على الآخر. وحول الشوارع وبينها أشجار لا تنتهى. اتذكر ما جرى لشوارعنا عبر أربعين سنة وكيف ارتفعت فيها العمارات العشوائية ولا تزال. ونظم بناء قبيحة لا تتسق أبدا مع اتساع الشارع ولا مع مناخنا فى مصر. من الذى فعل ذلك فى شوارعنا؟ من الذى سمح بهدم البيوت القديمة التى حتى الستينيات كانت تحرص على القانون فلا ترتفع أكثر من مرة ونصف عرض الشارع. صارت لدينا أحياء كاملة كانت فى الأصل أرضا زراعية أو بحيرات مياه عذبة ترتفع فيها العمارات لعشرة أدوار وأكثر ولا تزيد شوارعها على ستة امتار. وكلمت قام حى جديد مثل حدائق الأهرام التزم أصحاب العمارات بالقانون فى السنوات الأولى ثم عادوا إلى عادتهم فى المخالفات الواضحة البشعة. هذا أقرب مثال أذكره واذا اردتم الكثير فلديّ ويكفى أن تنظر حول شارع فيصل بالهرم لتعرف أين ضاعت المزارع لتقوم العمارات القبيحة فى الأزقة الضيقة. ولا أريد أن أنغص عليكم حياتكم وأذكر بولاق الدكرور والدويقة وغيرهما فى كل مدن مصر. من الذى فعل ذلك غير الأحياء ورؤساء الأحياء الذين مروا جميعا دون أى محاكمة ففى مصر دون بقية دول العالم ألف طريق وطريق للهروب من المخالفات وبالقانون. أما الأشجار فحدث ولا حرج عن المذابح التى جرت لها أو المحلات والكافيتريات التى اقيمت بينها وشغلت اكثر مساحات الحدائق ، تماما كما حدث مع محطات السكة الحديد الكلاسيكية. محطة رمسيس ومحطة سيدى جابر التى صارت شوهاء مما يظنونه تجديدا فيها. وكل ذلك برضا الأحياء والمحافظات. أما البحيرات فحدث ولا حرج منذ منتصف السبعينيات حيث بدأ ردمها فضاعت بحيرة مريوط وأكثر من نصف بحيرة إدكو وستمائة فدان من بحيرة المنزلة التى كانت سبعمائة فدان فتبقى منها مائة فدان والأمر نفسه فى بحيرة البرلس وبحيرة قارون ، وهكذا وتتباهى الدولة الان بإنشاء مزارع سمكية بعد أن كانت الأسماك تكاد تقفز على شواطئ البحيرات، وتغير مناخ البلاد فمال إلى الحر أكثر مما هو. أما الشواطئ فطبعا تعرفون كيف آلت بعيدا عن المدن للقرى السياحية ولا أعرف كيف يكون من حق القرى السياحية إغلاق الشواطئ أمام الآخرين. أما شواطئ المدن فصارت ملك أصحاب المقاهى والكافيتريات وأندية الدولة العميقة وغير العميقة ولم يعد للشعب من يحنو عليه ! لماذا حدث معى هذه المرة هذا الألم رغم أنى أعرف كل ما أقوله الآن من زمان؟ لا أعرف. وليست لدى إجابة. هل لأنى فتنت بجمال مدينة أبو ظبى ؟ بالتاكيد. لقد أعاد لى النظام والدقة والجمال صورة القاهرة زمان حين اختيرت عبر الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين ثلاث مرات كأجمل مدن العالم. كيف ضاع ذلك الزمن تحت أقدام الجهل والفساد ؟ من يستطيع الآن أن يعيد للقاهرة تاريخها أو للاسكندرية أو المنيا أو ما تشاء ؟