هذا كلام فى العلم والفكر والسياسة فاحتملوه، ذلك أنه لا مخرج لدولة مأزومة: شعباً وسلطة وحكومة ومؤسسات إلا بالأخذ بأسباب العلم ومناهجه وآفاق الفكر ورحابته وتجربة السياسة وانفتاح مجالها العام، كما فعلت دول سبقتنا فى الحداثة والتقدم والنهوض. ولن نسمح لأى من كان أن يعتبر التفاف الناس حول الرئيس ودعمهم له هو من قبيل الرضا، ففارق كبير بين إيمان الناس بالرئيس وصبرهم وانتظارهم ما لا يجىء وبين الرضا، فليس لدينا جميعاً رفاهية التنازل عن دعم تجربة الرئيس والثقة فى وطنيته، رغم ما يصدمنا كل يوم من ممارسات تزيد عذابات الناس وتدفعهم للشك والحيرة واليأس، ولا تخلو شوارعنا ومنتدياتنا وأسواقنا ومواصلاتنا العامة وجرائدنا من نقد حاد لأداء الدولة ومؤسساتها وحكومتها ورجالها لسوء انحيازاتهم وتدنى أدائهم وركاكة معالجاتهم وضعف كفاءتهم. ولا يمر يوم دون أن تطالع أو تشاهد هنا أو هناك مقالات وتصريحات من مؤيديه قبل معارضيه تنعى على الرئيس إصراره على أن يبقى من يخصمون من رصيده ويؤخرون من إانطلاقنا نحو دولة عصرية ديمقراطية حديثة بازغة وناهضة. ولا يمكن لضميرنا الجمعى أن يجتمع على ضلال، ولا يمكن أن يصاب شعب بأكمله بضعف الرؤية وسوء التقدير بينما حكومته وحدها هى المبصرة والعارفة والواعية والصادقة. ولقد سبق أن قلنا هنا وأكدنا أن الرئيس الذى استدعيناه للمسئولية وصنعناه على أعيننا، لو لم يكن موجوداً لاخترعناه حفاظاً على الدولة وأملاً فى المستقبل، لكن حصيلة التجربة حتى اليوم جاءت على خلاف ما توقعه الشعب وما تأمله الأمة. نعم هناك إنجازات هنا وهناك لا يمكن أن ينكرها إلا أعمى أو حاقد، لكنها جميعاً لا تزال رتوشاً على الهامش لتجميل الصورة وسد الثغرات ولا تعبر عن الأولويات العاجلة والواجبة، ولا يمكنها أن تقوم بديلاً لما ارتجاه الشعب وحلمت به جماهير الثورة. إنها مبادرات فردية للرئيس تتغيا طويل الأمد لتعطى ثمارها، وهى متناثرة هنا وهناك، بينما ما نريده عمل مؤسسي فاعل يغير من واقعنا ويرفع معاناتنا ويعطينا دليل صحة على التوجهات والسياسات والانحيازات، الأمر الذى لايزال غائباً ولا تعطى مؤشراته العامة على قرب وجوده، غاية ما نراه أن جبهتنا التى كانت صلبة فى 30 يونيو تتصدع وتتآكل كل يوم، حلمنا بالمشاركة فى الغنم كما فى الغرم فقدمت لنا حكوماتنا المتعاقبة قرارات وتوجهات فوقية وتركتنا ندفع وحدنا الثمن ليزداد الناس فقراً وتنتفخ كروش التجار والسماسرة والمضاربين من رأسماليتنا المتوحشة التى لا تكف عن الصياح تعطينا ليل نهار من خلال أبواقها وفضائياتها المشبوهة دروساً فى الوطنية وترمى بالخيانة كل من خرج برأى مختلف أو دافع عن أرض حسبها بالتاريخ والجغرافيا وحق الدم ملكاً لنا وجزءا من وطنه، وتتمادى أجهزة الأمن فى ممارساتها القمعية لتكمم أفواه الناس دون مواءمة سياسية، وتلقى فى السجن بأعز أبنائنا ساخرة من مواقفهم وتضحياتهم وتخاصم المستقبل فيهم وتعود إلى سابق عهدها بأسوأ مما كانت ونصبر ونحتسب ونتغاضى عن الكثير من أجل تثبيت قواعد الدولة والوقوف معها فى ترصد الخارج وتآمره ونزق الداخل وتجاوزه، وأخيراً تصادر الشرطة مجالنا العام وتخالف الدستور والقانون وتمنع التظاهر وتقتحم نقابة الصحفيين وتحرج الرئيس بفضائحها وتجاوزاتها كل يوم بحجة أنها تجاوزات فردية أصبحت بالتكرار يوما بعد يوم سياسة قائمة وأسلوب عمل عاد بنا لألعن من أيام حبيب العادلى، ولا من حسيب ولا من رقيب، ولم يبق لنا إلا رئيس الجمهورية نطالبه بإقالة وزير الداخلية وتقديمه وكبار رجاله لمحاكمة عاجلة.
كنا نأمل أن يحاسبه مجلس النواب على معالجته البدائية الركيكة لموضوع ريجينى، واليوم نطالبهم بسحب الثقة منه وإراحتنا وإعفاء الرئيس من عدم كفاءة سياساته التى نخسر بسببها العالم ونعطى أعداء الداخل والخارج مبرراً جديداً كل يوم ليدسوا أنوفهم فى شأننا الداخلى ويحرجوا الرئيس، على غرار ما تردد من أن سفراء دول الاتحاد الأوروبى سيعقدون اجتماعا فى القاهرة فى الأسبوع الثانى من مايو لإصدار بيان بشأن تدهور حقوق الإنسان فى مصر وعمليات الاعتقالات المتزايدة التى تشهدها البلاد منذ اندلاع تظاهرات جزيرتى تيران وصنافير. ولقد سبق أن طالبنا الرئيس أن يغير قواعد اللعبة وأن يقوم بحركة التفاف ذكية نعيد بها مصداقية النظام لدى الناس ونخرس ألسنة المتقولين علينا بشأن حقوق الإنسان، وقناعتنا أنه قادر على ذلك ومستطيع، لكن كثيرين من المتنفذين لا يعجبهم كلامنا ولا يوصلونه لعنايته، لكأنهم يعملون ضده، ولصالحهم وليس لصالح الوطن. وليعلم سيادته أنه بمثل هذه السياسات هو لا يدفع وحده الثمن، ندفعه جميعاً من مستقبلنا ومصالحنا وأعصابنا المهدرة وصبرنا الذى نفد، ويدفعه الوطن من استقلال قراره الوطنى وتأخر التنمية، ناهيك عن صورة مصر فى الخارج. إن شعباً محبطاً لا يمكن له أن يعمل وينتج وينهض باقتصاده المرهق ويؤمن حياة كريمة لأبنائه وذويه. إن ما يحدث مدعاة للقلق على مصيرنا وأيضاً على رئيسنا الذى نراه سنداً للدولة واستقرارها فى عالم يموج بالمتغيرات والتحولات التى لا يمكن أن نواكبها أو نواجهها بمثل هذه القيادات الفاشلة الضعيفة.
الدولة لابد أن تديرها السياسة لا الأمن والأجهزة مهما وصلت من قوة وتمكن، وأن يتصدر واجهاتها رجال أكفاء مؤهلون وليس أولئك الباهتون الذين يختارهم بعض المتنفذين بعناية بالغة حتى يضمنوا سيطرتهم على مفاصل الدولة تحت زعم أن مصر عقمت من الكفاءات وأن نظام مبارك جرف الطبقة الوسطى، وها نحن نرى المحصلة غير المرضية ولا المشجعة. نحتاج إعادة هندسة الدولة على الأسس العلمية كما أوضحتها فى مقالنا السابق، هذا أو الكارثة والعودة إلى المربع صفر كما فى السنوات الخمس العجاف الماضية، ويقيناً هذا لا يرضى الرئيس ولا يريح ضميره الوطنى ولا هذا ما يعمل له بكل جد وإخلاص.
سيادة الرئيس
دعنى أؤكد اليوم ما سبق أن كتبته هنا «من خندق النظام أنتقد وأعارض» وأحسب أننى لست وحدى فكثيرون غيرى يرون أن من مسئولينا من يفتقد الكفاءة والخبرة، والبعض غير مؤهل لتبعات كبرى فى إدارة الدولة، والبعض صاحب غرض وهوى، وربما يعمل ضد سياساتك سواء عن وعى وإصرار وسوء نية أو حسنها، لكن المحصلة واحدة.
سيادة الرئيس
لقد علمنى منهج العلم الذى أنا أحد أساتذته أن المقدمات تؤدى إلى نتائجها، وأنك لا يمكن أن تقوم بتجربة ناجحة مادامت مقدماتها لا تؤدى للنجاح أو تبشر به أو تمتلك مقوماته وتنهض بتبعاته. فكيف نخرج باقتصادنا الريعى التقليدى غير المنتج القائم على المنح والقروض إلى رحابات اقتصاد المعرفة المبنى على العلوم والتكنولوجيا ورأس المال الفكرى وإعادة الهندسة بمثل هذه الوسائل والقيادات؟
سيادة الرئيس
أكتب هذا وكلى ثقة أنك رجل تحترم الصراحة والنقد من خندق الوطن لا الطعن فى الظهر، وأعد أن أكتب الأسبوع القادم إن يسر لى ذلك عن منهج العلم والسياسة فى إعادة هندسة الدولة ومؤسساتها لتحقق طموحك وتخرجنا من عنق الأزمة إلى طريق التقدم والحداثة، نحمى الدولة والنظام العربى المستهدف، ونستعيد تجربتنا الوطنية معك، لأن الشعب ليس وحده من يؤمن بك، فالعروبة أيضاً «محوشاك» لآمال كبيرة.