يسرى الجندى
يسرى الجندى


يوميات الأخبار

السكون

يسري الجندي

الخميس، 03 سبتمبر 2020 - 06:12 م

مع بداية التحرر من سيطرة الطبيعة والبحث عن الذات يبدأ جدل مصر مع العالم

 إن علاقة مصر بالطبيعة والتاريخ خلقت منذ البداية ولفترة طويلة موقفاً يتّسم بالسكون الداخلى والخارجى معاً، وذلك هو نفس ما يحيط بفترة العصور الوسطى.
 وقد أشرنا إلى أن ما يمثل جانب السكون الداخلى فى العصور الوسطى هو الكنيسة فى صورتها السالبة. وما يمثل السكون الخارجى فيها هو الوضع الاجتماعى المجمّد بكل تناقضاته.. على هذا النحو نجد فى مصر الارتباط بالأرض والدورات الزراعية، ثم الخضوع للغير ومعاناة الاضطهاد فى سلسلة طويلة من السيطرة الأجنبية التى ساعد عليها أساساً ما يلاحظ من عدم وجود موانع طبيعية فى ظل خصائص مميزة لطبيعة أرضنا مما يُسهّل السيطرة على البلاد، كل هذا أدى فى مصر إلى أن الوجود الداخلى اتّسم بالسكون واللافاعلية، مثلما اتّسم موقفنا الخارجى من التاريخ بالخضوع.. الخضوع هو الموقف الوحيد من الطبيعة وإزاء التاريخ فى صورة لا تتغيّر فى جوهرها.
وكما أكّد المضمون الذى جسدته الكنيسة فى صورته السالبة تجميد الوضع الاجتماعي فى العصور الوسطى فكذلك أكّد المضمون الداخلى الساكن الخضوع للطبيعة والغير فى مصر.
>>>
والتاريخ إذ يؤكد حقيقة السكون فى حركة الواقع المصرى فكذلك يؤكد كل من الفن والدين حقيقة السكون الداخلى.. فالفن والدين فى مصر القديمة يبدوان إشارة واضحة منذ البداية لهذا المضمون ويمكن من دراسة كل من فنون التصوير والمعمار وباقى مظاهر الحضارة المصرية، ثم جوهر الديانة المصرية وفكرتهم فى الخلود.. يمكن التوصّل إلى مضمون سلبى تحيط به المُطلقات من كل صوب، وكل ما يميز عظمة الحضارة المصرية وتاريخها يستند إلى افتقاد الجدل.
وللدكتور لويس عوض نظرة هامة ضمنها بحثاً فى المسرح المصرى حيث إنه يبدأ هذه الدراسة بالتفرقة بين المجتمع الزراعى ومجتمع المدينة، تفرقة يحظى فيها المجتمع الزراعى بنظرة تلتقى بما نشير إليه عن هذه السكونية على المستويين الخارجى والداخلى. وذلك هو ما ينطبق على المجتمع المصرى فى هذه الفترة باعتباره مجتمعاً زراعياً. ومن هنا نجده يلقى نظرة سليمة على طبيعة كل من الفن والدين فى مصر القديمة والمسرح فى صلته بهما...
والحقيقة أن الأمر يتضح أكثر إذا ما قارناه بموقف الكنيسة فى العصور الوسطى. فللكنيسة رؤية تراچيدية كما أشرنا سابقاً وجوهرها التراچيدى هو الصليب مثلما أن أسطورة أوزيريس فى صورتها الأصلية تراچيديا وجوهرها الإله الممزق..ولكن رؤية الكنيسة تستحيل إلى سكونية من خلال واقع العصور الوسطى حيث الخضوع على المستوى الاجتماعى ومع نفس مقومات المجتمع الزراعى.
فالمضمون التراچيدى فى المسيحية - وهو الصليب - يستحيل إلى مضمون ساكن. حيث تحل فكرة الخلاص وتعطى الجوهر الأصلى.
- الصلب بمعناه الشامل -وذلك هو نفس ما انتهت إليه أسطورة أوزيريس.. حيث تحل فكرة انتصار الاله الخير أوزيريس - إله الخير المُطلق- بديلاً عن فكرة الاله الممزق.
وتتبّع الأمر فيما تلى الحضارة المصرية القديمة يؤكد نفس الشئ حيث نفس المقومات مازالت قائمة، الخضوع للطبيعة وللتاريخ. فحينما تجئ المسيحية إلى مصر، تجد التقاء سريعاً بها من جانب المصريين وتتخذ نفس مضمونها وعلاقاتها مع واقع العصور الوسطى (بالتقريب) فى الواقع المصرى لوجود التشابه المشار إليه، ويأبى المصريون ما حاوله الرومان من فرض فهم خاص للمسيحية.
>>>
وحين يأتى الإسلام مع استمرار نفس المقومات، فإن رؤيته الثورية فى مواجهة إخفاق التجربتين الرومانية والمسيحية -رؤيته التى تفترض مواجهة العالم على المستويين الداخلى والخارجى - لا تلتقى مع الواقع المصرى، ذلك لأنه حتى يتم التفاعل مع الإسلام تكون النكسة قد لحقت بالمضمون الثورى ولحقت به حركة التاريخ وارتبطت التجربة الإسلامية بعجلة الضرورة على نحو ما أشرنا، ومن ثم نجد ارتباط مصر بالتجربة الإسلامية حين تحقق جاء من جانب انحطاط المفهوم الداخلى واتخاذه صورة شبيهة بنفس السكونية فى التجربة المسيحية، يعنى الارتباط بها من الجانب القدرى.
إذن فلفترة طويلة استمر الواقع المصرى مرتبطاً بالخضوع للطبيعة وللتاريخ ومرتبطاً بالتالى بمضمون داخلى ساكن.. ومثلما كان هذا مُشابهاً لم يُميز العصور الوسطى فإن حالة الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة تُشبه فى مقوماتها حالة الانتقال فى المجتمع المصرى على المستويين -الواقع الموضوعى والوجود الداخلى مع فارق هام وثورى فى جانبنا.
وبداية التحول جاءت أصلاً من التحرر من وطأة الطبيعة وتبعتها محاولة التحرر من الموقف السلبى إزاء التاريخ.
ونعتقد أن البداية يمكن الإحساس بها بوضوح بدءاً من الحملة الفرنسية وما تبعها، وبخاصة ما يختص بمحاولة خلق مصر الحديثة فى عهد  محمد على )، حيث بدأ الواقع المصرى فى التخلص من سيطرة الطبيعة نعنى ارتباطه المُحكم بالزراعة، وتبدأ فى الظهور فئات جديدة تُشكّل فاعلية لم يكن ينطوى عليها الواقع المصرى، ومن هنا تبدأ المحاولة الأخرى للتخلص من السلبية إزاء التاريخ ومن الخضوع لسيطرة الغير وبداية البحث عن الذات فى سلسلة طويلة من الكفاح.
>>>
ومع بداية التحرر من سيطرة الطبيعة والبحث عن الذات يبدأ جدل مصر مع العالم، ويعنى ذلك كما تكشف قصة عصر النهضة على نحو ما أشرنا - وذلك ما دعانا سابقاً أن نولّيها شيئاً من التفصيل - ذلك يعنى ارتباط تغير الوضع الخارجى بالمضمون الداخلى، فمثلما كان من المُحتم أن يتغير المضمون المسيحى الساكن الذى يدعمه اللاهوت فى العصور الوسطى مع تغير الواقع وتحرك التناقضات المجمدة فى الواقع فى آن واحد كما رأينا، فالحضارة العربية حملت إلى العصور الوسطى مدخلاً للبديلين فى آن واحد بما نقلته من التراث الإنسانى للإغريق وذلك فى مواجهة اللاهوت محور السكون الداخلى وبما أحدثه عنفوان الحركة الإسلامية التاريخية ونبرة القوة بها ممثلة لمد قوى الضرورة فى فترتها - ما أحدثه ذلك من تحريك للواقع الأوروبى وخلق إحساس بالتحدى أدى إلى قلقلة ثبات هذا الواقع.
على هذا النحو نجد المرادف لهذين البديلين فى مواجهة الخارج والداخل فى الواقع المصرى.
فبالنسبة للجانب الداخلى، نجد دعوة قوية لإحياء الإسلام بمفهومه الحقيقى الذى نتخلص معه من المفهوم الغيبى وكل قيم الانحطاط المساندة لتدهور الواقع، وهذه الدعوة كانت تنطوى بالفعل على إدراك ما، لمضمون الإسلام الثورى.. وهذه الدعوة تمتد خلال محاولات (الأفغاني) (ومحمد عبده).. وبالنسبة للجانب الخارجى فنجد فى الوقت نفسه بداية الإحساس باليقظة والتحدى تجاه الحركة الاستعمارية وبداية امتداد مبدأ القوة فى حركته المعاصرة.. وتجسّد هذا فى المحاولة التى تمت فى عهد (محمد علي) لخلق مصر الحديثة والتى يقف وراءها ما تشرّبه الوعى المصرى فى لقائه بالحملة الفرنسية. ويلاحظ أنه كانت تبدأ فى التشكل حينها فئات جديدة لمجتمع المدينة، حملت استمرار هذا المد بغض النظر عن انتكاسه تبعاً لسياسة (محمد على) وانتكاساته التالية وتجسدت الدعوة فى هذا السبيل بدءاً من (رفاعة الطهطاوى) وتقدمت بعده باطراد.
أما إعادة اكتشاف الإنسان والعالم بالنسبة لنا فقد ووجهت بتأزم منذ البداية. فبعث جوهر التجربة الإسلامية باعتباره كشفنا الثورى الذى يُعيد المبادرة للإنسان داخله وإزاء قوى العالم الخارجى - كان يصاحبه لقاؤنا الضرورى بتيارات الحضارة الموصلة للتغيير، وتستمر الأزمة فى الوقت الذى يستمر فيه تلاقينا بتيارات الحضارة ونسيجها وكافة عوامل الاستغراق ومن هنا اتخذ موقفنا سمة خاصة.
ولتوضيح ذلك نلجأ إلى تجربة فنية واقعية لفنان مصرى توفر له أن يعكس فى أعماله بحس مباشر إلى حد كبير طبيعة موقفنا، وليومئ بشكل غير محدد إلى تلك الحقيقة بدءاً من ارتباطها الواضح بالاشتراكية، تلك هى تجربة (نجيب محفوظ) الروائية برغم أن ثمة محاولات جادة للتعرف على تجربته ، إلا أن تجربة (نجيب محفوظ) لا تزال فى حاجة إلى جهد كبير فى التعرف تبعاً لما نعتقده من ارتباطها بأصالة بالغة بأزمة الواقع المصرى. والمحاولة التالية -هاملت - لا تستطيع إلا أن تكون فى حدود ضيقة تماماً كما سيتضح.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة