د. أيمن منصور ندا
د. أيمن منصور ندا


يوميات الأخبار

«تنتالوس» وصالح الشرنوبى

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 14 سبتمبر 2020 - 06:08 م

بقلم/ د.أيمن منصور ندا

الفرص الحقيقية لا تأتى مرتين لنفس الشخص.. فرصتك الحقيقية الأولى هى فرصتك الأخيرة.

فى الأساطير الإغريقية قصة الفتى "تنتالوس"؛ فتىً أتاه الله بسطةً فى الجسم والعلم، وكان له من كلّ شيء سبب، ومن كلّ طيب نصيب.. غير أنَّ النفس أمارة بالسوء، فتسول له نفسه ارتكاب خطأ ما، تهتز له عروش الآلهة فوق جبال الأوليمبس، فتقرر عقابه عقاباً شديداً، جزاءً وفاقاً لما ارتكب.. لقد قررت الآلهة أن تجعله يقف مقيداً فى حوض من الماء العذب ويصل الماء إلى تحت ذقنه، وعندما يشتد بالفتى العطش، ويريد أن ينال بعضاً من الماء القريب من فمه، يجف الماء، أو يراه «كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا"، ويصبح وكأنه يردد مع الشاعر العربى "طرفة بن العبد» «وأشدُّ ما ألقاه من ألم الجوى.. قرب الحبيب وما إليه وصول.. كالعيس فى البيداء يقتلها الظما.. والماء فوق ظهورها محمول»...

عقاب آخر تنزله الآلهة بالفتى «تنتالوس»، إذ تضع فوق رأسه فروع أشجار مثمرة، مختلف أشكالها وألوانها.. تجتمع فوق رأسه دائماً فاكهة كل الفصول، وكل المناطق.. حتى إذ جاع أو اشتهاها، تباعدت الفاكهة، وأصبحت بعيدة عن متناول يده.. وكلما اقترب منها أو دنا، تباعدت عنه وهربت منه.. وهكذا يظل الفتى جائعاً وظمآناً إلى أن يلقى حتفه..

«كسرة النفس» الأبدية، والشعور بقرب الوصول ثم ضياع الأمل، عقاب قاس وأليم، وليس أقسى منه ما هدد به الفاروق عمر أحد ولاته حين تعسف فى استخدام سلطته "سأعاقبنك؛ سأجعلك وسط قوم لا تفهمهم ولا يفهمونك".. كلا العقابين مذل ومميت.. كلا العقابين يجرد الإنسان من فضيلة التواصل الحقيقى مع الواقع.. يصبح الواقع حلماً، ويصبح الممكن خيالاً.. وتصبح كل الأمانى غير ممكنة..

فى العقود الأخيرة، كنا ـ المصريين - على وعد من الخروج من عنق الزجاجة الحضارية.. تعددت المرات التى كنا على وشك تحقيق هذا الحلم، والخروج من دائرة العوز الاقتصادى، والفقر الفكرى.. تنوعت الوعود، وتعددت أساليب الإقناع بها، ولم يتحقق منها شيء.. أكثر من مرة شعرنا بقرب الأمل، ثم نراه فجأة بعيداً.. وأكثر من مرة أحسسنا بأننا قاب قوسين أو أدنى من العبور، ثم نفاجأ بنكسات ترجعنا إلى المربع رقم صفر.. نحن وحلم الخروج من عنق الزجاجة فى كرّ وفرّ، وشدّ وجذب، ومدّ وجزر.. والنتيجة «بقاء الحال كما هو عليه» لعقود طويلة، وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء..

فى هذه الأيام.. نحن على أبواب فرصة حقيقية وغير زائفة للخروج من عنق الزجاجة إلى الأبد.. هناك خطوات جادة، وإرادة سياسية حقيقية.. نحتاج إلى التمسك بها، ودعمها.. نحتاج إلى الاصطفاف الوطنى لتحقيقها، ونحتاج إلى التكاتف لدفعها إلى الأمام.. نختلف حول بعض تفاصيل الخطة، غير أننا نتفق على الغاية النهائية منها، ونتفق على إمكانية تحقيقها..
فى رائعة نجيب محفوظ (المرايا 1971) إشارة على لسان إحدى شخصياته إلى أن «شعبنا مثل الوحش المذكور فى بعض الأمثال الشعبية، يستيقظ أياماً ثم ينام أجيالاً».. لا نريد لحالة النوم الجمعى أن تستمر.. ولا نريد أن تستغرق "التعسيلة" كل أيامنا بدون إنجاز ملموس..
الفرص الحقيقية لا تأتى مرتين لنفس الشخص.. فرصتك الحقيقية الأولى هى فرصتك الأخيرة.. وقد نكون فى هذه الأيام على موعد مع هذه الفرصة.. والويل لنا إن لم نستغلها، والويل لنا إن اختلفنا حول هوامشها وانشغلنا بها، وتركنا جوهرها وقلبها نسياً منسياً..

«لو عاش صالح»
لم أعشق شاعراً كما عشقته، ولم أحفظ ديواناً كاملاً لشاعر كما حفظت ديوانه، ولم أعش شاعراً فى سكناته وحركاته، وفى جده وهزله، وصعوده وهبوطه، كما عشت مع هذا الشاعر سنين طويلة.. طفت حول بيت أسرته أياماً كما يطوف العابد بالحرم، والتقيت بعض أهله وأقاربه ممن عاصروه أو سمعوا عنه، مستدعياً ذكرياتهم معه، ومعلوماتهم عنه، وحكاياتهم التى عاشوها معه أو نقلها لهم أباؤهم.. «بلدياتى» الذى رأيت أن أعيش تجربته فلم أفلح، وتمنيت أن أكتب بعض أشعاره فلم أنجح، ورضيت من السفر معه بالإياب مع إبداعاته..

على ضفاف مدينة بلطيم، حيث التقاء البحر الأبيض وبحيرة البرلس، ولد شاعرنا صالح الشرنوبى فى 26 مايو 1926، وفى مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر (17 سبتمبر 1951) رحل عنها، تاركاً وراءه ثروة شعرية متفردة، وقصة إنسانية هى الأكثر تعبيراً عن عبثية المقادير فى علاقة المبدع بالحياة.. وليصبح هذا التاريخ موعداً سنوياً لاحتفاء محافظة كفر الشيخ بشاعرها العبقرى..

«لو عاش صالحٌ لبذَّ شوقياً»، عبارة تنسب إلى الأستاذ العقاد فى وصف الشاعر "صالح الشرنوبى" (1926- 1951) فى إشارة إلى عبقرية هذا الشاعر الشاب الذى مات عن عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين من عمره تاركاً وراءه أحد عشر ديواناً تم نشرها مجتمعة بتحقيق من الدكتور عبد الحى دياب (1966) فى مجلد واحد بلغ عدد صفحاته (675) صفحة من درر الشعر العربى المعاصر.

كان صالح الشرنوبى على حدّ تعبير الشاعر «صالح جودت» فى كتابه «بلابل من الشرق» «شاعراً موهوباً من أبناء الموت.. كانت حياته فى كل حركاتها وسكناتها تشير إلى أنه لابدَّ لاحق بهؤلاء الموهوبين من شعراء الشباب الذين قضوا فى عمر الزهور» ويضيف صالح جودت أن صالح الشرنوبى «هو كالهمشرى والشابى وفوزى المعلوف وغيرهم ممن احترقوا حساً وعاطفة، ورأوا أن الدنيا لا تتسع لأمانيهم، وأنهم خلقوا ليعيشوا فى عالم من النور لا من التراب»..
وفى تقديمه لديوان الشرنوبى، يشير الدكتور «أحمد كمال زكي» إلى أنه «عندما يؤرخ للشعر العربى المعاصر سيوضع صالح الشرنوبى فى مقدمة مرتاديه، ولن يكون صغر سنه بين الرواد إلا دليلاً على صدق موهبته».. وفى كتابه بعنوان «الشرنوبى النهر الذى أسكر العالم»، يقول الشاعر المبدع محمد الشهاوى عن شاعرنا «هو شاعر له الأبد صديقًا.. والخلود رفيقًا».

وقد ذهب بعض النقاد مثل الدكتور «محمد مندور» إلى أن قصيدة «المواكب» لصالح الشرنوبى تعتبر من أفضل قصائد العربية قاطبة فى مخاطبة الله، ووضعها فى مكانة أعلى من قصيدة «الطلاسم» لإيليا أبى ماضى.. وهو الذى يقول فى بعض أبياتها «أتفاحة سر هذا الشقاء.. ومن أجلها كل هذا البلاء.. تعاليت يا ربى ماذا أقول.. وأنت القدير على ما تشاء... أنا ابن الطريدين أشكوا إليك.. وملء دمى ثورة الأبرياء.. ألم تك قدرت أن يعصياك.. فلم يخرجا عن محيط القضاء.. وإلا فلم صغت هذا الوجود..دحوت الثرى ورفعت السماء»..

كان الشرنوبى يدرك حظه السيئ فى الحياة، ويدرك أبعاد شقائه السرمدى وكأنه «سيزيف» فى الأساطير اليونانية «مكانتى أصغر من حقى.. وحاجتى أكبر من رزقى.. وحكمة الخالق فى خلقه.. أعماقها أبعد من عمقى».. وقبل وفاته بأشهر معدودة كتب عن حالته «فما أظن الأرض تحوى فتى.. وجوده قد كان إحدى الكبر... مثل فتى يدعونه شاعراً.. وما بغير الموت يوماً شعر... أتى فلم يفرح بميلاده.. إلا نديماه الأسى والفكر»..

سلام على صالح الشرنوبى يوم ولد، وسلام عليه حين ترك لنا هذه الدرر الشعرية، وسلام عليه إذ يعيش بيننا خالداً رغم رحيله، ونابضاً بالحياة رغم مغادرته لها.

أمنيات إعلامية
عندما أشاهد الشاشات المصرية، أشعر بافتقاد شديد لبعض الأسماء التى أراها جديرة بالظهور، وبفتح المجال لها، وبالاستفادة من خبراتها وإمكانياتها.. كلُّها أسماء تؤمن «بالدولة»، وتدين بالولاء لثورة 30 يونيو.. وكانت لها مواقفها الدائمة والثابتة والمتسقة فى دعم جهود الدولة، وفى مساندة أهدافها التنموية، دون أن يحدث لها «ارتباك مفاجئ»، أو «نكوص مؤقت»..

قائمة الأسماء التى أتمنى ظهورها على الشاشة طويلة.. وهو ما يشير بداهة إلى ثراء البيئة الإعلامية المصرية وقدرتها على النمو المستمر.. الفضائيات العربية كلها قامت على أكتاف المواهب المصرية، واعتمدت عليها.. لا يوجد لدينا نقص فى المواهب، وإن كان لدينا نقص فى طرق الاستفادة منها أو توظيفها بما يخدم أهداف التنمية فى الوقت الحالى.

المواهب الإعلامية مثلها مثل أى منتج، لها فترة صلاحية، ولها فترة غنى، وإن لم تستفد الدولة من مواهبها وقدراتها وهى فى «عزها» تخسر الدولة، وتخسر هذه الكفاءات.. المواهب لديها حساسية تضيع مع «الركنة» مثلها مثل لاعبى كرة القدم حينما يجلسون لفترة طويلة على «دكة الاحتياطي»، وقد يؤدى ذلك إلى اعتزالها اللعب إلى الأبد..

بطبيعة الحال، ليس كل كفء صالحاً للانتقال من دكة الاحتياطى إلى الملعب، لابد أن يكون له دور حقيقى فى عملية التنمية الحالية، ولابد أن يكون متوافقاً مع السياسة العامة، وإلا أصبح «عاملا سلبياً»، ونغمة نشاز.. ودورنا أن نبحث فى كيفية الاستفادة من هذه القوى الناعمة، فيما يشبه المواقف التى تكون فيها كل الأطراف فائزة.. وهى مهمة ليست صعبة أو مستحيلة، نتمنى ذلك، وما ذلك على الله بعزيز..
- رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون- إعلام القاهرة

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة