إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

أيام بنكهة الحنين

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 17 سبتمبر 2020 - 06:30 م

 

دائما ظلت اللغات الأجنبية تحديا لم أتمكن من تجاوزه. استقبلنى الرجل بابتسامة مُرحبة، وطرحتُ السؤال الأول بالإنجليزية، وفوجئت بما لم أكُن أتوقعه على الإطلاق.

شجون المسافرخانة
السبت:

للأحجار نداءات لا ينبغى تجاهلها. هكذا فكرتُ بعد حُلم راودنى فى الليلة السابقة. فى الحُلم كان المبنى العريق متألقا كما لم أره من قبل. صحوتُ من نومى مُبكرا على غير العادة، وقد اتخذتُ قرارا بزيارة قصر المسافرخانة قبل التوجه لعملي. فى الطريق استحضرتُ ذكريات ضاعت وسط صخب الحياة، وشعرتُ أن المكان يعاتبنى على النسيان. قبل احتراقه فى أكتوبر 1998 كنتُ قد أدمنتُ الذهاب إليه، انتقل حبه لى من الراحل الكبير جمال الغيطاني، لكن عشقه للمكان كان ممزوجا بالحنين، فقد وُلد فى محيطه وارتبط بتكوينه فى طفولته الأولى، بينما اجتذبنى دون ذكريات مُسبقة. تدريجيا حفر المكان عشقه بداخلي. تحذيرات عديدة أطلقتُها عبر تحقيقات صحفية مما يهدده من أخطار، ثم جاء الحريق الغامض ليلتهم عالما من الجمال. صباح ذلك اليوم الخريفى كنتُ فى منطقة آثار الهرم. تلقى أحد المفتشين اتصالا من صديق له، ذكر أن» الدُنيا مقلوبة» بسبب حريق فى القاهرة التاريخية، لم أتخيّل أن تتحقق نبوءاتى التى وثّقتها صفحات «أخبار الأدب»، وبعد عودتى كنتُ قد علمتُ بالكارثة. جريتُ إلى هناك وعندما شاهدتُ ما جرى انسابت دموعي.. أصعب الأمور موتُ الفجأة.
اثنان وعشرون عاما مضت؟! فوجئتُ بالزمن المتآكل وأنا أقف أمام الباب المُغلق. عبر فجوات فى الأسوار يُمكن للنظرات أن تعبر إلى الداخل، تماما كأكوام قمامة تسللت عبر السنوات وتراكمت لتصدم عيونا تشبعّت بالحنين، ترحّمتُ على الموقع الذى شهد فى شبابه مولد الخديو إسماعيل! ابتعدتُ وداخلى شعور يخلط الشجن بالغضب، فالحادث مر بعد ألاعيب من المسئولين كى يتنصلوا من المسئولية. صرخات ضاعت وسط دخان الحريق، بينما بقى المسئولون فى مواقعهم واكتفوا بتصريحات استهلاكية، منحتهم- مع التواطؤ- فرصة تجاوز الأزمة!
حفنة جنيهات وتعاطف مفقود
وسط شوارع المدينة القديمة تبدو العيون حزينة، لا بشر إلا العابرون لقضاء حوائجهم، المحال تجتر ذكريات أزمنة كانت لا تخلو فيها من السائحين، والمقاهى تشعر بالوحدة. جلست على مقهى عريق لأرتاح من خطوات قليلة، غير أنها أصبحت كافية لاجتذاب التعب، طلبتُ زجاجة مياه وقهوة، جاءتنى فى كوب بعد أن أطاح فيروس» كورونا» بمُتعة ارتشاف السائل السحرى من الفنجان، اكتشفتُ أننى منذ تمادى الجائحة لم أعد أشعر بطعم القهوة، أشربها بالمعدل ذاته لكنها تفقد نكهتها خارج البيت. المذاق نتاج علاقة ثلاثية بين الفنجان والبُنّ وشاربه، فقدتْ خصوصيتها بعد أن أصبحت الأكواب المصنوعة من مواد غريبة هى السائدة. أتأمل الكراسى الفارغة وأستعيد ذلك الزمان، عندما ينتظر العاملون بمقاهى المنطقة انتهاءنا من احتساء المشروبات كى نمضى ليجلس غيرنا. كان الزحام رزقا بدّده الخواء. شعرتُ بالشفقة على كثيرين ممن فقدوا أرزاقهم، حتى لو أحسستُ يوما بالنقمة على بعضهم، نتيجة الأسعار المبالغ فيها، والمغالطات التى تجعلنى شديد الحرص كى لا أقع فى فخاخهم. طلبتُ الحساب وفوجئت بأنه خمسة وخمسون جنيها. اعترضتُ فرد «الجرسون» بثقة: 35 جنيها للقهوة و15 لزجاجة المياه الصغيرة، وعشرة جنيهات للخدمة! دفعتُ ومضيتُ وقد فقدتُ شعورى بالتعاطف!
مغامرات كوبرى أكتوبر
الأحد:

عِشرة عمرها سنوات، تربطنى بكوبرى أكتوبر. أفترض أنه يفتقدنى عندما أغيب عنه يوما، رغم آلاف السيارات التى تمر عليه يوميا، دون أن يمل من صخبها رغم شعور من يقودونها بالحنق عليه، يدفع ثمن المشكلات المُتراكمة من أعصابه الخرسانية، ويتحمل عشرات الشتائم ممن ينتقدون تصلب شرايينه، رغم أنه ليس المسئول عن الأزمة. أتأمل لافتات مُتناثرة عليه وأبتسم، تُحذر من عدم تجاوز السرعة ستين كيلومترا فى الساعة، مع أن الوصول إليها يُصبح حلما صعب المنال. تقفز أمامى دراجة بخارية، يحاول صاحبها التحايل على البطء بحركات بهلوانية تخترق الصفوف المتراكمة. أداؤه يُشجع آخرين على المغامرة، وعادة لا يخلو الأمر من خسائر لسيارات لا يمنحها حجمها أية فرصة للمناورة! تتهشم مرآة جانبية بفعل انقضاضة مفاجئة، أو يتلقى الجسم نفسه «خبطة» غير محسوبة، تُعكّر صفو صاحب السيارة ليوم كامل، ولا يلبث تأثيرها أن يتراجع خلف «خبطات أخرى» متتابعة. الكل يمضى دون توقف، فالفاعل يهرب عادة بعد أن يرفع يده بإشارة اعتذار تزيد الأمر استفزازا. وفق دستور غير مُعلن تمضى الأمور، من يخالفونه قد يتوقفون لبعض الوقت، ولا ينتهى الخلاف إلى نتيجة حاسمة، فقط مشادة كلامية قد تتطور أحيانا إلى مشاجرة بالأيدي، ويتدخل البعض لفض النزاع.. فقط كى تستعيد المسارات انسيابها المُتقطع!
أتنفس راحة عند الوصول إلى «منزل شنن»، يُفترض أن تفصلنى بضع خطوات عن موقف التُرجمان، أرتاح بعدها من عبء قيادة كانت ذات زمن باعثة للمتعة. مع الوقت أدركتُ أن الأمنيات لا تتحقق كلها. قبل شهور كانت هناك بوابة تختصر الطريق إلى موقف التُرجمان، أصدر أحدهم قرارا بإغلاقها لسبب غير معروف، وكانت النتيجة دورة كاملة حول التكوين المعمارى الضخم، فى العادة لا ينبغى أن تستغرق وقتا، لكن فوضى المرور بشارع السبتية وما بعده تجعل الزمن يتمدد. سيارات تنطلق عكس الاتجاه دون أن تجد من يكبح جماح نزواتها، عربات «توك توك» تمارس طيشها دون رقيب. البقاء هنا للأعلى صوتا فقط، والاعتراض يفتح أبواب الشيطان وأعوانه، والنتيجة غير محمودة لمن هم فى عُمري، لهذا تعلمتُ درسا مهما: أن أسب المخالفين بأعلى صوتي، بعد أن أتأكد من غلق زجاج النوافذ جيدا، كى أضمن ألا يسمعنى أحدهم!!
حوار جاد بأسلوب عبثي!
الاثنين:

صباح مُفعم بالحنين. هكذا أحسستُ فى بداية اليوم، قبل أن يخطفنى شريط الذكريات إلى الماضي، استوقفتنى لفظة «مُفعم» الفصيحة، عادة ما أستخدمها فى أفكارى التى تتوارد بالعامية.. بالتأكيد! ضمن تركيبات لُغوية عديدة سابقة التجهيز! أخبرنى الأستاذ الغيطانى أن أندريه ريمون فى مصر، وطلب منى إجراء حوار معه، بوصفه عاشقا مفتونا بالقاهرة، كنتُ متابعا لكتاباته وبالتالى لا مشكلة فى المضمون. العقبة الوحيدة هى اللغة، صارحتُ رئيس التحرير بالمشكلة، فطمأننى بأن المفكر الفرنسى يجيد العربية. بمنتهى حسن النية ذهبتُ لحضور ندوة له فى المعهد الفرنسى وتحديد موعد، كلمتُه بالعربية فرد بالإنجليزية، وقرّر أن نلتقى فى اليوم التالي. أدركتُ أننى أنساق إلى فخ، وبدأت إعداد الأسئلة وترجمتها للغة الإنجليزية، ذهبتُ للقاء والقلق يحاصرني. دائما ظلت اللغات الأجنبية تحديا لم أتمكن من تجاوزه. استقبلنى الرجل بابتسامة مُرحبة، وطرحتُ السؤال الأول بالإنجليزية، وفوجئت بما لم أكُن أتوقعه على الإطلاق.
رغم مرور سنوات طويلة أتذكر ابتهاجا بدا على وجه ريمون بالسؤال الافتتاحي، وانطلق مُسترسلا فى الإجابة وقد جمّدت المفاجأة الدماء فى عروقي. كان يرد بطلاقة أدهشتني.. لكن باللُغة الفرنسية! لحُسن الحظ طالت إجابته لفترة أتاحت لى فرصة تجاوز الصدمة. استجمعتُ حصيلة مُفرداتى الفرنسية التى لا تُسمن ولا تغنى من جوع، لحسن الحظ كان الحوار عن الآثار، وهناك بعض الكلمات التى تتشابه فى اللغتين، بطريقة ما فهمتُ نسبة ضئيلة، جعلتنى أحاوره كخبير فى اللغات الحية، أسأل بالإنجليزية ويجيب بالفرنسية، ولا ألتزم بترتيب الأسئلة المُعدّة سلفا، بل أبدّله وفق ردوده.
انصرفتُ سعيدا بالحوار الذى لم أفهم ثلاثة أرباعه، والربع الأخير مشكوك فى أن فهمى له صحيح! لجأتُ للصديقة دينا صبرة لأن تعليمها فرنسى منذ الصغر، ذكرتُها أننى كنت أعلّمها العربية فى طفولتها وجاء وقت رد الجميل. قدمتُ لها شريط التسجيل العتيق بعد أن رحّبت بتفريغ الحوار، وعندما انتهت أعربت عن دهشتها، لأن السياق يوحى بأننى كنتُ أفهم تماما ما يقوله، بدليل أن أسئلتى تخرج من صُلب إجاباته، وقتها أدركتُ أن اللغة ليست عائقا، ما دمتُ أستعين على قضاء حواراتي.. بالفهلوة!
«عيد الزوجة» فى سبتمبر الدامي!

الثلاثاء:
فوجئت بمنشور على» فيس بوك»، يتحدث عن اليوم العالمى لتقدير الزوجة. أشار إلى الثلاثاء الماضى باعتباره يوافق هذا اليوم، اعتمادا على جريدة يومية أخطأت فى التاريخ. بالتأكيد لم أكن لأعلم بالخطأ إلا بتوجيه من «جوجل» العارف ببواطن الأمور. ذكر أن الاحتفال بهذا اليوم يتم سنويا، فى الأحد الثالث من سبتمبر، لم أجد أى حديث عن سبب اختيار اليوم، ولا مبررات اختيار الشهر الذى ارتبط بتفجيرات دموية غيّرت وجه العالم بعد 2001. تعجبتُ من ضياع هذا الاحتفال رغم الاهتمام بمناسبات عالمية أخرى تشغل العام بأكمله، وبعد أن تنفد أيامه قد يبدأ التركيز على الساعات، لتمنح الأعياد فضاء أكثر رحابة، وأعتقد أن ذلك بدأ فعليا بساعة الأرض. خلال بحثى وجدتُ خبرا وحيدا عن يوم عالمى آخر لتقدير الزوج، لا معلومات وافية عنه. من تاريخه رجّحت أنه الأحد الثالث من إبريل. غاب الاحتفالان وسط زحام حياة لا تهدأ، وربما أعلنت الدعاية لليومين هزيمتها، أمام مناوشات مُعتادة بين الأزواج، تبدأ من تبادل قصف النكات الساخرة، وتنتهى أحيانا بجرائم قتل تحسم خلافات فشلتْ فى حلها كل مفاوضات السلام. زوجتى مثل ملايين غيرها لم تعلم بهذا اليوم، رغم أنها تستحق كل التقدير على مدار أيام السنة، فهى تتحمل عيوبى الظاهرة والباطنة بهدوء، قد تتخلله أحيانا بوادر انتفاضة لا تلبث أن تخبو. أعترف أننى لولاها لما أنجزت الكثير على مدى سنوات ارتباطنا. شخصيا أعتقد أن الاعتراف السابق أفضل من عشر هدايا، على الأقل من وجهة نظري. لكن اعتبارا من أول إبريل القادم سوف أبدأ بالترويج ليوم الزوج ربما أحظى بهدية. المهم ألا تتعامل هى مع كلامى وقتها.. على أنه كذبة إبريل!!

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة