آية ذلك ما أصاب رئيس الدولة ذاته من تقولات وتجاوزات في حقه وشخصه وعميق وطنيته

دونما تهويل أو تهوين، إنها لحظة فرز حقيقي، وهي تضعنا جميعاً في مفترق الطريق حيث يتوجب علي كل صاحب رأي وطني مخلص أن يعلن موقفه بوضوح كاشف يتغيا الإصلاح وبصراحة مسئولة تستهدف التصحيح، لا بقصد إدانة أحد أو الدفاع عن أحد، فالأمر تجاوز الأفراد، إنها قضية وطن ومصائر شعوب ومستقبل أجيال قادمة، وعلينا أن نكون علي قدر الظرف العام الذي ربما كان سبباً ونيجة لما نحن فيه الآن. لقد قصرنا في حق أنفسنا فتواكلنا وتقاعدنا عن العمل والإنتاج والفعل والجد والتأثير ولم نأخذ المخاطر بعين التحسب والاهتمام، واستأثر منا فريق بفرض الوصاية علي ما عداه من آخرين، ومارسنا الاستبعاد والتهميش لكل الواعين من كفاءاتنا وقدراتنا البشرية الغنية المؤهلة، فنضب بحر السياسة وتصحر مجالنا العام، ووقعت صناعة القرار بين أيدي كثيرين ممن ليسوا مؤهلين لا للتخديم علي حسن أدائه وتبعاته ومخاطره، ولا لمقتضيات العمل العام، فتحول جهاز الدولة في أغلبه الأعم عالة علي تجربتنا الوطنية بعد 30 يونيو، يثقل كاهلنا جميعاً ويعوق طموحات الشعب والرئيس الذي صنعناه علي أعيننا والذي لو لم يكن موجوداً علي رأس جيشنا الوطني لاخترعناه حفاظاً علي وطن هددته في وجوده ومصيره وأرضه وحدوده وهويته عصابة الشر التي اعتلت قمة الحكم في غفلة صنعناها بتناحرنا وتكالبنا علي تقسيم العطايا والجوائز والغنائم وقصر النظر، ولم نلتفت أو نتحسب لما وصلت إليه أمور اقتصادنا وتردي أحوال معيشة شعبنا وترصد قوي الإرهاب في الداخل والخارج وعلي حدودنا، غلبنا الخاص علي العام ولم نقدر للأمر محاذيره ومخاطره، فصرنا وطناً للفرص الضائعة والوقت المهدر وتدني الناتج القومي العام الذي لا ينهض باحتياجات دولة كبيرة صارت بحكم ممارساتنا: دولة وحكومة وأجهزة ونخبا وشعبا علي شفا حفرة أو تكاد. لقد استنفدنا خمس سنوات من عمر هذا الوطن المنكوب بكثيرين من نخبه وقياداته ونجومه المصطنعة وإعلامه الفقير في فكره وأدائه وانتهازية توجهاته وضيق أفقه وشخصانيته، لنفيق علي صدمة أننا نخرج بتجربتنا من مأزق لكارثة لطامة كبري، فنهدر كثيراً مما انجزناه بإصرار واقتدار لنتوقف في منتصف الطريق وليس لدينا غير أمل في قادم نتشوق إليه لكننا لا نعمل من أجله ما يكفي لإنجازه، ويظل رهاننا علي نظام وطني لا نعرف حقيقة ما يكبله في اختياراته وانحيازاته التي غالباً ما تأتي محبطة للناس وضاغطة علي أعصابها.
ولقد كتبنا وتحدثنا وهكذا فعل غيرنا، وفي سبيل ذلك انتقدنا السلطة والدولة والحكومة، وقرعنا عشرات أجراس التحذير من الخطأ والاستنامة، ولا من مجيب. لنصل اليوم إلي مشهد تتناوشه الأقاويل ويحيطه الغموض، وتلوكه الألسنة التي لم تترك عزيزاً لدينا حسبناه محصناً بحب الناس وثقتهم إلا طالته وحاولت الغمز واللمز في مواقفه وخياراته. آية ذلك ما أصاب رئيس الدولة ذاته من تقولات وتجاوزات في حقه وشخصه وعميق وطنيته، أنه فرط في السيادة الوطنية بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للجانب السعودي لقاء حفنة من المشروعات والدولارات والدنانير، وراحوا يقارنون بين مواقف سابقيه من الرؤساء حسني مبارك ومحمد مرسي اللذين ثار المصريون عليهما وما فرطا في التراب الوطني، بينما فعلها السيسي بكل جرأة. وبكل مسئولية العالم والمثقف والكاتب وقبلها المواطن لا أوافق علي هذا الطرح ولا أقره، فلم نكن أغبياء مغيبين حين وقفنا نختار وندعم رئيساً يمكن أن يفرط ويتهاون، ولا اعتدنا في بلادنا من أبناء مؤسستنا العسكرية بيت الوطنية المصرية أن يفرطوا في حبة رمل من ترابنا الوطني، ولا مصر جاعت وراحت تأكل لقمة الذل مغموسة بالكرامة الوطنية بعوائد بيع أراضيها وبالتقسيط المريح علي ما قالوا. لكننا أيضاً وبشجاعة الرجال لابد أن نضيف أن ما حدث ولا يزال يحدث لا يعجبنا ولا يرضينا ولا يقنعنا، وهو لا يناسب دولة كبري في إقليمها ومحورية في عالمها، فلا التاريخ ولا الجغرافيا ولا العمق الحضاري لهذا الوطن يسمح بأن يتصدر حفنة من الهواة المشهد ليقزموا الوطن ويخصموا من قدر مصر، لتصل الأمور حداً يتحزم فيه البعض ويرقص منتشياً بالزيارة التاريخية للملك سلمان، ويقدم له رئيس مجلس النواب الذي يمثل شعبنا العريق بكل خفة لا يحسد عليها مفاتيح الحل والعقد والريادة في التاريخ والإقليم، ويبدو أمامه كما لو تلميذ مرتبك في حضرة ولي النعم، ويفقد مجلسنا الموقر اتزانه ورصانته بالتزيد في الهتاف والتصفيق والمبالغة في الحفاوة كما لو كان مجلساً من العصور الوسطي، وتتحول فضائياتنا للتطبيل والتهليل بغير مسئولية متحللين من كل حصافة ووعي ومسئولية وتقدير لوطن لا ينبغي إراقة ماء وجهه ترحيباً بالضيف الكبير الذي نكن له ولوطنه وسابقيه من الملوك والزعماء ومواقفهم كل التقدير والاحترام. يا سادة إنها مصر وليست واحدة من جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية، إذ فارق كبير بين كرم الضيافة وحسن الاستقبال وبين الانبطاح وإراقة ماء الوجه. ليس هكذا يتم التعامل بين الأشقاء والأنداد، الأمر الذي بدت معه مصر أنها تذعن وتنحني تحت وطأة الحاجة، وبدت معه السعودية أنها تنتهز الفرصة وتملي الشروط.
ثم إذا كانت هناك ضرورة تستوجب ما حدث، فقد كان الأوفق أن تتم علي غير هذا النحو المخجل المسيء.
إن ما حدث في اليومين الماضيين وبالكيفية التي تم بها، إنما هو خصم من السعودية كما هو خصم من مصر، فلا قواعد السياسة والتعاون الدولي تجري علي مثل هذا النحو البدائي العبيط، ولا التعبير عن الاهتمام والترحيب يتم بهذه الخفة المخجلة، وإذا كان بيننا والشقيقة السعودية خلاف علي حدود وجزر وتعيين وترسيم خرائط، فليتم التفاوض بشكل معلن كما فعلنا في مشكلة طابا، ولا كان يصح أن تعقد اللجان والمفاوضات في الخفاء، فمصر ليست دولة سرية ولا شعبها كمالة عدد. التوقيت خاطئ والتصرف متعجل وغير مدروس ويفتح أبواباً للتشكيك والتلسين، ثم العلاقات الدولية ليست فيها وجبات مجانية، فكما تقدم السعودية ما تحتاجه مصر، فنحن أيضاً نقدم ما تحتاجه السعودية ودول الخليج وكافة أوطاننا العربية. العلاقات الدولية مصالح وتعاون لا هبات وعطايا، ونحن لدينا الكثير الذي نقدمه بالفعل لإقليمنا وعالمنا وأشقائنا.
ثم عيب جداً أن تطلق علينا الدولة في إعلامها كثيرين من الوجوه المشبوهة ليقوموا بالتمثيل والمناورة علينا والقسم بأغلظ الأيمان أن تيران وصنافير سعودية في حماس للتنازل عن الحقوق الوطنية غير مسبوق بين الدول وتطوع ليس له ما يبرره. وفي هذا استخفاف بالشعب وخصم من رصيد الدولة والرئيس ويفتح باباً لعدم الثقة والشك والارتياب. افعلوا ما ترونه في صالح مصر، لكن بما تقتضيه ضوابط الدستور والقانون واستحقاقات السياسة، استفتوا الشعب واحترموا عقول الناس. وأنا هنا لا أناقش الحق في ملكية الجزر والسيادة عليها، فهذا أمر يملكه الشعب والمتخصصون وتحكمه قواعد لا ينبغي تجاوزها، فبما فعلتم تركتم لألسنة طويلة أن تختصم الرئيس والقيادة وأن تسيء لدولة حسبناها أكبر مما تعلمون. يا سادة هذا وطن نحن نملكه ونحن شركاء فيه، فلا تغتصبوا حقوقنا واعملوا في إطار ما يشرفه لا ما يسيء إليه وإليكم.