د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

الخطاب الدينى المهجور «2»

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 24 سبتمبر 2020 - 06:45 م

إن الظلم فى المواريث يأتى من قبل المورث، ويأتى من قبل غيره من الورثة.

كتب لأخى ولم يكتب لى
السبت:

عمت بلوى كتابة الممتلكات لبعض من يسمون ورثة على قيد حياة من يكتب، مع وضوح قوله تعالى فى آيات المواريث من سورة النساء: (مما ترك) و(مما تركتم)، و(مما تركن) والكاتب لما يترك بعد، أى أنه مازال حيا مالكا ما أنعم الله به عليه من عقارات، وأراض، وكل شيء، وحديث الصحابى المشهور الذى أراد أن يكتب لولد شيئا لم يكتب مثله لإخوته واضح، حيث ذهب إلى النبى  ومعه ولده الذى اصطفاه دون إخوته، وأراد أن يعطيه تلك الضيعة، فسأله سيدنا صلى الله عليه وسلم: أمعك غيره؟ فقال: نعم، قال: هل أعطيتهم مثل ما أعطيته؟ فقال: لا؛ فقال عليه الصلاة والسلام: لا أشهد على جور (ظلم) ثم قال: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم، والباب الذى دخل منه الرجل هو باب الهبة، أى الهدية، ولا يجوز أن يهب الرجل أو المرأة شيئا لولد له دون إخوته، وأنا أؤمن بأن هذا الواهب فى الأصل الأصيل ينبغى أن يتسع ملكه للهبة، ولما يبقى بعدها له، لكن إذا كان المسكين لا يملك إلا شقة واحدة، وعنده ثلاثة أولاد، ثم يكتبها لفلان ليتزوج فيها بعد رحيله، تاركا أخويه لله وللرسول، فهذا لا يصح؛ لأنه ظلم، والظلم حرام، بلا خلاف، إنه مسكين، لا يملك إلا تلك الجدران التى تؤويه، فماذا عليه لو ترك الأمر لمن بيده الأمر، وعاش ما عاش، ثم رحل إلى مغفرة ربه، وأخذ أولاده كل حقه فيها بأن بيعت ووزع ثمنها على كل وارث حسب نصيبه الذى حدده الله عز وجل، أو اشتراها القادر من ورثته بثمنها الذى ينطق به سوق مثلها، وأعطى كل مستحق نصيبه!
إن الظلم فى المواريث يأتى من قبل المورث، ويأتى من قبل غيره من الورثة كالحاجة التى تفتى بعد رحيل زوجها بتوزيع ميراثه بأن تقول: هذا لفلان، وهذا لعلان، أما البنت فيكفى أن علمها أبوها حتى تخرجت فى الجامعة، وجهزها، فلتحمد الله على ما نالت، ولتترك لإخوتها الذكور (الرجالة) ما يعينهم على الحياة؛ فهم غلابة، أو تصيح فى وجوههم: هكذا أوصى أبوهم عليه سحائب الرحمة، والمرحوم إذا أوصى بذلك فوصيته باطلة لا تنفذ، فهو موصٍ ظالم، وليس مشرعا حكيما؛ إذ المشرع الله وحده عز وجل، وقد بين الله سبحانه نصيب كل وارث، ولم يترك أمر المواريث لملك كريم، ولا لنبى مرسل، وإنما تولاه بنفسه جل وعلا، وقال فى خاتمة المواريث من سورة النساء: "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيا وله عذاب مهين".
ومن يتفكر قليلا فى هذا المصير الصعب لم يفكر لحظة فى ارتكاب تلك الشنيعة من الكتابة، والبيع الصورى، والوصية التى وراءها ضرر ببقية الورثة، وقد قال فيها (غير مضار) فمن أوصى بهدف الإضرار ببقية ورثته تعرض لهذا المصير؛ لأنه تعدى حدود الله فى المواريث، ويعد عاصيا لله ورسوله.
استهانة بالموت
الأحد:
ومن يسلك تلك السبيل التى لا يسير فيها من يعظم الموت الذى قال فيه ربنا فى خاتمة سورة الحجر: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" أى حتى يأتيك الموت والموت أول مراحل الآخرة التى بها نؤمن، فإن سهل سهل ما بعده، وإن صعب فما بعده أصعب، وما أظن هؤلاء الذين يتصرفون هذا التصرف يعظمون الموت الذى ليس رحلة إلى توسد التراب، والنوم، والاستجمام، وإنما هو رحلة إلى الخلود، والحساب، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ (8) الزلزلة) والعاقل لا يرى الحساب الذى يكون على الذرة الدقيقة من الشر أمرا هينا، لأن جهنم كما قال ربنا ساءت مستقرا ومقاما، ولا يتحملها مخلوق كان يفر منها فى الدنيا، وهى فى الدنيا هينة بالنسبة إلى ما وقودها الناس والحجارة والعياذ بالله، ولمن يكتب؟ وهذا الذى يكتب له لن ينفعه يوم الدين، بل سيفر منه، (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).
لكنه داء المفارقة بين الحفظ والعمل، فإنك لو سألت الناس الذين يتعدون حدود الله تعالى فى المواريث عن هذا لأجابوك، بأن أحدا لن ينفعهم، فما ينفعهم شيء سوى عملهم، فقل لهم وهذا عملكم الذى هو أسوأ من السوء بم ينفعكم؟ والمفارقة بين القول والفعل آفة الآفات، لأن مما تسفر عنه إحساسك بأن اليقين مجروح عندنا، واليقين معنى غير قابل للجراح، إذا جرح منه عضو سقط الباقى، يمكن أن يكون فى العمل جرح، ويعالج بإعادته، أو قضائه، وإصلاحه، والله عز وجل يقبل قليل العمل، ويبارك فيه، ويعفو عن كثير كما جاء فى سورة الشورى، لكنه عز وجل لا يقبل يقينا قليلا أو مجروحا ؛ لقوله عز من قائل فى مطلع سورة الزمر: (ألا لله الدين الخالص)فمن اعتقد اعتقادا صحيحا خالصا من كل شائبة وهو ما لا يقبل الله غيره لم يجاوز حدود الله تعالى فى المواريث خاصة، بل إن أمر ذكرها لا يكون إلا لمدارسة شريعة الله عز وجل، لا لتنفيذها قبل الترك، وتوديع الدنيا، والمجمع عليه فى الفقه الإسلامى أن الولد ذكرا كان أو أنثى لا يرث إلا إذا قتل مورثه لحديث (القاتل لا يرث) وكذا إذا ارتد، أما الولد العاق المجرم الذى لم يناول أباه أو أمه كوب ماء فيرث، لأنه من الورثة الذين لم يستثن الله عز وجل منهم عاقا أو تاركا للصلاة، لأنه يرث بمنحى القرابة من الميت، ولا يجوز جرأة على الله أن يهدد أحد ابنه بقوله الشائع فى ظل الخطاب الدينى الذى ننادى بتجديده (والله لاحرمك م الميراث) من ذا الذى يحرم وارثا من ميراث لا يملك فيه حرمانا ولا عطاء، ولا يجوز لوالد البنت أو البنات أن يحرم إخوته من ميراثه بحجة أنها مسكينة ضعيفة، وهم أغنياء، هذا من عك يعك، فللواحدة النصف وللأكثر الثلثان مهما بلغ عددهن، ليست هذه فتوى من عالم يؤخذ منه ويرد، وإنما ذلك تنزيل رب العالمين، وبعضهم يسأل: هل لو تنازل إخوتى عن حقهم جاز؟ والجواب أن التنازل لا أصل له، ولا يصح حذف أحد من الورثة بحال من الأحوال، بل لا بد أن يأخذ كل وارث نصيبه، ويعطيه بعد ذلك للضعيف من الورثة، وتلك ورقة أخرى، أى أن أخاك قد يتسلم نصيبه من ميراثك وقيمته ألف جنيه، ويعطى ابنتك عشرة آلاف، هذه ورقة، وتلك ورقة أخرى، أما وقد عجنت الأوراق، وصرنا نرى العم لا يعطى، والخال لا يرحم، بل والأخ لا يعطى أخته فهل يصح ذلك مسوغا لكتابة كل شىء للبنت ؛ لأن أحدا لن يعطيها؟ والجواب لا يجوز، فكل يأخذ حقه، وحسابه فى المنع على ربه.
ظلام على حياة عينه
الاثنين:
 وشاع فى الناس قول القائل الإنسان حر فى ماله يتصرف فيه كيف يشاء ما دام على حياة عينه، وهذا ظلام فى الفقه والفكر، ولو صحت تلك العبارة لما منع الله الوصية الجائرة التى قال فيها سبحانه: (غير مضار) لصحت الوصية بأكثر من ثلث التركة، فليوص بكل التركة إذن!
ليست هناك حرية مطلقة فى هذه الحياة، وإلا صرنا جميعا فى غابة غريبة عن كل الغابات، فلا أظن أن الحيوانات التى فى معروف الغابات خالية من قيود تحفظ عليها حياتها فيها، غاية ما هنالك أن الضوابط لا تعارض الحرية لا سيما ضوابط الشريعة التى يكون الامتثال لها تحقيقا للحياة السوية الزكية الطيبة بدليل قول الله ربنا: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيييكم) فأنت بامتثالك لما يدعوك الله ورسوله إليه تحقق معنى الحرية، فالحرية فى أسمى معانيها أن تكون نافعا لا ضارا معطيا لا مانعا كريما لا بخيلا عادلا لا ظالما، فعبوديتك للناس على عكس ذلك، حيث يأمرك سيدك الذى يمتلكك بقتل أو سرقة أو إغارة على أمناء، أما عبوديتك لله فالله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى، عبوديتك لبشر منتهى الذل، وعبوديتك لرب العالمين منتهى العزة وكيف يكون المرء حرا فى ماله وهو مقيد بكسبه ابتداء من حلال، وإنفاقه فى حلال، وعلى اقتصاد لا بخل ولا إسراف، وقوله تعالى فى أولى آيات المواريث: (يوصيكم الله فى أموالكم) معناه عند جميع المفسرين: يوصيكم الله فى أولادكم بحيث لا تضيعوهم بعد موتكم بأن تتلفوا أموالكم فى حياتكم، فيتكفف الناس، كما قال النبى  لسعد بن أبى وقاص رضى الله عنه وقد أراد أن يتصدق بجميع ماله شكرا لله الذى شفاه من مرضه لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة، ولم يسمح له بأن يتصدق بجميع ماله، ولا بنصفه، وأجاز له أن يتصدق بثلثه قائلا: والثلث كثير، ومن هذا الحديث استنبط الفقهاء أن الوصية لا تجاوز الثلث، ولو فرضنا أن أحدا أوصى بأكثر من ثلث ماله، ومات فلا يجوز تنفيذ وصيته إلا الثلث وفق أحكام الشريعة والقانون أيضا، فأين تلك الحرية المزعومة، وإذا كانت الحرية سبيلا لإسعاد الحر فلا تتحقق سعادته إلا بالتزام الضوابط الشرعية التى ليس منها تلك الفوضى فى المواريث، وتوزيعها قبل الترك، والكتابة لفلان، وحرمان فلان، الأمر الذى بين وجهه سيدنا رسول الله ، حين قال للرجل الذى عزم على إهداء أحد أولاده شيئا لم يهد مثله لهم: هل تحب أن يكونوا لك فى البر سواء؟
فلما قال: نعم قال له: إذن فاعدل، والأمر فى أشد الحاجة إلى هذا الخطاب الدينى المهجور ألا وهو إشاعة روح البر فى نفوس الأولاد بعدل الآباء والأمهات، حيث الشائع فى الخطاب الدينى المنشور أن الهداية من الله، وكأنه لا دخل لنا فيها، كلنا نؤمن بأن هدى الله هو الهدى، لكن من يؤمن بذلك أعان الذى يريد له الهداية على الهدى، لابد أن تتوقف المجانية فى العبادة فالله عز وجل الذى يكون الهدى منه وحده أرسل لهداية عباده رسلا مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم كتبه يلتزمون بما فيها قبل عباده، ومن هؤلاء الأنبياء من قتل، ومنهم من كاد يقتل نفسه فى سبيل دعوة الناس إلى الله عز وجل، ألا ترى إلى قوله تعالى لخاتمهم ، (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) ثم بين له وظيفته؛ فقال: (إن عليك إلا البلاغ) فبلغ  رسالة ربه، وأدى أمانته، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتم الله نعمته، وأكمل لنا دينه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لمن جاء يشفع فى رفع حد من حدود الله: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، فأنت حين تعدل بين أولادك إنما تؤدى ما عليك فى سبيل هداهم، فلا توهم نفسك بأن الهدى يأتى من الله لولدك برغم ظلمك إياه، تماما كما نريد أن يحصل ولدنا على درجة امتياز فى دراسته دون أن ننفق عليه، ودون أن نوفر له أدواته، هذا كله من الدجل فى الدين، ويجب أن نتوب إلى الله تعالى منه.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة