عندما كتب الفيلسوف والروائي الفرنسي «بول نيزان» كتابه الشهير «كلاب الحراسة» سنة 1932 لم يكن يتصور أن الأفكار التي عالجها في كتابه ليفضح بها النُخب الانتهازية في فرنسا يمكن أن يمتد أثرها كل هذه السنوات لتعرية قطاع لايستهان به من نخبنا السياسية والإعلامية ممن نصبوا أنفسهم أوصياء علي حياتنا العامة وتوجيه الرأي العام بما يخدم مصالحهم الضيقة المنحازة للرأسمالية المتوحشة وطبقات المصالح الطفيلية في انتهازية مكشوفة تحاول التخفي في خندق السلطة والدفاع الشكلي عنها، بينما تنقلب عليها في أول فرصة أو قرار تري فيه مايهدد مصالحها وانحيازاتها. ولعل المثال الأبرز لمواقفهم التي فضحت توجهاتهم ونزعت عنهم الأقنعة تجلي حين إقالة وزير العدل أحمد الزند، وإذا بهم ينقلبون علي السلطة ويعرضون بقرارها ويهاجمون الحكومة والرئيس علناً ودون تردد أو خجل اشتعلت معه قنواتهم الفضائية وأحاديثهم وتصريحاتهم وكأنهم في صدمة يحاولون خلالها استعادة الزمن الذي لن يعود. ولقد سبق أن كاتبتك عن كلاب الحراسة الجدد في أكثر من مقال، ولأن الأمر في تقديري يحمل طابعاً فلسفياً وثقافياً فنحن في حاجة لقدر من تحرير المسألة كما يقول علماء الكلام في الفقه الإسلامي أو نوع من التفكيك حتي نفهم كما يقول الفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا».
لقد أشار بول نيزان في كتابه المذكور «كلاب الحراسة» إلي وجود «فلسفات ورؤي مستقيلة- أي مخاصمة للواقع وربما منكرة له» ينتجها من أطلق عليهم «كلاب الحراسة» من البرجوازيين المحافظين الذين لا يهتمون بالمسائل والقضايا التي تعني البشر في واقعهم المعيش وحياتهم العامة.
والبرجوازية طبقة اجتماعية ظهرت في القرنين الخامس والسادس عشر، تمتلك رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج وتحاول طوال الوقت السيطرة علي المجتمع ومؤسسات الدولة للمحافظة علي امتيازاتها ومكانتها بحسب نظرية كارل ماركس، وهي طبقة انتهازية بطبعها، ورغم أن تاريخ البرجوازية حفل بتقاليد وتحفظ، فكان من البرجوازية الصغيرة من يمثلون الطبقة الوسطي، وهي الطبقة التي يقوم عليها تقدم المجتمع ونهضته، فهم أصحاب المهن والإخصائيين والمبدعين والكتاب والمفكرين، إلا أن البرجوازية الكبيرة في بلادنا تحررت من كل القيود وتوحشت لتبتلع المجتمع كله، وانضم إليها فرق من الانتهازيين الذين شكلوا برجوازية صغيرة طفيلية متطلعة تتعيش علي الغير ولاتبحث إلا عن مصالحها ومصالح أسيادها وأرباب نعمتها الكبار من البرجوازية المتوحشة، التي لايهمها إلا مكاسبها، وأنت تراهم وتري تصرفاتهم المغامرة في استغلال البسطاء برفع الأسعار والمضاربة بالدولار وتأليب المجتمع وتيئيس الناس، ولايتورعون عن خدمة مصالح أسيادهم الكبار خارج الحدود ليلعبوا دور الطابور الخامس، ويحاولون احتكار وسائل الإعلام ويتصدرون الشاشات ويبثون تفاهاتهم وترهاتهم علي عقول الناس والبسطاء.
و بشكل أدق البورجوازية هي الطبقة المسيطرة والمتحكمة في المجتمع الرأسمالي، وهي طبقة غير منتجة لكن تعيش من فائض قيمة عمل العمال، لذلك لايهمهم إلا مغازلة السلطة والقيام بأدوار التزيين والتبرير واللعب في عقول الناس والتأثير في قناعاتهم، وهم بطبيعتهم محافظون تقليديون يكرهون التجديد ويعادون الثورة، ولعل هذا واضح من برامجهم التليفزيونية وجرائدهم وحواراتهم وانحيازاتهم.
عندما تحدث عنهم بول نيزان كان متأثراً بدورهم في سرقة الثورة الفرنسية وتآمرهم علي الجمهورية الفرنسية الأولي، وفرضهم نابليون بونابرت إمبراطوراً علي جمهورية أسستها جماهير الثورة، ومارسوا الاستبداد والانتهازية والطفيلية، ونصبوا المقاصل للثوار والوطنيين، واستبعدوا من دوائر التأثير والضوء كل الكفاءات والمؤهلين، واستوظفوا واستوزروا كل محدودي العلم والقدرات وأنصاف الموهوبين، وعملوا علي أن يتصدر الصفوف الأولي مجاهيل الناس وأقلهم قدراً.
ولقد اعتبر نيزان كلاب الحراسة أصحاب فلسفات ورؤي مستقيلة أي مخاصمة للمجتمع ومصالح الناس، ذلك لأنهم قوي رجعية يعملون للحفاظ علي استغلال الطبقات الأخري من العمال والفلاحين والبسطاء وحتي الطبقات الوسطي من المتعلمين والمثقفين لتحقيق مصالحهم الأنانية علي حساب الآخرين، ودائماً يتمسحون في السلطة، ولعل هذا مايسيء للسلطة إذا تركتهم إلي جوارها أو محاولة التحدث باسمها أو الإيحاء للآخرين بقربهم من السلطة.ولذلك فهو لايراهم في كتابه إلا طفيليات، وزوائد دودية، وجراثيم اجتماعية. ونراهم نحن أخطر من ذلك وأكثر ضرراً.
ولعل أكثر مايسيء إلي عبدالفتاح السيسي وتجربته الوطنية الطموحة هم كلاب الحراسة الجدد، الذين يحرسون مصالحهم ومصالح طبقتهم وأولياء نعمتهم علي حساب البلد والرئيس ومصر أيضاً. ويحاولون أن يعيدوا عقارب الساعة للوراء، ويعملون بكل جد علي استعادة أمجادهم حين كانوا في الصفوف الأولي حول مبارك ورجال نظامه، ومن أسف فإن هواة حول الرئيس، أو بعضا منهم يمكنون لهم ذلك، فنراهم في رحلات الرئيس الخارجية ولقاءاته العامة ومناسباتنا الوطنية وتتحدث فضائياتهم باعتبارهم محتكرين حصريين لإذاعة أنشطة الرئيس وتحركاته وحتي مداخلاته. من هؤلاء؟ ومن يُمَكن لهم ذلك؟ هل مؤسسة الرئاسة، أم مكتب الرئيس، أم أجهزة الدولة؟ ومن يصر علي دعوتهم للقاءات الرئيس وحواراته والظهور في معيته، وكأن مصر عقمت إلا منهم، وهو أمر يشككنا في كفاءة رجال حول الرئيس، مالم نقل تواطؤ بعضهم بما يخصم من رصيد الرئيس الذي يراهن عليه شعبه ويأمل منه الكثير مواطنوه وعارفو دوره وأهمية وجوده رمزاً لثبات الدولة والحيلولة دون محاولات تفكيكها.
وهنا لابد وأن نشير إلي الفارق الكبير بين من نطلق عليهم دائماً «الحرس الثوري القديم» في أدبياتنا الوطنية ممن مثلوا ضميرنا الحي للحركة الوطنية عبر مساراتها المختلفة وتاريخنا النضالي الطويل، فقد كتبت لكم هنا عن بعضهم من أمثال خالد محيي الدين وحسنين هيكل وشاهندة مقلد وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وصلاح جاهين وفؤاد حداد وصلاح عبد الصبور وعبد الغفار شكر ورأفت نوار وحمدي مرسي وأبو العز الحريري ود. محمود القاضي وكمال احمد وفريد عبد الكريم واحمد الجمال وعاصم الدسوقي وعبدالعظيم المغربي واحمد الخواجة وصبري مبدي وعبدالله امام وعبد الرحمن الشرقاوي وابراهيم صبري عبدالله وفؤاد مرسي وفؤاد محيي الدين وفيليب جلاب ونبيل.... وحامد سلطان وفريدة الشوباشي وعبد العظيم ابو العطا وزكي مراد، وغيرهم من رموز الحركة الوطنية الذي حرسوا مسيرتنا الوطنية، وبين أولئك الزمرة التي تمثل مصيبة حطت علي ظهر الوطن من كلاب الحراسة الجدد الذين لايحرسون إلا مصالحهم ومصالح أسيادهم ضد مصالح الناس والوطن.