يسرى الجندى
يسرى الجندى


يوميات الأخبار

هاملت - شكسبير «١»

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 01 أكتوبر 2020 - 06:56 م

إن ما يواجهه هاملت وما يواجهنا به هو عالم افتقد المنطق.

إن "هاملت" شكسبير يجسد انتقال الأوروبيين من العصور الوسطى إلى عصر النهضة تماما كما حدث فى حكاية "كمال عبد الجواد" الذى يمثل إرهاصة انتقال مصر إلى العصر الحديث..
 إنّ النسيج الجدلى لحدث رؤيا هاملت التراچيدية يتمثل فى مستوى أولي للصراع، يبدو فى القصة نفسها، فالقصة تحدد طرفى الصراع على أنهما هاملت والملك، والقصة تتخذ حركة روائية واضحة لهذا الصراع يمكن أن نتتبعها فى خطوط بارزة. فهاملت أمير الدانمارك مُكلف من قبل شبح أبيه الملك، بالثأر من عمه الذى غدر بأبيه وقتله وإستولى على عرشه وزوجته، وبعدما يكشف الشبح لهاملت عن هذه الخيانة ويُطالب بالثأر يبدأ الصراع على هذا المستوى - فهاملت يتظاهر بالجنون من جراء فشله فى حب أوفيليا، وينجح فى التغرير بجاسوس الملك بولونيوس، ولكن الطرف الآخر فى الصراع - الملك - يرتاب فى تعليل بولونيوس ويرسل إلى هاملت صديقيه القديمين روزنكراتس وجيلد شترن، ولكن هاملت يخيب أملهما فى كشف حالته، ويبدأ فى تدبير حيلة تعرّي الملك، تلك هى تكليف مجموعة من الممثلين حضروا إلى القصر بإعداد مسرحية تَعرض خيانة مُشابهة لخيانة الملك، ولكن قبل التمثيلية يكتشف الملك وهو يتصنّت على هاملت فى حديثه إلى أوفيليا أن الحب ليس سبب تغيره، ويتشكك أكثر فى عدائه له ويعقد العزم على إرساله إلى إنجلترا ثم يأتى منظر التمثيلية لكى يحقق انتصاراً لهاملت هذه المرة إذ يكشف الملك عن نفسه دون وعى، وتتبع فرصة لانتصار نهائى إذ تُتاح لهاملت لحظة لقتل الملك وذلك بعد منظر التمثيلية مباشرةً، ولكنّا نجد هاملت يحجم عن قتله وهو يراه يصلّى، ثم ترجح كفة الملك أكثر، إذ تُتاح الفرصة أمامه بعد ذلك مباشرةً كى يحقق رغبته فى إبعاد هاملت عن المملكة وذلك حين يقتل هاملت بولونيوس عميل الملك - عن غير عمد - وهو يتجسّس عليه فى حديثه مع أمه - ويرسل هاملت فعلاً إلى إنجلترا مع صديقيه، ومعهما خطاب فيه توصية بقتله ولكن سرعان ما ترجح كفة هاملت ثانيةً، فهو يكتشف الأمر ويودى بحياة المبعوثين ويعود إلى الدانمارك، وتكون أوفيليا قد جنت وانتحرت بعد مقتل أبيها بولونيوس ويكون أخوها لايرتس آخذا فى انتظار هاملت للانتقام، وذلك بعدما هيأه لذلك الملك عندما عرف بنجاة هاملت بل وتراه يُدبر مؤامرة مع لايرتس هذا للقضاء على هاملت دون متاعب، ويمضى الصراع حتى النهاية ليقضى على طرفيه معاً إلى جانب الأم ولايرتس.
هذا هو المستوى الأولى للحدث ولكى نُدرك ما يحيل إليه فتلك هى الرؤيا، نبدأ بالنظر وبشكل واسع إلى هاملت نفسه من جهة ثم باقى الشخصيات منتقلين إلى كافة الافتراضات.
 كان حقاً مخلصاً وذا طبيعة صريحة حرة ودمث الأخلاق متواضعاً ولكنه لم يكن يتوانى فى إبداء الاستياء من النميمة أو الإيذاء كما كان ذا مزاج حاد ولكنه غير سوداوى، وكان المُحب لصديقه وإلى جانب ذلك نتذكر طَرَبَه الشاعرى بجلال الأرض والفضاء وبمواهب الإنسان العجيبة وميله الشديد الودود نحو كل ما هو نبيل أو جميل فى الطبيعة البشرية.
هذا هو هاملت ما قبل التراچيديا. وعلى هذا النحو يواجه بعد موت أبيه بموقف غريب من أمه.. تلك التى كانت متعلقة بأبيه أيما تعلق، وفية له.. لم ينقض شهر واحد وإذا بها تزوجت العم وهو رجل لا يكن له احتراماً، ولا يبدو من وراء هذا الزواج سوى رغبة بُوهيمية غليظة.. إن الأمر يبدو مرعباً لمثله، اننا نلمح إستعداداً لتصدع كلّى وليس أقل من ذلك، اننا نجد منه فى هذا الموقف حنيناً إلى الموت.
>>>
 (( ليت هذا الجسد الصلب يذوب.. فيسيل ويستحيل إلى ندى)) ويحدّثُه أن أمه زانية.. أن عمه قاتله.. وعرش الدانمارك إذن تلفه الجريمة، وكل ما يجرى حوله فى الدانمارك إنما يستند أساساً إلى خديعة قذرة..
وهنا لا نسمع وعيداً ولا تهديداً بالثأر - رغم أنه يقول كلمات تعنى هذا أمام أبيه - وإنما نسمع من خلال موقفه ككل هنا صدى مروعاً لإنهيار داخلي كامل، حيث يبدو للعالم وقد سقط فى هوة عميقة مُظلمة.
وهنا.. هنا وفى نفس اللحظة التى يتهدم فيها العالم تلقى على عاتقه تبعة اتخاذ فعل. القصاص أو العدل؟ فماذا يعنى القصاص الآن والعالم قد اختفى بنيانه ونظامه ومعناه؟ أن يتخذ فعلاً ما فهو أن يستند إلى معيار للخير والشر يحددان ملامح العالم - ولكن الارتطام أودى بملامح العالم وعليه أن يُعيد رؤيته من البداية تماما.
هل قتل الملك أو قتل أمه هو الرد الحقيقى على الموقف؟ إن ما يواجهه هاملت وما يواجهنا به هو عالم إفتقد المنطق، عالم تشمل كل دقائقه حالة تأرجح دائمة، وهو مُطالب فى مثل هذا العالم أن يحدد طبيعة الفعل الذى يجب أن يقوم به. إن الشىء الواضح هو الإحساس بوطأة ثقيلة هائلة للشر، وما الذى بعد ذلك واضح؟ وحين يضع نفسه مسئولاً إزاء هذا الشر الذى تفخر حوله فى الأرض - والسماء فأى مسئولية هى؟ وأى فعل يمكن أن يكون مرادفاً لهذه المسئولية؟
>>>
أين يبدأ الزيف.. أين يبدأ الصدق وأين ينتهى التمثيل؟ هل تُيسّر لهاملت هذه الأزمة أن يقتل كلوديوس، وهل لنا أن ننزعج لأنه لم يقتله بعدما أقحمنا نحن - بوصفنا مشاهدين - فى الدائرة المحيرة؟ لقد كانت الظروف مواتية تماماً لقتل الملك إن كانت المشكلة قتله، ولكن المشكلة أن إدانته ضائعة وسط التيه الذى دخله هاملت.. وهنا يتخذ الحدث اتجاهاً واضحاً لنقل التناقض على مستوى أشد فى الخطورة.. فمنذ هذه اللحظة التى ترك فيها هاملت الملك دون أن يقتله يبدأ فى الوضوح لنا ما تدفع إليه حركة هذا التناقض.. إنه اقتحام حركة الشر لهاملت نفسه ومحاولته أمامها.
ما معيار أى شىء. هذا عذابه، وتلك هى الصخرة التى يتحطم عليها أى معنى للحرية، وفى عملية التوتر المستمر بين حدى التناقض الذى لا يحل تتمزق إمكانية هذه الحرية. وبمعنى آخر فى هذا التوتر.. ضرورة الفعل واستحالته يسقط فى حمأة الشر نفسه. إنه يحس بطبيعته وقد فسدت بالفعل، إنه فى اللحظة التى يقف فيها ليدخل فى روع أوفيليا أنه جن - تبعاً لخطته - فما يجد من نفسه إلاّ هياجاً تنز معه صديداً ويظل يطعنها بوحشية تؤلمنا أقصى الألم، كما تؤلمه هو نفسه، إذ يصيح بها فى عجز مع نهاية الموقف ((إذهبى إلى دير وترهّبى)).
>>>
- ومن الصور الأخرى التى تتخذها هذه المحصلات صورة السقم - المرض والفساد والاعتلال العام، وهى تتخذ من خلال الإيقاع الثابت مساراً عاماً أيضاً فى المسرحية، وترى الناقدة ((سبيرجن)) أن المرض حالة مخيمة على المسرحية ((حالة من الواضح أن الفرد ليس مسئولا عنها، وأكثر من مسئولية المريض عن العدوى التى تصيبه وتقضى عليه ولكنها مع هذا تلتهم فى سيرها وتطورها ودون تحيز أو شفقة.. الفرد والآخرين، والأبرياء والمذنبين على السواء)) إن ما تنطوى تحته هذه الريبة فى الفكر والإرادة هو أساس هذا الإحساس بالاعتلال لدى هاملت.. أنه يحس فعلاً باعتلاله وسقمه من الداخل، ونلاحظه يؤكد هذا - الارتباط بالاعتلال خارجه الآخرين والدانمارك والعالم - إنه يتحدث عن الدولة التى ذهبت منها فضائل الجُندى الشريف - أبوه وعالم الدانمارك القديم - وحل محلها السياسى أو العملاء يقودونها على بركة من دم هذا الجُندى، وعرشه يحتلّه ((مُهرّج لا ملك.. ملك من مزق ورقع)) وفراش الملاك يحتلّه الدنس.
هاملت يصل إلى إدراك هذا التناقض المحتوم فى إمكان تقييم العالم من جديد واستعادة حريته كاملةً.

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة