«هيكل» يرصد الساعات الأخيرة في حياة ناصر «حبيب الملايين»
«هيكل» يرصد الساعات الأخيرة في حياة ناصر «حبيب الملايين»


نصف قرن على الرحيل..

«هيكل» يرصد الساعات الأخيرة في حياة ناصر «حبيب الملايين»

بوابة أخبار اليوم

السبت، 03 أكتوبر 2020 - 01:15 م

بعد ١٨ يـوما مـن رحـيل الزعيم والـقـائـد جـمـال عـبـد الـنـاصـر كتب الأســتــاذ محمد حسنين هيكل فى مقاله "بصراحة" صباح ١٦ أكتوبر ١٩٧٠ الساعات الأخيرة التي عاشها يوم رحيل ناصر.

بدأ هيكل مقاله باستعراض الأجواء السياسية المتوترة فى المنطقة العربية، والقتال المحتدم بين الجيش الأردنى وجيوب المـقـاومـة الفلسطينية فـى الأردن، وتناول المخطط الذى أعدته إسرائيل للتدخل فى أزمة الأردن بالاتفاق مع البيت الأبيض الأمريكى، وعلم هيكل أن الرئيس سأل عنه وأنه سوف يعاود الاتـصـال به بعد الظهر، ويقول فى المقال: "بقيت فى الأهـرام قريبا من التليفون الـذى يطلبنى عليه عـادة".

 

واستطرد: "علمت أن الرئيس جلس إلـى إفـطـاره وأكـل تفاحة ثم فنجان قهوة مع قرينته التى قالت له قبل أن ينزل إلى أول وداع رسمى ذلك اليوم فى مطار القاهرة "الأولاد سيكونون جميعا على الغداء اليوم" فسأل عن أحفاده وأخبرته أنهم جــاءوا، فقال إنه سوف يراهم جميعا على الغداء. وخرج من البيت قبل الساعة التاسعة بدقيقتين.

 

واسـتـكـمـل هـيـكـل: "في الـسـاعـة الواحدة دق جرس التليفون فى مكتبى وجانى صوته، أحسست به متعبا إلى أقـصـى حـــد، وأعــــدت عليه حديث الإجــــازة، وقـــال إنــه ســوف يستريح بعد وداع أمير الكويت، سألته عما يشعر به فقال: "أجد نفسى غير قادر على الــوقــوف"، سـألـتـه: "هــل رأيـت الطبيب؟"، قال: "كان عندى الدكتور الصاوى، وأجرى رسما جديدا للقلب وقال لى إن كل شيء كما هو".

 

قلت مستفسرا: "وآلام الـسـاق.. أمـا من دواء لها؟".. قال: "سوف أضع قدمى فى ماء دافئ به ملح، وأظن أن الألم ســوف يتحسن.. هـو طــول الـوقـوف فيما أعتقد"!. نقفز بعيدا عن التفاصيل الكثيرة التى رواها الأستاذ هيكل لنصل إلى الفقرة التى يقول فيها: "فـى وداع أمـيـر الـكـويـت، أحـــس الـرئـيـس فى الدقائق الأخيرة، أنه متعب بأكثر مما يحتمل، لكنه تماسك بجهد لا يصدق.

 وقبل أمير الكويت وهو يتصبب عرقا والــدوار يعتريه، صعد أمير الكويت إلى طائرته، والتفت الرئيس يطلب ســيــارتــه عـلـى غـيـر المــعــتــاد، كـانـت الـعـادة أن يـذهـب ماشيا إلــى حيث تـقـف سـيـارتـه وأن يحيى جماهير المـودعـين، دخـل السيارة وهـو يقول للسيد محمد أحمد "أطلب الدكتور الـصـاوى يقابلنى الآن فـى البيت"، استقل المصعد من الـدور الأول فى بيته إلى الدور الثانى، وكانت الأسرة كلها فى انتظاره، أحسوا جميعا أنه متعب ولكنه وقــف وسطهم دقيقة يـتـحـدث فـيـهـا مــع حـفـيـديـه "هـالـة وجـمـال"، ثم توجه إلـى غرفة نومه، وتلحق به السيدة قرينته وهى تسأله متى يريد الـغـداء، فقال وهـو يخلع ملابسه: "لا أستطيع أن أضع شيئا فـى فـمـى"، وجــاء الـدكـتـور الـصـاوى الذى قال لقرينته مطمئنا "لا تخافى، أظنه نقصا فى السكر".

 

كان الدكتور الـصاوي يشعر مـن أول لحـظـة أن هناك طارئا خطيرا فطلب من السيد مـحـمـد أحــمــد اســتــدعــاء الـدكـتـور منصور فايز، والدكتور زكى الرملى، كـان تشخيص الدكتور الـصـاوى أن هناك جلطة فى الشريان الأمامى، ولما كانت الجلطة السابقة قد أثرت فى الشريان الخلفي، إذن فإن الموقف دقيق وحرج، وبــوصــول الـدكـتـور مـنـصـور فايز أحست قرينة الرئيس أن هناك شيئا غير عادى اقتربت منه وهى تقول: "لا" تؤاخذنى يا دكتور، لا أقصد إساءة ولـكـن مجيئك يقلقنى، أنــت تجيء عندما يكون هناك شيء غير عادى" فقال لها الدكتور منصور: "أرجوك أن تطمئنى كل شيء بخير إن شاء االله"، وبعد قليل لحق به د.زكى الرملى.

 

كان التشخيص واحدا، وكانت الإسعافات التى بدأها د.الصاوى قبل مجيئهما مستمرة، كان الرئيس متنبها إلى كل ما يجرى، وحوالى الساعة الخامسة، بدا أن الأمـل يقوى، كان النبض قد بــدأ ينتظم، وضــربــات القلب تعود إلى ما هو طبيعى، والتقط الأطباء أنفاسهم وهم بجواره، وهو يراقبهم بابتسامة هادئة على شفتيه، كانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق بالضبط، فتحدث الدكتور منصور فايز مـع الرئيس بشأن أن يحصل عـلـى إجـــازة طـويـلـة، وقـــال الرئيس إنه كان يريد أن يذهب إلى الجبهة أولا، لكن الـدكـتـور منصور قـال إن هذا صعب، وهم الرئيس من فراشه ليسمع نـشـرة أخـبـار الخـامـسـة من إذاعــة القاهرة.

 

وأعلن الرئيس أنه لـم يجد الخبر الــذى كـان يتوقع أن يسمعه، فطلب منه الدكتور الصاوى أن يستريح، وعاد الرئيس يتمدد على فراشه، ود.الصاوى يركز بصره عليه عندما أغمض عينيه ونزلت يده من فــوق صـــدره، بعدها لـم يشعر عبد الناصر بشىء.. لم يقل كلمة، جرى الدكتور الـصـاوى هالعا وهـو ينادى د.منصور فـايـز، ووقــف كـل الأطباء حـول الـفـراش، وبأيديهم وعقولهم وكل ما يستطيعه العلم.

 

علم هيكل بكل مـا يـجـرى، وصل إلـــى بـيـت الــرئــيــس فــــرأى الـسـيـدة قرينته وهـى تمسك برأسها، وليس على لسانها "جمال..جمال"، فذهب بسرعة إلى غرفة نوم الرئيس، كان الأطـبـاء مـازالـوا حوله، والتفت إلى بقية من فى الغرفة: شعراوى جمعة، سامى شرف، محمد أحمد، وتستمر محاولات التدليك الصناعى للقلب والجـسـد الـطـاهـر المسجى يختلج، وأحـس هيكل أن الأطباء قد فقدوا الأمـــل، وجـــاء عـلـى صـبـرى وحسين الشافعى وأنور السادات، والفريق أول محمد فوزى الذى سمع أحد الأطباء يقول: "إن كل شيء قد انتهى"، فقال له: "لا.. لا يمكن.. واصلوا عملكم".

 

 انفجر د.منصور فايز باكيا، وانفجر معه كـل الأطـبـاء بـاكـين، طـوفـان من الدموع، ودخلت قرينة الرئيس إلى الغرفة المشحونة بالجلال والحـزن، أحــزانـهـا المـتـوهـجـة كـانـت كالجمر المشتعل، أمسكت يد الرئيس تقبلها وتناديه، وسمعت أحد الباكين يقول: "الرئيس.. الرئيس" فالتفتت تقول "لا تقولوا الرئيس، قولوا إنه جمال عبد الناصر وكفى، سيبقى بالنسبة لى وللناس كلهم جمال عبد الناصر"، ثم انحنت عليه تقبل يده مرة أخرى وهـى تقول: "لـم يكن لى فى الدنيا ســــواه، ولا أريـــد فـى الـدنـيـا غـيـره، ولا أطـلـب شيئا إلا أن أذهـــب إلـى جـــواره"، وأقبل أحـد الأطـبـاء يغطى وجهه فنظرت إليه متوسلة بالدموع والنشيج: "اتــركــوه لــى، أنـظـر إليه، أملأ عينى به".

 

واستدار كل من فى الغرفة خارجين، تاركين لها اللحظة الأخيرة، وحدها معه، وعندما جاءت السيارة التى تنقل جثمانه الطاهر إلى قصر القبة، كانت فى وداعه حتى الباب، وكانت كلمتها المشبوبة باللهب الحزين والسيارة تمضى بـه: "حتى بعد أن مات، أخذوه منى، لم يتركوه لى"، وانطلقت به السيارة فى جوف الليل الحزين، وسرى النبأ كعاصفة برق ورعد، وزلزال يهز البحر الأبيض ـ قلب الدنيا وبؤرة التاريخ ـ من أعماق الأعماق إلى ذرى الأمواج العالية، فى شــرق البحر الأبـيـض ـ فـى عـمـان ـ تسمرت الدبابات فى أماكنها، وخرج رجال المقاومة من خنادقهم يصرخون وينادون عليه، وأجهش حافظ أسد وزيــر الـدفـاع الـسـورى بالبكاء وهو يقول: "كنا نتصرف كالأطفال، وكنا نخطئ، وكنا نعرف أنه هناك يصحح ما نفعل ويرد عنا آثاره".

 

وفى شرق البحر الأبيض ـ فى تل أبيب ـ كان النبأ أخـطـر مـن أن يـصـدق للوهلة الأولــى، وقالت جولدا مائير رئيسة وزراء إســرائــيــل: "مــن الـــذى أطلق هــذه النكتة الـسـخـيـفـة؟"، ثـم تأكد النبأ، وخرجت جولدا مائير تشارك شعب إسرائيل فرحته بالخلاص من أعدى أعداء إسرائيل، وأصدر موشى ديان أمره إلى القوات المعدة للتدخل الإسرائيلى الأمريكى أن تتفرق. وفــى شـمـال البحر الأبـيـض، كان الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون قـــد صـعـد لــتــوه إلــــى ظـهـر حـامـلـة الــطــائــرات ســـاراتـــوجـــا.

 

ثــم توجه إلـى كابينة القيادة التى سيحل بها أثـنـاء مـنـاورات الأسـطـول الأمريكى السادس، التى كان الهدف منها أن يسمع جمال عبد الناصر فى القاهرة، صوت مدافعه، ودخل عليه مساعده هالدمان بالنبأ، وذهـل نيكسون، ثم كـان قوله بعد قليل: "لا داعـى الآن لهذه المناورة كلها"، وصمتت قعقعة السلاح على قطع الأسطول الأمريكى السادس، وطأطأت المدافع رءوسها للحدث الخطير الـذى يتعدى بآثاره كل الحدود، وران على البحر الأبيض ـ قلب الدنيا وبـؤرة التاريخ ـ سكوت كسيف، وهــدأت العواصف وارتمـت الأمواج على الشواطئ وقد استنفدت كل قواها، وكان جمال عبد الناصر فـى حـيـاتـه أكـبـر مـن الحــيــاة، وكـان جمال عبد الناصر بعد رحيله أكبر من الموت!

 بقلم: محمد حسنين هيكل من كتاب «عبد الناصر والعالم».

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة