مقامات تلاوة القرآن.. شرح رسالة السماء بـ«النغم»
مقامات تلاوة القرآن.. شرح رسالة السماء بـ«النغم»


حكايات| مقامات تلاوة القرآن.. شرح رسالة السماء بـ«النغم»

محمود مصطفى

السبت، 03 أكتوبر 2020 - 06:27 م

 

أن تبكي دون دموع، وتتزحزح أضلاعك وأنت في أشد قوتك، وتصعد روحك للسماء وأنت لا تزال تتنفس.. هنا مركز الإبداع والإمتاع حين تصعد وتهبط آيات القرآن الكريم على حنجرة السلم الموسيقي.

 

القارئ الراحل الشيخ مصطفى إسماعيل نفسه، أحد الخمسة العظماء في تلاوة وترتيل القرآن الكريم، فتح الباب أمام قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية له لكنه ربطها بقواعد التجويد والابتداء والوقف السليم.

 

وحين باغت الإعلامي طارق حبيب في برنامج أوتوجراف الشيخ مصطفى بسؤال عن انتقاد التلاوة على المقامات الموسيقية، قال قارئ الملوك: «قول سيكا أو نهاوند أو بياتي أو صبا.. قول أي نغمة في الدنيا زي ما أنت عاوز.. ما حدش له عندك حاجة.. واللي يقول ده بيغني مش بيقرأ قرآن مبيفهمش حاجة».

 

 

دفاع «إسماعيل» المستميت عن أصول التلاوة على المقامات الموسيقية ربطه بضرورة دراسة القارئ للنغمات ليعرف من أين يفتتح القراءة ثم ينتقل إلى درجات أعلى حتى (يركب المقام) لينطلق بصوته لوصول المعنى للمستمع في أفضل صورة.

 

اقرأ للمحرر أيضًا| سبَّه من فرط الإعجاب.. صلاح منصور «مجذوب» الشيخ مصطفى إسماعيل

 

ولا يخفى على أحد أن عمالقة «دولة التلاوة والمبتهلين»، كانوا بقصد وعلم أو دون ذلك يتغنون بالمقامات في التلاوة والإنشاد، فالراحل محمد صديق المنشاوي يعرف بنبرته الحزينة فيشتهر بمقام الصبا، والراحل محمود خليل الحصري يعرف بالنهاوند، فيما يجمع آخرون بين أكثر من مقام في تلاوة واحدة ويتنقل بين المقام والآخر برشاقة مثل مصطفى إسماعيل وعبدالباسط عبدالصمد.

 

 

أما المطربون والملحنون الذي ارتبطوا بأهل القرآن فهم كثر، فملحن النشيد الوطني الشيخ سيد درويش، ومن علّم موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب هو الشيخ علي محمود، وكذلك كوكب الشرق أم كلثوم من علمها الشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد؛ ويحكي الشيخ مصطفى إسماعيل أن عبدالوهاب قال له: (طول ما أنتم بتقروا قرآن إحنا بنلحن).

 

القرآن أصل الموسيقى

 

الدكتور طه محمد عبدالوهاب، خبير الأصوات والمقامات والمحكم الدولي، يرى أن أصل الموسيقى من القرآن الكريم، فالموسيقى بنيت على سلم يسمى بمقام العجم، وفي الموسيقى الشرقية يقولون عنه (عجم عشيران)، أما الغرب فيطلق عليه (دو ماجير) أو سلم (دو الكبير).. «أَثبت أن أبعاد السلم الموسيقي وتحديد النصف تون بين درجتي الـ(سي ودو) والـ(مي وفا) جاء من القرآن الكريم».

 

 

واستشهد الرجل بآيات من كتاب الله يدلل بها على صحة رأيه؛ وتحديدًا الغُنّة في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، فيقول خبير المقامات: «إنزال الماء من أعلى إلى أسفل، وإذا قالها القارئ من أسفل إلى أعلى يكون أخطأ وبالتالي لن يقدر على التحكم في طول الغُنة وسيطول منه الحرف، ولكن سيكون زمن الغُنة منضبطًا إذا قرأها بتصوير نغمي من أعلى إلى أسفل ليكون مكان نصف التون بين الـ(دو وسي) في أعلى السلم».


اقرأ للمحرر أيضًا| نرجسي ونسخة من «القذافي».. حين يصمت محيي إسماعيل وتنطق «لغة جسده»

 

أما باقي الآية القرآنية (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ) فيقدم صورة نغمية تعتمد على النصف الآخر؛ إذ يقول الدكتور طه: «إخراج النبات يكون من أسفل إلى أعلى لذلك إذا قالها القارئ بالعكس من أعلى إلى أسفل سيقلقل حرف الخاء وتكون القراءة غير منضبطة، وهذا ما اعتمدت عليه في إثبات أن السلم الموسيقي مأخوذ من القرآن، الذي بُنيت عليه الموسيقى».
 

 

 

كان لامك بن قابيل بن آدم -عليهم السلام- أول من انتبه إلى أن صوت العصافير يمثل 3 درجات موسيقية، وصوت الماء يختلف من البحر إلى النهر إلى المطر تدرجًا في الرقة، والترانيم التي استخدمت في التوراة بنيت على السلم الرباعي (3 درجات ورابعها الجواب)، وكذلك في الإنجيل، إلى أن أتى عبيد الله بن بكرة الثقفي سنة 32 هجرية، وكان أبوه صحابيًا، واكتشف أن الصوت 7 درجات والثامنة الجواب.

 

الثقفي اكتشف ذلك من خلال النغم الذي انتشر في تلك الآونة بمنطقة الحجاز وعرف باسم النغم الحُجازي، وهو ما اعتمد عليه «غيدو دي اريتزو» مؤسس الصولفاج (التدوين الموسيقي بالرمز) الغنائي أو كاتب النوتة الموسيقية.

 

ليس هذا فحسب ؛ بل إن الثقفي هو من أطلق على هذا النغم اسم (المقام) حين وجد أن كل جملة موسيقية يؤلفها عبارة عن طبقة أو درجة موسيقية تصور حالة (حزن، فرح.. ألخ)، فهو قالب صوتي يستخدمه القارئ، والفارق بين كل مقام وآخر أبعاده، أما المسميات المعروفة بها الآن فهي مسميات فارسية حينما أرادوا عمل سُلّم المقامات الشرقية فأطلقوا على درجة دو (الراست) بمعنى الأساس، ومي اسموها (سيكا).

 

اقرأ للمحرر أيضًا| «الأطفال هايصين والماميز لايصين».. تجارب سنة أولى تعليم عن بعد

 

وفي العام 300 هجرية، جاء إلى مصر محمد أبو النصر الفارابي، الفيلسوف والعالم الشهير، وعاش يسمع القرآن فقط لنحو 10 سنوات، ثم عاد إلى بلاده وألّف كتابين وهما (إحصاء الإيقاعات) و(الموسيقى الكبير)، وهذين الكتابين يعدان المرجعية لأي معهد أو أكاديمية تدرس الموسيقى في العالم إلى الآن.

 

فلسفة أداء

 

يقولون إن القارئ نصف مطرب ونصف شيخ، لكن خبير الأصوات والمقامات والمحكم الدولي، يرى أنها مقولة خاطئة، فليس كل من  يمتلك صوتًا جميلا يعد قارئًا جيدًا، بل لابد أن يكون لديه إحساس قارئ القرآن، ولكن كل قارئ يمكن أن يغني، مؤكدًا أن الموسيقار محمد عبدالوهاب له تسجيلات وهو يقرأ القرآن ولكن بأداء مغني وليس قارئ رغم أنه من أجمل الأصوات.

 

وتظهر أهمية تعلم القارئ للمقامات في شرح معنى الآية وتفسير معاني الكلمات ليجعل المستمع (يرى القرآن)، لذلك كانوا يقولون قديما أن فلانًا (حسه حلو) وليس صوته، فإذا أساء القارئ استخدام المقام المناسب قد يختل المعنى؛ فالآية الكريمة (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) لا تؤدي بمقام حزين مثل (الصبا) لأن ذلك خطأ وقع فيه كثير من القراء.

 

وفي حالة الصبا، يترك القارئ انطباعًا لدى المستمع أن النبي –صل الله عليه وسلم- كان خائفًا يبكي، والمعنى غير ذلك تمامًا؛ فكان يقولها وهو مبتسم ليطمئن صاحبه ويبشره، ببساطة المقامات فلسفة أداء.. «الموضوع ليس مغنى وإنما إظهار معنى، والفرق بين المعنى والمغنى نقطة ألا وهي التدبر، والنغمة التي لا تفيد معنى القرآن هو في غنى عنها»، بحسب خبير المقامات.
 

 

 

وهناك آيات لا تقرأ إلا بمقام محدد بحسب مقتضى حال الآية، فمقام البياتي على سبيل المثال لآيات التوحيد، والراست لآيات الجنة ووصف نعيمها، والصبا للحزن والندم، والنهاوند للمحاورة والوصف، والقوانين الربانية والأوامر من الخالق -سبحانه وتعالى- تأتي بمقام العجم الذي يطلق عليه "مقام الملوك" حيث يُقال من أعلى إلى أسفل.

 

الصوت أم التجويد؟

 

ولكن أيهما يجب أن يسبق الآخر إذا كان شخص يمتلك صوتًا جيدًا.. هل تعلم المقامات الصوتية أم إجادة التجويد؟.. وهنا للدكتور عبدالوهاب رأي مختلف؛ إذ يرى أن دراسة المقامات هي أساس القراءة (الأصل في التلاوة الصوت وليس التجويد).

 

اقرأ للمحرر أيضًا| «عم أشقية الكوميديا».. أسرار عن حياة سامي سرحان

 

ويروي أن «التجويد علم حديث، فالنبي -صل الله عليه وسلم- أُنزل عليه القرآن صوتًا لا تجويدًا وغُنّة وقلقلة، وعلمه للصحابة الكرام صوتًا أيضًا، حتى تشكيل القرآن وتنقيطه جاء في فترة لاحقة، والعلماء هم الذين تحدثوا في التجويد وأولهم الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو من قنن علم العروض وذلك سنة 150 هجرية».

 

 

«والأخذ بالتجويد حتمٌ لازمٌ.. من لم يجود القرآن آثمٌ».. 9 كلمات رأى فيها ابن الجزري سند لمن يحرمون التلاوة بالمقامات، وهو ما يرد عليه عبدالوهاب، قائلاً: «ابن الجزري هنا يقصد أهل الصلاة أي من يؤم المسلمين في الصلاة، أي أهل العلم لا العامة، لأنه إن كان يقصد العامة يكون رأيه متنافيًا مع حديث النبي –صل الله عليه وسلم-: (الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُو ماهِرٌ بِهِ معَ السَّفَرةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يقرَأُ القُرْآنَ ويَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُو عليهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْران)، ونخلص من هذا إلى أن من تصدى للإمامة وجب عليه إتقان الأحكام».

 

يتغني لا يُغني

 

خبير المقامات يؤمن بأن من يحرم التلاوة بالمقامات لم يفهم دور علم المقامات الذي يعد أحد بل وأول علوم القرآن التي استنبطت من كتاب الله لخدمته، وتحدث النبي –صل الله عليه وسلم- في هذا كثيرًا فقال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن).

 

وحين سمع أبو موسى الأشعري لم يقاطعه بل أخبره في اليوم التالي وقال له: (لقد سمعتك بالأمس.. لقد أوتيت مزمارًا من مزامير داوود)، فقال له: (يا رسول الله لو علمت بمكانك لحبرته -زينته- لك تحبيرا)، فالنبي لم يتكلم مع الصحابة في الغنن والمدود ولكن هذا توصل إليه العلماء بعد مئات السنين.

 

قناعة الدكتور طه دفعته للتفرقة بين التغني والغناء، إذ يقول: (النبي –صل الله عليه وسلم- قال يتغنى بالقرآن لا يغني والفارق شاسع بينهما، والفرق في حرف واحد وهو التاء، فالأخيرة تعني تسخير النص القرآني حسب النغمة، بينما التغني هي تحسين الصوت بتسخير النغمة حسب أحكام التلاوة.. إذن التحريم هنا يكون في حالة واحدة وهي إذا خدم القارئ النغمة على حساب الأحكام فيصير لحنًا).

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة